تحضر جزيرة فيلكا كفضاء سردي ومكاني في رواية "خادمات المقام" للكاتبة والروائية الكويتية منى الشمري، التي سبق لها أن أسبغت على روايتها السابقة "لا موسيقى في الأحمدي"، سمتاً يمنح المكان البطولة، إذ يغدو مسرحاً لمصائر أبطال العمل، لكنها في روايتها هذه "خادمات المقام" (دار الساقي)، تشيد بناءها السردي بالكامل في الجزيرة التي تتمتع بأبعاد تاريخية كثيرة، خصوصاً بعد المكتشفات الأثرية التي وجدت غارقة قريباً منها، وتعود لزمن الإسكندر الكبير، قبل سنوات.
مثلت الجزيرة التي تقع على بعد نحو 20 كيلومتراً من الكويت، غواية تناولها كفضاء أدبي وفني أكثر من مرة، في أعمال أدبية ومسرحية بينها بعض أعمال المسرحي الكويتي سليمان البسام، وفنانين آخرين، واتخذها الكاتب حمود الشايجي أيضاً فضاء لرواية "جليلة"، في رحلة تتبعت أجيالاً عدة من نجد إلى فيلكا. أما الرواية الجديدة لمنى الشمري فتركز على حقبة الخمسينيات، وتحديداً على موضوع المقام الذي اشتهرت به الجزيرة وعرف باسم مقام الخضر، وتم هدمه مرتين في الثلاثينيات ثم نهائياً في عام 1976.
مقام الخضر
يتمركز موضوع هذه الرواية على مقام الخضر، الذي تقوم على خدمته ثلاث سيدات هن منيرة وأم وحيد وماريا، بوصفه مقاماً يتبارك به الناس، ممن يأتون من الكويت ومن خارجها لزيارة الجزيرة والمقام، من أجل الحصول على البركة وليقدموا النذور التي تتلقاها خادمات المقام، وخصوصاً ماريا المرأة الحبشية التي استوطنت الجزيرة، وامتلكت مهارات تفسير الأحلام، وقراءة التعاويذ لأجل علاج مرضى أو معرفة مصائر مفقودين وغائبين في أجواء ثقافة، كانت ترى في ذلك كله كرامات من صاحب المقام، وترفل في اليقين في السحر والشعوذة.ومن حادثة اكتشاف غريقة مجهولة لأهل الجزيرة على الشاطئ، تبدأ أحداث الرواية التي تسبغ على الجزيرة والشخصيات سمتاً من الغموض، في مجتمع يميل فيه الناس لأن يمتلك كل منهم، سراً لا يبوح به للآخرين، بينما نجد أن الخيوط كلها غالباً تتوفر بين يدي ماريا التي يأتي إليها الجميع بالأسرار.
تؤوي الجزيرة الهاربين من ماضيهم، ويلجأ الهيا المحتاجون والباحثون عن كرامات الخضر، وتضم مرفأ لمراكب الصيد والتجارة، ولهذا فثمة ألفة الجوار بين أهل الجزيرة، ولكن أيضاً قد يعيش البعض مخفياً أسراره مثلما هو شأن عذبة التي جاءت هاربة من تاريخ غامض لا يعرفه إلا الردادة زبيدة، جارة بل وصديقة خادمات المقام.
أهل فيلكا
تأخذ الجزيرة في النص بعداً أسطورياً، يقوم على أجواء السحر والشعوذة والخرافة التي تبدو يقيناً لدى فئة واسعة من أهل فيلكا وسكانها، ولدى الزوار الذين يفدون إليها بوصفها مقراً لمقام مبارك يملك من الطاقة الروحية ما ييسر به للعباد قضاء حوائجهم، أو حل مشكلاتهم. وفي حالة الغياب العقلي السائدة على الجزيرة، التي تبدو وسيلة للربح لدى خادمات المقام اللائي يحصلن على مقابل توفير أماكن إقامة لزوار المقام، أو الطعام. تغدو السلوكيات في غالبيتها خاضعة لمنظومة ثقافية خاصة، تتربع الخرافة على عرشها، وتتوزع في فضائها الآثار السرية والأحجار والدماء والتعاويذ والأشباح والمخاوف والهواجس.
تمتلك ماريا الحبشية التي لا يعرف أحد كيف تخلصت من عبوديتها وأصبحت حرة، ووفدت إلى الجزيرة بهيئتها الأفريقية، وبما تضع من قلادات على عنقها لتخفي جسدها، ولتتحول إلى رمز للسحر ومطالعة الغيب والقيام بما يشبه المعجزات، فيقبل الجميع ما تقوم به باعتباره بمباركة من صاحب المقام، هذا باستثناء شخصية واحدة هي عذبة التي كبرت في الجزيرة، ووجدت في القراءة شغفاً وملاذاً أتاحا لها مطالعة كتب الجاحظ التي وفرها لها فهد، زوج منيرة من البصرة في سفرة من سفراته، وكذلك قراءة القرآن الذي جعل منها الفتاة التي يلجأ لها الأهل لتحفيظ النص المقدس لأبنائهم.
لا يقدم هذا النص الخلفيات الاجتماعية والثقافية لأهل الكويت أو لأبطال العمل بشكل مفصل، كما كان عليه الأمر في رواية "لا موسيقى في الأحمدي "مثلاً، ربما لأن حمولته الرمزية أكثر بكثير. فالنص يتكئ على سيرة أثر شهير، تباينت الحكايات المنقولة حول أسباب بنائه وكذلك أسباب هدمه، ويقدمه رمزاً للغياب العقلي والارتكان إلى الخرافة التي يرتزق منها البعض، وينحاز إلى العقلانية التي تمثلها عذبة، أو نجيبة كما هو اسمها المعروف في ماضيها الذي هربت منه إلى الجزيرة.
تتوزع نصوص الجاحظ في ثنايا السرد، وكذلك تستعين بها الكاتبة في افتتاحيات الفصول، خصوصاً بعض المقتطفات التي تقدم نقداً ثقافياً للمجتمع العربي الذي توجه إليه الجاحظ، منتقداً كسله النقدي والعقلي. بل إن ثمة افتتاحية تسبق النص كاملاً، يأتي فيها قول الجاحظ في كتاب الحيوان، "فلا تذهب إلى ما تريك العين واذهب إلى ما يريك العقل، والأمور حكمان: حكم ظاهر للحواس، وحكم باطن للعقول والعقل هو الحجة".
شخصيات نسائية
لكن هذا المستوى الرمزي كله يأتي في إطار السرد المشهدي، حيث تتعاقب الأحداث، ويماط اللثام تدريجياً عن مصائر أبطال العمل، التي يختلط فيها الواقع بالأسطورة، والأمل بالمعجزات سلاحاً ضد اليأس.
منيرة التي لا تنجب وترى في المقام أملاً لحل أزمتها يوماً، وزبيدة القابلة والمطببة التي تحمي ماضي عذبة، وتقدم خدماتها الطبية لنساء الجزيرة، و"ماريا البنية" التي تمارس السحر وتبيع الأحجار للناس اتكاء على إرث من تقديس الأحجار الكريمة، وتصنع الأحجبة وتفسر الأحلام. وأم وحيد التي مات أبناؤها جميعاً، فنذرت نذراً ألا تنجب ولداً آخر، ولكن لما ولد لها ابن سمته وحيداً، لكنه يغادر في شبابه ليحقق حلمه أن يكون أفندياً في مصر، وتظل تعيش على حلم عودته إليها يوماً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تظهر شخصيات نساء من ثقافات أخرى مثل سندس البصرية التي تصحب بعثة التنقيب الدنماركية في الجزيرة، وألونا اليهودية ابنة عزرا التي تبيع للنساء الذهب والحلي. تكشف الروائية تعددية ثقافية واجتماعية نسبية كانت تتميز بها تلك الفترة التاريخية، وربما الجزيرة على نحو خاص، بوصفها موقعاً ساحلياً ينتمي للكويت ويتوسط بين بقاع أخرى مثل بلاد فارس والعراق والبحرين، ويبدو جلياً أنه مساحة الحرية التي تتمتع بها المرأة فيها، كما يشير النص.
منحت منى الشمري طابعاً تشويقياً للسرد بسبب حالة الغموض التي سيطرت على خلفيات كل امرأة في الرواية، وخصوصاً عذبة التي يقع في غرامها ابن أحد التجار، ولكنها على رغم حبها ترفض الزواج منه. ولا يفهم القارئ إلا في نهاية العمل أسباب هذا كله، إضافة للغريقة التي بدأ بها النص وابنها الجنين الذي تتمكن ماريا من توليده من بطن الأم الميتة، فيأتي إلى الحياة من باب الأساطير، ويبقى مصيره من بين المصائر التي تمنح النص بعده الدرامي.
يكشف النص على رغم رمزيته، عدداً من الظواهر التاريخية المرتبطة بالفترة وبالبيئة الخاصة للجزيرة، كالعبودية على سبيل المثال، ووجود أبناء ديانات مختلفة وتعايشهم. وكذلك الإرث الثقافي الخاص بالتقاليد، وتأثيره القاتل على مصائر الأفراد وخصوصاً المرأة، لكنه أيضاً يرينا كيف تتشابه الخلفيات الثقافية لشعوب كثيرة، وكيف يتوزع تراث الخرافة على بقاع العالم كما لو أنه يغرف من المعين نفسه، وإن تشتت من تيقنوا فيه أو آمنوا به.