لقد انتهت فترة انتظار وريث العرش الطويلة. في لحظة وفاة الملكة إليزابيث أصبح الأمير ملكاً.
إن البساطة في خلافة السلالات الحاكمة هي أحد الأسباب التي تسمح باستمرار الملكية كمؤسسة إلى يومنا هذا. والسبب الآخر هو أنه عندما يكون وريث العرش هو نفسه رأس الدولة لا يمكن لأحد آخر أن يشغل هذا الموقع أو أن يحلم بشغله، مما يضع التاج إلى حد كبير فوق اعتبارات المشاغل السياسية اليومية ولكنه على رغم ذلك يحمل في طياته آثاراً صغيرة من عناصر السلطة.
إن الضوابط الدستورية على الملك لن تتغير مع اعتلاء الملك تشارلز الثالث العرش، وعلى الأرجح أنه لن يعمل على تليين تلك الضوابط لكنه في الغالب لن يكون متردداً في التعامل مع شؤون العامة بشكل مختلف عما كانت والدته الملكة إليزابيث تفعل، أي إن عملها كان يتم أكثر من خلال الإيحاءات وتعبيرها عن رغباتها بشكل غير مباشر. إن نصيحتها للاسكتلنديين "بالتفكير ملياً" قبل أن يدلوا بأصواتهم في الاستفتاء على استقلالهم كان من أوضح ما عبرت عنه في تدخلاتها السياسية على الإطلاق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلى أي حد سيتناسب هذا الغموض الحذر مع الاتجاه الوطني والدولي لاتباع شفافية أكبر ومحاسبة أكبر، أو حتى أن يتواءم ذلك مع الديمقراطية الدستورية نفسها في القرن الحادي والعشرين، هو سؤال جدلي لكن قد يتطلب الأمر وصول جيل جديد أو وقوع فضيحة ملكية كبرى قبل أن تبدأ مثل تلك المناقشات.
يبدو وكأن الملك تشارلز قد تراجع عن عزمه تغيير أمر واحد كان قد ناقشه في وقت سابق من حياته أي قبل نحو عقدين من الزمن وهو سعيه إلى تغيير لقبه الملكي من "حامي الدين" إلى لقب أوسع يقول إنه "حامي الأديان".
بعضهم في مثل ذلك التغيير يرى أنه خطوة غير واثقة لإنهاء ارتباط الملك بكنيسة إنجلترا وحتى مع الدين المسيحي وآخرون رأوا في نية التغيير تلك مجرد تعديل هامشي، لكن في عام 2015 تراجع تشارلز عن ذلك قائلاً إن اللقب كان جامعاً إلى حد يسمح ببقائه من دون أي تغيير.
كانت لتشارلز قضايا اهتم بها كأمير ويلز وهو من المؤكد لن يتخلى عنها الآن. كان في الماضي قد اعترف أنه كملك سيسعى للتعبير عن آرائه بشكل أكثر حذراً، وذلك التزاماً بما تمليه عليه مسؤولياته الجديدة، ولكن ذلك يدعو إلى الاعتقاد أيضاً أنه ينوي على رغم ذلك أن يتكلم عن قضايا تعتبر عزيزة على قلبه، وإن كان سيفعل ذلك بشكل يتناسب أكثر مع اللهجة الملكية.
أكان قد تراجع أم لا عن نيته تغيير لقب "حامي الدين" ليس المسألة الأهم، فمجرد التحدث بالموضوع منذ سنوات طويلة يشير إلى أنه يعي تماماً بأن البلاد التي كان قد نشأ يستعد لخدمتها قد أصبحت مختلفة جداً في نسيجها الاجتماعي وتركيبتها العرقية عن تلك التي كانت يوم تسلمت والدته زمام مسيرتها الملكية.
تظهر اهتمامات الأمير السابق أيضاً نسبة من البصيرة واستباق الأمور، فهو كان قد ربط نفسه ببعض القضايا التي تبدو مهمة للغاية في أيامنا هذه حتى إنها أصبحت أكثر أهمية اليوم مما كانت عليه عندما التزم بها كقضايا شغلته خلال فترة شبابه.
يمكنه الادعاء وعن حق بأنه كان ناشطاً بيئياً ومؤمناً بالترويج لحماية الطبيعة حتى قبل أن تدخل هذه القضايا حيز الاهتمام العام الذي تحظى به حالياً، ناهيك بالعدد الكبير من المناصرين الذي كسبته هذه الحملة اليوم.
تشارلز لديه اهتمام كبير بالموسيقى الإنجليزية التي تعود إلى مطلع القرن العشرين، وهو رسام محترف بالألوان المائية واهتم منذ فترة طويلة بفنون العمارة، إذ أدى ذوقه الخاص في هذا المجال إلى إقحامه في نزاع مع أطراف من قطاع الهندسة المعمارية في بريطانيا.
إن عداءه المعروف جداً لخطة كانت قد أعدت لتوسعة المعرض الوطني National Gallery، واعتبرها بمثابة "جمرة عملاقة توضع على وجه صديق قديم وراق". وقد قام بوضع مبادئه المعمارية والاجتماعية قيد العمل من خلال بناء "باوندبوري" Poundbury، القرية "النموذجية" التي شيدها على أرض يملكها في منطقة دورست جنوب غربي إنجلترا.
يحب سكان باوندبوري بلدتهم على رغم انتقاد أعدائه الذين يصفونها بالخليط بين فنون العمارة التقليدية، وهي انتقادات لطالما اعتبرها تشارلز إثباتاً على أنه كان محقاً. فنظرة سريعة على أفق العاصمة لندن [وناطحات السحاب المستحدثة فيها] قد تدفع الناس إلى التساؤل لماذا لم يقم الملك المقبل بالاعتراض بشكل أقوى دفاعاً عن "صديقه المحبوب وعمارته الراقية"، فهل سيمكنه أن يرفع صوته بشكل أقوى اليوم؟
اهتم تشارلز بشكل قوي بالقضايا الاجتماعية عبر مؤسسته الخيرية صندوق الأمير الخيري the Prince’s Trust، ونقل عنه أخيراً وصفه نية الحكومة نقل طالبي اللجوء إلى رواندا على أنه أمر مروع، وهو تعليق لم يتم نفيه.
إلى أي مدى سيتمكن من خلال منصبه الجديد من الضغط للتأثير بشكل أكبر في الحكومة بوصفه ملكاً وليس أميراً من خلال توجيه رسائل شخصية بشكل منتظم للوزراء؟ هذا سيكون أكثر وضوحاً مع مرور الوقت لكنه سيحظى بفرصة فريدة لوضع الأمور في نصابها والتوجه مباشرة إلى من هم في السلطة، وأيضاً رفع مستوى توقعات الرأي العام بشكل قد يصبح متناغماً مع توقعاتهم للزمن الذي نعيش فيه، ومن خلال ذلك فإنه لن يمكنه إطلاق ثورة لكنه قد يضع لبنة من لبنات التغيير.
على رغم مما يظهره تشارلز على أنه منفصل عن الواقع فإنه يبدأ مهمته الجديدة وهو على اتصال أقوى مع مواطنيه والتغييرات الاجتماعية التي اختبروها بشكل أكبر مما يعتبره البعض. أمضى تشارلز فترة لم يكن فيها سعيداً بزواجه ثم طلق زوجته ثم تزوج مرة ثانية ولديه اليوم عائلة تمثل التعددية العرقية، فحفيده ابن لسيدة ولدت من زواج مختلط عرقياً ولديه شقيق عكف على إحاطة نفسه بأصدقاء بغيضين فهو ليس غريباً أبداً على أمور التعقيدات العائلية. وبخصوص القضايا العائلية وسلوكه الشخصي فإن لديه خيارات متاحة تقع ضمن سلطاته وتتضمن قدرته على العمل لتطوير مؤسسات العرش البريطاني كي تتلاءم والمستقبل.
ورث الملك تشارلز الثالث أيضاً من والدته فكرة مؤسسة عرش تم تصغيرها أو محاولة جعل العائلة المالكة أكثر انسيابية، من خلال أن يكون الملك ودائرة عائلته الأساسية في إطار الصورة خلال المناسبات الملكية الكبرى. تلك الصورة لم تنعكس في الواقع بعد مع بقاء عدد كبير من أبناء العائلة الملكية وموظفيهم على لوائح مرتبات القصر الملكي.
بوصفه الملك ورأس العائلة الملكية يمكن لتشارلز أن يقرر كيف ستكون علاقة الأسرة الملكية ــ وعبرها مؤسسات العرش ــ مع الناس. هل سيعمل على تطوير العرش الملكي بشكل يشبه ما فعله الهولنديون والإسكندنافيون من خلال أن يتوقع كل من هم خارج الخط العائلي المباشر للخلافة أن يعيشوا حياة أقرب إلى حياة الناس العاديين؟
هل سيقرر الملك تشارلز تخفيض أو حتى إلغاء المنح الملكية (وكانت تعرف سابقاً باللوائح المدنية) وأن يمول العرش الملكي إلى حد كبير من العائدات التي لا تعتبر قليلة لممتلكاته؟ أم هل سيختار ربما مقر إقامة أكثر بساطة من قصر باكنغهام بالتالي يمكن العمل لإيجاد وظيفة مختلفة لهذا القصر؟ هل يمكن ــ أم هل علينا ــ أن نقلص الفعاليات الاحتفالية الرسمية أو حتى إلغاءها بدءاً ربما من احتفالات افتتاح الملك الدورات البرلمانية حتى وإن تم الاعتراف بقيمتها السياحية؟
وأسئلة كثيرة إضافية يمكن طرحها مثل من يمكن اعتباره مؤهلاً لحفل "زفاف ملكي"؟ هل الأميرة بياتريس أو يوجيني تقعان ضمن هذا التصنيف؟ كم من أفراد العائلة الملكية نحتاج إلى افتتاح مدارس جديدة أو مستشفيات؟ كم سيكون حجم العمل الذي قد يحوله الملك تشارلز إلى الأمير ويليام وكايت ميدلتون؟
لقد كانت الملكة إليزابيث تنظر إلى خدمتها للعرش على أنها مسؤولية تدوم حتى الموت، وذلك بعد ما جرى مع إدوارد الثامن واعتزاله الذي ينظر إليه على أنه كان عاراً. هل يمكن لتشارلز في يوم من الأيام أن يعيد الاعتبار إلى مسألة "اعتزال الملك" وأن يقوم بالتقاعد ليحيا حياة النبلاء التي يبدو أنها تليق به؟
تشارلز اعتلى العرش ملكاً في عمر الثالثة والسبعين وهي تزيد عدة سنوات على المواطنين من جيله الذين أصبحوا يحصلون على معاشات التقاعد، كم سيكون لديه من الحماسة لتطوير مؤسسة العرش أو فرض التغييرات عليها؟ لكن ومرة أخرى لقد كانت لديه عقود كي يدرس خلالها كيف سيكون دوره كملك في القرن الحادي والعشرين.
ربما قد يشعر تشارلز بالرغبة للمضي قدماً لتخوفه من أن الوقت يمضي. وكم من التغييرات يريدها مواطنو الملك تشارلز الثالث حقيقة؟ ما مدى تعلق الشعب البريطاني ليس فقط بالمظاهر الاحتفالية المرتبطة بالملكية بدلاً من تعلقهم بهالة الملك والغموض الذي يحيط بموقع العاهل؟ هل يرغب البريطانيون بمؤسسة عرش عصرية تكون أقرب إلى الناس أم مؤسسة عرش متكاملة مع كل ما يأتي معها من مشكلات أو أنهم لا يريدون أياً من هذا؟
لا يمكن اعتبار تشارلز شخصية ثورية لكنه اعتلى العرش ملكاً والخيارات التي يتخذها قد ترفع الملكية في بريطانيا أو تدمرها. مع وجود وريثين جاهزين لخلافته يمكنه أن يعمل من أجل ترك المؤسسات بحال أفضل وأكثر ملاءمة للمستقبل مما هي عليه حالياً.
أو أنه يمكنه وذلك لسوء اختياره وبسبب بعده عن رعاياه أن يغذي التحركات من أجل بديل على شاكلة التحول إلى نظام رئاسي منتخب. إن طموحاته في الأقل ستصبح واضحة في وقت قريب.
© The Independent