عند تمام الساعة الثامنة والخامسة والأربعين دقيقة بتوقيت العاصمة لندن، في تاريخ الثامن من سبتمبر (أيلول)، أي بعد مرور ساعتين فقط على لحظة إعلان هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" مفارقة الملكة إليزابيث الثانية الحياة في قصر بالمورال، كانت رسالة العزاء هذه من بين أولى رسائل التعزية التي وصلت إلى بريطانيا من زعيم أجنبي. في ما يلي نص الرسالة: "لا شك أن اسم جلالتها لا يمكن فصله عن أبرز الأحداث التي خطت تاريخ المملكة المتحدة المعاصر. فعلى مدى عقود، استحقت الملكة إليزابيث الثانية وبكل جدارة حب واحترام رعاياها إضافة إلى احترام واسع النطاق في المحافل الدولية. أدعو لكم بالتحلي بالصبر والشجاعة لتحمل هذه الخسارة الفادحة التي لا تعوض، كما أرجو منكم أن تنقلوا عبارات التعاطف الصادق والدعم لأفراد العائلة المالكة وكل المواطنين في بريطانيا العظمى".
من أرسل هذه الرسالة؟ لم تكن من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرسالة التعزية البليغة والأنيقة التي أرسلها وصلت في اليوم التالي لوفاتها. ولم تكن من الرئيس الأميركي جو بايدن- علماً أن رسالة التعزية من الرئيس الأميركي والسيدة الأولى كانت أيضاً من بين أولى رسائل التعزية التي وصلت. ولم تكن تلك من أي من دول الكومنولث.
الرسالة كانت من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين- وقد تم نشرها على موقع الكرملين الإلكتروني على الإنترنت.
بالنسبة إلي، حملت هذه الرسالة في طياتها عدة مؤشرات مهمة. الأولى تكمن في أنه تم إرسالها في المقام الأول، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار العلاقات الدبلوماسية المتدهورة بين الدولتين. ثانياً، أنها كانت من بين رسائل التعزية الأولى التي وصلت. ثالثاً، أنها دونت بكلماتها نموذجاً عن اللباقة يحتذى به. وأخيراً ولكن ليس آخراً، لا بد من ملاحظة إضافة عبارة "وبجدارة". تلك الكلمة لم يكن من الضروري أن تكتب في هذا السياق.
وفق كل المعايير، ذهبت رسالة التعزية تلك إلى أبعد مما يفرضه البروتوكول بين الدول. وأنا لن أذهب إلى حد قول إن بوتين [ومن خلال الرسالة] سعى إلى فتح باب دبلوماسي- يشبه ما فعله بوضوح في الماضي عندما كان أول رئيس أجنبي يقدم تعازيه بعد الهجمات على مركز التجارة العالمي إلى الرئيس جورج بوش الابن في حينه.
جهود الرئيس بوتين ومساعيه الدبلوماسية خلال الأسابيع والأشهر الأخيرة كانت موجهة، وللضرورة أحكام، نحو [دول] الجنوب والشرق [العالميين]. وحتى إنه لو كان بصدد البحث عن أصدقاء جدد، أو أقله أن يكون بصدد السعي لكي يكون لديه عدد أقل من الأعداء، فربما تكون المملكة المتحدة آخر مكان يبحث فيه عن ذلك. فزيارته الأخيرة إلى أوزبكستان واجتماعه بالرئيس الصيني شي جيبينغ يعكسان بشكل أكبر التوجه والتركيز الروسي في الوقت الحالي.
كما أنه لا يمكنني أن أجازف في القول إن القدرة على الرد بشكل مناسب، حتى بنوع من الدفء، على وفاة رئيس دولة أجنبية خدم في المنصب طوال حياته من شأنه أن يقدم أي نوع من العوامل الملطفة التي يمكن أن تخفف من فداحة الاجتياح الروسي غير الشرعي والمتهور لأوكرانيا. فالحدثان مختلفان بشكل جذري.
ما أعتقد أنه قد يفهم من رسالة الرئيس بوتين هو شيء مختلف تماماً. فمن جهة، ربما، وفقط بقدر قليل يمكننا أن نلحظ تلميحاً خفيفاً إلى تاريخ العلاقات بين العائلة الملكية البريطانية، وآخر القياصرة الروس الذين- ومنذ ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي- قد أعيد رفع مكانتهم إلى موقع مشرف في تاريخ الدولة الروسية في أيامنا هذه.
ومن الجهة الأخرى، وبكل الأحوال، ما يمكن ملاحظته هو أقرب بقدر ما إلى نوع من الغيرة، الغيرة من الاستقرار والاستمرارية التي يمثلها العرش الملكي في المملكة المتحدة من خلال المحافظة عليه وتطويره إلى أيامنا هذه. فإذا قارنا ذلك- أي ما شهدناه على مدى أسبوعين من عملية الانتقال الرسمية والمنظمة بشكل كامل- مع ما اختبره الشعب الروسي وروسيا من اضطرابات طوال قرن كامل وأكثر. تلك العبارة "وبجدارة" التي تضمنتها رسالة بوتين ربما تم استخدامها عن قصد.
اليوم، ما من سبب واحد حتى يسمح لنا بالشعور بالفخر لما قمنا به، فروسيا ليست الدولة الوحيدة التي تبرهن كم سريع يمكن للتغيير أن يكون، أكان نحو الأفضل أو نحو الأسوأ. ولكن من الأهمية بمكان أن نطلع على رأي الدول الأخرى، ومن بينها روسيا، بمواطن القوّة ومواطن الضعف في هذا البلد، لا سيّما الدول التي وعلى غرار الملكية، تتجاوز مقتضيات الحكم اليومية. لذلك، أشعر بالأسف لأن رئيس الدولة الروسية استبعد عن لائحة المدعوين لحضور جنازة الملكة الرسمية.
نعم، كان يمكن أن يكون حضوره غير ملائم، وبوتين نفسه كان يمكن أن يتخذ قراراً صائباً برفض الدعوة (وهو أمر محتمل)، لكن المملكة المتحدة قد تركت فرصة فريدة تمر لكي تبرهن للزعيم الروسي مدى ثبات مؤسسات الحكم في المملكة المتحدة. وكان من شأن مثل تلك الخطوة أن تزيد من الرصيد السياسي البريطاني للمستقبل، وربما كان ذلك ليؤدي إلى تقديم بريطانيا كوسيط محتمل مع الدولة الروسية، عندما تقرر الدول الغربية البدء في التفاوض مع روسيا من جديد- لأنه وفي يوم من الأيام سيتحتم عليها القيام بذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن الجنازات الرسمية كانت دائماً تقدم الفرص للقاءات تسهم في إزالة سوء الفهم وفتح المجال أمام بداية جديدة في [العلاقات]. والرئيس بوتين، هو ابن الاتحاد السوفياتي، حيث لعبت جنازات الزعماء تحديداً مثل هذا الدور، على معرفة بذلك أكثر من كثيرين غيره.
إن جنازة الملكة إليزابيث هي ربما أضخم من مآتم أخرى [أقيمت على هذا المستوى]، والأمر ربما يعود بجزء منه إلى طول فترة جلوسها على العرش، وبجزء آخر بسبب تمدد الإمبراطورية السابقة ــ فيقال إن جنازتها ستكون مشابهة لعملية استقبال المملكة المتحدة لنحو أربعين رئيس دولة في زيارة رسمية في الوقت نفسه- ولكن هذه الفعاليات ستقدم أيضاً هدية فريدة لرئيسة الوزراء البريطانية الجديدة ليز تراس وحكومتها، الذين ستسنح لهم الفرصة للقاء زعماء ومسؤولين عالميين ولو لفترة بسيطة في بريطانيا.
لكن وللأسف فإنه ليس واضحاً بعد إلى أي مدى سيتمكنون من الاستفادة من هذه الفرصة. فإن لائحة المدعوين تضم رؤساء وزعماء متوجين من أنحاء أوروبا، إضافة إلى رئيس الولايات المتحدة الأميركية وتركيا والبرازيل- وحتى إمبراطور اليابان.
فإذا كانت ليز تراس تحلم بتجسيد "بريطانيا العالمية"، الدور الذي فصله سلفها، فلم يكن لها أن تتمنى بداية مواتية أفضل على الإطلاق، إلا ربما لسببين.
فإذا أخذنا في الاعتبار تنوع الزعماء الذين التزموا المشاركة في جنازة الملكة بعد أيام في لندن، هل كان حقاً مجدياً، أو مهماً أن يصار إلى وضع لائحة بالمدعوين الممنوعين من حضور الجنازة- وعلى رأس هذه القائمة دول مثل روسيا، وبيلاروس، وهي تضم أيضاً سوريا، وفنزويلا، وأفغانستان وميانمار، وباستثناء كوريا الشمالية ونيكاراغوا التي سمح لهما بحضور الجنازة ممثلتين على مستوى السفراء فقط؟
بدل إدراج فلاديمير بوتين على قائمة المدعوين لوداع إليزابيث الثانية الأخير، اختارت بريطانيا لعب دور المربية التي تضع الطفل الشقي في "الزاوية" (على طريقة لندن أو الولايات المتحدة ربما؟) لمعاقبته أمام العالم بأسره. إنما العقاب في هكذا ظرف يعمق الجرح عوض بلسمته. بالنسبة للبعض- وهذا هو السبب الثاني، لم تشمل لائحة الاستثناءات على الأقل دولة واحدة، وهي دولة كبيرة في هذا المجال.
فالصين على ما يبدو قد تمت دعوتها، ومن دون أن تعلق لندن آمالاً كبيرة على أن بكين ستقبل الدعوة. واليوم وبما أن الصين قد قررت إرسال وفد يمثلها في الجنازة ــ لكن على مستوى لا يشمل رئيس الدولة شي جيبينغ ــ تطرح الأسئلة حول عدم احترام بيكين لحقوق الإنسان، مع إشارة خاصة إلى كل من هونغ كونغ والإيغور في شينجيانغ.
فهل أدى انشغال المملكة المتحدة بالذنوب المرتكبة روسيا إلى حجب الأنظار عن أنواع الانتهاكات الخاصة بالصين؟ وهل الحكومة البريطانية ومن خلال تلك الخطوة تسعى بهدوء إلى منح الصين فرصة ثمينة على أمل تحسين أجواء التجارة معها؟ فلماذا جرت العادة في بريطانيا أن توضع العلاقات مع كل من روسيا والصين على درجات مختلفة، إلا إذا كان ذلك انعكاساً لما تقيمه لندن من اعتبارات لتفاوت قوتهما؟ وأين تقف المملكة المتحدة من زعماء دول الخليج الغنية بالنفط، في الفترة التي نرفض فيها شراء النفط من روسيا؟
إن الجنازة الرسمية للملكة إليزابيث الثانية ستكون تجمعاً فريداً لزعماء العالم على جميع المستويات، وهو تحية مناسبة تعكس جلوس إليزابيث الثانية على العرش لفترة طويلة. وبعد الجنازة وفيما سيكون المدعوون في طريقهم إلى ديارهم، فحري بالحكومة البريطانية أن تلقي نظرة أخرى على لائحة المدعوين وأن تتساءل عما تقوله اللائحة عن قيم واستمرارية السياسة الخارجية البريطانية، وما المطلوب تغييره كي تحافظ بريطانيا على مصداقيتها في عالم ما بعد "بريكست"، وما بعد العصر الإليزابيثي.
نُشر في اندبندنت بتاريخ 16 سبتمبر 2022
© The Independent