إذا كان المغرب يعرف بكثرة عدد مقاهيه حتى قيل إنه "بين كل مقهى ومقهى مقهى" فإن قاعات السينما لا تكاد توجد إلا بصعوبة، بعد أن تناقص عددها بشكل فادح كما تضاءل عدد روادها.
ويعزو نقاد ومهتمون بالشأن السينمائي تلك الظاهرة إلى أسباب ذاتية تتعلق بنوعية الأفلام المعروضة، وموضوعية ترتبط بالهموم الاقتصادية التي باتت تكبل المواطن البسيط، علاوة على تأثيرات التطور التكنولوجي الذي رافقه ظهور منصات رقمية تتيح مشاهدة الأعمال السينمائية في أي مكان من دون الحاجة إلى ارتياد هذه القاعات.
تكشف إحصاءات رسمية عن أن عدد القاعات السينمائية في المغرب تناقص من 247 عام 1987 إلى 31 قاعة في 2019، كما تقلص عدد الرواد من 40 مليون مشاهد فأكثر في 1987 إلى أقل من مليونين عام 2019.
في ذمة العدم
وتحول عدد من القاعات السينمائية في المدن الكبرى إلى مراكز تجارية أو مشاريع استثمارية بسبب الخسائر التي تكبدتها، بينما بات عدد آخر منها أطلالاً وأماكن مهجورة يأوي إليها المشردون ويقصدها السكارى والمنحرفون في الليل.
على سبيل المثال اختفت سينما "موريتانيا" وسط العاصمة الرباط، وتحولت قاعة "مارينيون" إلى محال تجارية، وقاعات سينمائية أخرى في الرباط تبدلت بعمارات سكنية.
في هذا الصدد يقول صاحب إحدى القاعات السينمائية سابقاً أحمد رفيع لـ"اندبندنت عربية" إن مالك القاعة السينمائية هو في نهاية المطاف مستثمر يبحث عن الربح حتى لو كان من عشاق الفن السابع وداعمي الأفلام السينمائية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأردف أن رواد قاعته السينمائية تناقصوا بشكل كبير جداً خلال السنوات الماضية، الأمر الذي كبده خسائر مادية لا يستهان بها بالنظر إلى المصاريف التي يسددها لاستمرار العمل في هذه القاعة.
وتابع أنه أدرك أن القاعات السينمائية لم يعد لها تلك الهالة التي كانت في سنوات السبعينيات والثمانينيات وحتى جزء من تسعينيات القرن الماضي، لذا أحال قاعته السينمائية إلى مركز تجاري بعد أن عمد إلى القيام بإصلاحات هيكلية في البناية تفادياً للخسائر وبحثاً عن "لقمة العيش".
ويبدو أن الحكومة المغربية أدركت احتضار القاعات السينمائية بتناقص عددها وروادها، إذ أعلن وزير الثقافة محمد المهدي بنسعيد أخيراً التزامه فتح أكثر من 150 قاعة سينمائية بحلول نهاية 2022.
وصرح المسؤول الحكومي في برنامج تلفزيوني بأن "الاقتصاد يتحرك عبر الاستثمار في القاعات السينمائية مع من يعملون فيها ومن يشتغلون وراء الفيلم من منتجين وتقنيين، وما ينتج عن ذلك من رواج"، داعياً إلى بناء ما سماه "سوق سينمائية وطنية".
هموم العيش والشاشة
يقول الناقد السينمائي مصطفى الطالب إن ظاهرة تحول قاعات سينمائية إلى عمارات ومراكز تجارية لا تزال مستمرة، مما يدل على غياب استراتيجية أو رؤية واضحة على المدى البعيد لاستعادة بعض القاعات وإنشاء أخرى بمواصفات حديثة تجتذب المواطن.
وعزا الطالب أزمة القاعات السينمائية بالمغرب إلى أسباب ذاتية وأخرى موضوعية، أما الذاتية فتتمثل في كون السينما المغربية نفسها لا تستقطب جمهوراً عريضاً لأن ما ينتج سنوياً لا يرقى إلى المستوى المطلوب، وعادة ما يستأثر فيلمان أو ثلاثة فقط باهتمام الجمهور الشاب.
وأما الأسباب الموضوعية، وفق الطالب، فتتجلى أولاً في الجانب الاقتصادي، لأن المواطن المغربي البسيط لديه همومه اليومية والمعيشية بخاصة مع ارتفاع الأسعار، إذ إن ضعف قدرته الشرائية يمنعه من الذهاب إلى قاعة سينمائية.
ولفت الطالب إلى أن "الثورة الرقمية أجهزت على ثقافة الفرجة التي تعد القاعة السينمائية مكانها الطبيعي، فبعد التلفزيون جاءت الإنترنت لتقصم ظهر السينما"، واستدرك أن "الدول الصناعية تعاملت بذكاء مع هذا المعطى واستغلته لصالح ترويج الفيلم".
وأكد أن الحل يكمن من جهة في تحسين مستوى معيشة المواطن المغربي وإرساء ثقافة سينمائية وطنية تمكنه من التصالح مع القاعات والتعامل بعقلنة مع المنصات الرقمية، ومن جهة ثانية توفير منتج سينمائي مغربي في المستوى المطلوب شكلاً ومضموناً بحيث يلامس القضايا الجوهرية والمصيرية للإنسان المغربي.
على منصات المشاهدة
الكاتب والناقد الفني فؤاد زويريق أكد أن التطور التكنولوجي في المجال السمعي - البصري أثر في نسبة الإقبال على مشاهدة الأفلام في القاعات السينمائية، خصوصاً في السنوات الأخيرة بعد ظهور منصات رقمية مختلفة خاصة بمشاهدة الأفلام.
واستطرد زويريق أن "هذا التأثير الكبير الذي سببته هذه المنصات لا يلمس في الولايات المتحدة الأميركية مثلاً أو في البلدان الأوروبية، فما زال الإقبال قوياً على القاعات السينمائية هناك، بل إن بعض الشركات المالكة للمنصات الرقمية أنشأت قاعات سينمائية خاصة بها".
وأرجع ما سماه النزيف الخطير الذي تعانيه القاعات السينمائية بالمغرب إلى عوامل عدة، منها غياب ثقافة سينمائية جادة عند الإعلام المغربي قادرة على توجيه المتلقي وتوعيته، وغياب استراتيجية واضحة لانتشال المشاهد من رداءة التلفزيون، الأمر الذي أثر بالسلب في ذائقته الفنية.
وزاد زويريق عوامل أخرى منها غياب التربية السينمائية أو الفنية عموماً في المؤسسات التعليمية، وعدم اتخاذ تدابير تحفيزية من لدن الدولة لتشجيع الاستثمار في القاعات، مثل الإعفاء من الضريبة على القيمة المضافة التي تسببت في غلق عدد من القاعات منذ تطبيقها عام 2012.
وأضاف الناقد الفني دوافع أخرى لأزمة عزوف الجمهور عن ارتياد القاعات السينمائية، من قبيل التركيز على الكم بدل الكيف في الإنتاجات السينمائية ثم عامل القرصنة. متابعاً أن وزارة الثقافة لوقف النزيف أحدثت لجنة خاصة لتجديد القاعات السينمائية باسم "لجنة دعم رقمنة وتحديث وإنشاء القاعات السينمائية"، وخصصت مبلغاً مالياً كبيراً لدعم خمس قاعات سينمائية، كما سبق لوزير الثقافة أن وعد بإنشاء 150 قاعة قبل نهاية السنة الحالية.
وتساءل زويريق "هل هذه التدابير كافية لإعادة الجمهور إلى القاعات السينمائية أم ستبقى مجرد أمنيات لدغدغة مشاعر السينمائيين ومحبي القاعات المظلمة؟".