إنها ثورة، لأنها قلبت الموازين رأساً على عقب، ليس في الاقتصاد وأسواق الطاقة فحسب، بل أيضاً في السياسة والاستراتيجية الخارجية للولايات المتحدة.
ما كان للرئيس ترمب أن يعيد العقوبات على إيران لولا ثورة الصخري، وما كان له أن يفرض عقوبات على فنزويلا لولا ثورة الصخري، وما كان لإدارة بايدن أن تتخذ موقفاً معادياً لموسكو بالشكل الذي نراه لولا ثورة الصخري. نعم، استخدمت الولايات المتحدة النفط والغاز كسلاح، وهذا من حقها، تماماً كما هو حق لأي دولة أخرى. الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط والغاز في العالم ومن أكبر مصدريه. وهي من أكثر البلاد لجوءاً للعقوبات الاقتصادية في العالم وأكثرها استخداماً لسلاح النفط!
ثورة الصخري جاءت بكميات ضخمة من النفط والغاز والسوائل الغازية، وعلى الرغم من تركيز وسائل الإعلام على النفط، إلا أن ثورة الغاز الصخري وما جاءت به من غاز وسوائل غازية كانت وما زالت هي الأهم بسبب آثارها الاقتصادية الضخمة، ونتائجها السياسية على مستوى العالم.
في بداية التسعينيات وبداية الألفية أشارت كل التوقعات إلى أن استهلاك الولايات المتحدة من الغاز سيستمر بالزيادة بينما سيتناقص إنتاجها بشكل كبير، الأمر الذي يحتم عليها زيادة واردتها من الغاز بشكل مستمر، على أثر ذلك، قامت شركات النفط العالمية وعلى رأسها "إكسون موبيل" باستثمار مليارات الدولارات في قطر لبناء محطات تسييل الغاز فيها، وإرسال الغاز المسال إلى الولايات المتحدة، وتطلب الأمر بناء عدد كبير من حاملات الغاز المسال ومحطات إعادة التغويز في الولايات المتحدة، وتوقع الخبراء زيادة مطردة في واردات الولايات المتحدة من الغاز المسال، بخاصة من قطر. وفي محاولة للاستفادة من هذه التطورات، استثمرت قطر في محطة إعادة تغويز ضخمة في الولايات المتحدة.
يرى بعض الخبراء أن الولايات المتحدة أدركت النتائج السياسية المترتبة على حاجة الولايات المتحدة للغاز، وزيادة اعتمادها على الغاز المسال وقطر، فأعادت ترتيب أولوياتها الخارجية والعسكرية والسياسية، الذي نتج منه إعادة تمركز القوات الأميركية وتعزيز العلاقات السياسية مع قطر، كما عززت من وجودها بالقرب من المضائق المائية، بخاصة مضيق هرمز، مع وجود هذا المصدر الجديد للطاقة في عمق الخليج. باختصار، كان للغاز المسال القطري أثر سياسي واستراتيجي.
ظهرت بوادر ثورة الغاز الصخري في عام 2005، ولكن ما إن جاء عام 2008 حتى تبين أن الأمر أكبر مما يتوقعه الجميع، بحلول 2009، تبين أن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى استيراد الغاز المسال، ولا إلى الغاز القطري، كما خفضت وارداتها من الغاز من جارتها كندا بشكل كبير، الأمر الذي أسهم في إفلاس بعض شركات الغاز الكندية، أما بالنسبة إلى محطة إعادة التغويز التي بنتها قطر في الولايات المتحدة فكانت قد انتهت، وكل ما حصل هو أنه تم تجريب تشغليها فقط، ثم أغلقت لعدم الحاجة لها، هذا التغيير غير المعادلة السياسية أيضاً، ولكن زيادة الطلب المستمرة على الغاز مكنت قطر من تحويل ما كانت سترسله إلى الولايات المتحدة إلى دول أخرى، خصوصاً الصين والهند وكوريا الجنوبية.
صحيح أن توقف اعتماد الولايات المتحدة على الغاز القطري قلل من أهمية قطر من وجهة النظر الأميركية من ناحية معينة، ولكن تصدير قطر للغاز إلى حلفاء الولايات المتحدة ومنافسيها أعطى قطر أهمية استراتيجية، ولكن بطريقة مختلفة عن السابق، فالوجود العسكري الأميركي ومتانة العلاقات القطرية- الأميركية تعني أن الولايات المتحدة، بطريقة غير مباشرة، تحمي إمدادات الغاز لحلفائها وتسيطر على إمدادات الغاز لمنافسيها.
إلا أن الأمور تسارعت بشكل كبير بسبب تزايد إنتاج الغاز الأميركي ورخص أسعاره، وتوقف كل محطات إعادة التغويز وخسارة مليارات الدولارات، هذا الوضع أوحى للبعض بفكرة الاستفادة من البنية التحتية لإعادة التغويز وتحويل محطاتها إلى محطات تسييل، وتصدير الغاز الأميركي إلى أي مكان في العالم، وهذا ما حصل، وبنيت محطات تسييل لدرجة أن الولايات المتحدة تصدر نحو 12-13 مليار قدم مكعب يومياً، وهي كميات تقارب ما تصدره قطر حالياً.
هذه الزيادة الضخمة في صادرات الغاز المسال لم تسهم في تحسين ميزان المدفوعات الأميركي فقط، بل أسهمت أيضاً في تعزيز الأمن القومي الأميركي والسياسة الخارجية، وأدركت الدولة العميقة في الولايات المتحدة أهمية صادرات الغاز المسال فحاولت من طريق الرئيس ترمب تقليص دور روسيا في أوروبا، وكان الغاز المسال على لسان ترمب في كل اجتماع مع القادة الأوروبيين، بخاصة المسؤولين الألمان.
وما دل على دور الدولة العميقة هو أن ترمب الجمهوري خسر الرئاسة لصالح الرئيس جو بايدن الديمقراطي، الذي استمر على نهج الأول في الترويج للغاز المسال الأميركي في أوروبا، وبدا ذلك واضحاً في المعارضة الأميركية لخط أنابيب غاز "نوردستريم 2"، ومحاولة إقناع الألمان بوقفه واستيراد الغاز المسال الأميركي عوضاً عنه، وكان ذلك قبل الحرب الروسية على أوكرانيا بوقت طويل.
وجاءت الفرصة الذهبية عندما هاجمت روسيا أوكرانيا، وأوقف خط أنابيب "نوردستريم 2" نهائياً، وبدأت أوروبا في تقليص اعتمادها على الغاز الروسي لصالح الغاز المسال الأميركي.
أدرك بوتين أن ورقة الضغط الأساسية التي يحملها هي صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا، وأصبح هدفه إحداث شق في الاتحاد الأوروبي بحيث يتعامل معه بعضهم علناً أو تحت الطاولة بسبب الحاجة الماسة للغاز. أدرك الأميركيون الموضوع فأصبح هدفهم توفير كل مصادر الطاقة للاتحاد الأوروبي لمنع انقسامه، ونجحوا بتوريد الغاز المسال إلى أوروبا لدرجة أن اعتماد أوروبا على الغاز الأميركي أكبر من الاعتماد على نظيره الروسي كما أن مخزون الغاز الأوروبي ارتفع بشكل كبير استعداداً لفصل الشتاء.
خلاصة الأمر أن الدور السياسي لثورة الغاز الصخري سيذكرها التاريخ لأنها حجمت من السيطرة الروسية على أوروبا، ومنعت الاتحاد الأوروبي من الانقسام، في الأقل حتى الآن.
ولكن ماذا عن النفط؟
وهنا قد يقول قائل، إذا كان الكلام أعلاه صحيحاً، فلماذا لم يحدث الشيء نفسه مع النفط وثورة النفط الصخري؟ هنا لا بد من ذكر النقاط التالية:
1- مرة أخرى أؤكد أنه ما كان يمكن لترمب أن يفرض العقوبات على إيران وفنزويلا لولا ثورة النفط الصخري إذا الدور السياسي موجود، وما كان لترمب أن يتحدث عن استقلال الطاقة وتجاهل "أوبك" لولا ثورة الصخري.
2- مطالبة إدارة بايدن دول "أوبك"، بخاصة الخليج، بزيادة الإنتاج للتعويض عن النفط الروسي يرجع لثلاثة أمور، نوعية النفط، والموقع الجغرافي، والأمور اللوجيستية.
فالنفط الصخري من النوع الخفيف الحلو، وهذا لا يعوض عن نظيره الروسي في أوروبا لأنه من نوعية مختلفة، وموضوع النوعية غير مهم في موضوع الغاز المسال، ولكنه مهم في النفط.
3- عندما لم تستجب دول "أوبك" لمطالب بايدن لجأ لاستخدام المخزون الاستراتيجي، الذي يحتوي على نوعيات أثقل من النفط الصخري، ونتج من ذلك أمران، الأول أن المصافي الأميركية خففت مشترياتها من النفط المتوسط والثقيل من الأسواق العالمية وتركته للدول الأخرى بما في ذلك الدول الأوروبية، والثاني زيادة صادرات الولايات المتحدة من النفط الخام إلى مستويات تاريخية، وهذا ساعد أوروبا أيضاً، وحقيقة الأمر أنه لولا ثورة الصخري وزيادة إنتاج النفط في الولايات المتحدة بنحو ثمانية ملايين برميل يومياً خلال 12 عاماً، ما كان تجرأ الرئيس بايدن على السحب بكميات ضخمة من المخزون الاستراتيجي.
خلاصة القول إن الأبعاد السياسية لثورة الصخري الأميركية، كبيرة، وتضمنت استخدام النفط والغاز كسلاح، وربما سيذكر التاريخ أن هذه الأبعاد لا تقدر بثمن.