أثار انتشار قوات "فاغنر" الروسية في بعض دول غرب أفريقيا جدلاً واسعاً وتساؤلات كثيرة حول جدوى وجود هذه القوات في مناطق بعيدة من النفوذ الروسي ومدى استفادة الدول الأفريقية منها بعدما فشلت القوات الفرنسية والوحدات العسكرية الأميركية في القضاء على الجماعات الإرهابية المنتشرة في منطقة الساحل الأفريقي.
تعد مالي آخر دولة بغرب أفريقيا جذبت قوات "فاغنر" الروسية للعمل على أراضيها ضمن مهمة تدريب الجيش ومحاربة التنظيمات المسلحة، ففي نهاية العام الماضي وقعت باماكو ومجموعة شركة "فاغنر" الروسية للخدمات الأمنية الخصوصية اتفاقاً لإرسال نحو 1200 جندي لتدريب الجيش المالي مقابل حصول الشركة التي يقودها رجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوزين على مبالغ تصل إلى 10 ملايين دولار شهرياً.
الصفقة أثارت غضب فرنسا التي هددت مالي مراراً وضغطت عليها في محاولة أخيرة لإقناعها بعدم جلب "مرتزقة فاغنر"، لكن الأخيرة اعتبرت أن الاتفاق مع الشركة الروسية قرار سيادي لا يحق لأحد التدخل فيه.
وتزامن وصول جنود "فاغنر" إلى مالي مع بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، مما أثر بشكل كبير في استراتيجية عمل الشركة وأضعف انتشار جنودها في الدولة الأفريقية، بحسب عدد من الخبراء.
في المقابل، استغلت الجماعات المسلحة هذا الوضع لتعيد ترتيب صفوفها والسيطرة على أراض في المنطقة الحدودية بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو.
تقييم تسعة أشهر
تباينت آراء الباحثين حول أداء شركة "فاغنر"، فعلى الرغم من مرور فترة قصيرة على انطلاق عملها بدأت الشركة تثير كثيراً من التساؤلات والمشكلات من بينها تسميم العلاقات بين باماكو وباريس إلى حد القطيعة، فضلاً عن مطالبة مالي مجلس الأمن بعقد جلسة للنظر في اتهاماتها لباريس بارتكاب مجازر بعد العثور على مقبرة جماعية في مناطق بالقرب من معسكرات للجيش الفرنسي شمال البلاد.
كما أثارت شركة "فاغنر" جدلاً جديداً حين جلبت خبراء للتنقيب عن المعادن النفيسة جنوب مالي وقامت بمساعدة السلطات المحلية بتهجير السكان المحليين لإخلاء المنطقة من أجل بدء عمليات التنقيب عن الذهب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في هذا الصدد، يقول المتخصص في الشؤون الأفريقية إبراهيم الشيخاني إن مالي تشهد حالياً تنافساً محموماً بين الجماعات الإرهابية من جهة ومجموعة "فاغنر" الروسية من جهة أخرى على الثروات الطبيعية والمعادن، إذ إن الطرفين يركزان على مناطق التعدين في وسط البلاد وجنوبها للحصول على ثروات المناطق الغنية بالمواد الخام، ويوضح لـ"اندبندنت عربية" أن خبراء جيولوجيين لاستكشاف المعادن بدأوا في مالي عمليات التنقيب داخل المناطق التي تم تهجير السكان منها ويؤكد أن الأمر ذاته حدث في أفريقيا الوسطى، حيث دعمت "فاغنر" الرئيس فوستين أرشانج تواديرا ضد المتمردين مقابل الوصول إلى مناطق الألماس والذهب واليورانيوم.
ويضيف أن روسيا ومالي اللتين ستحتفلان في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل بمرور 60 عاماً على بدء علاقاتهما تربط بينهما اتفاقات عسكرية مهمة مكنت باماكو من الاستفادة من منح مالية وطائرات ومعدات عسكرية، مردفاً أن "روسيا استغلت توتر العلاقات بين المجلس العسكري الحاكم وفرنسا لتتقرب من مالي بالمساعدات العسكرية وتحل محل القوات الفرنسية وكان لها ما أرادت وهو بمثابة تكرار لسيناريو أفريقيا الوسطى حيث انسحبت فرنسا لمصلحة روسيا".
وعن حصيلة إنجازات شركة "فاغنر" في مالي يقول الشيخاني "ليست هناك حصيلة مهمة باستثناء التدريبات على بعض الأسلحة وتطهير بعض المناطق من المسلحين بهدف بدء عمليات التنقيب عن الذهب".
ويبلغ إنتاج مالي من الذهب الصناعي 63.4 طن فيما يبلغ الاحتياطي منه 800 طن وتعد البلاد ثالث أكبر منتج للذهب في أفريقيا بعد غانا وجنوب أفريقيا، كما تمتلك مخزوناً من اليورانيوم والمنغنيز والليثيوم والحديد وتعد ولاية ميناكا في الوسط من أغنى المناطق بالمواد الخام.
"فاغنر" بديلاً عن فرنسا
وتعيش منطقة الساحل الأفريقي اضطراباً أمنياً كبيراً بسبب انتشار الجماعات المسلحة وفشل القوات الفرنسية، فمنذ أن تدخلت باريس بشمال مالي في يناير (كانون الأول) 2013 تضاعف العنف المسلح عاماً بعد آخر وارتفع عدد القتلى المدنيين والعسكريين وكذلك عدد النازحين وانتشرت الجماعات الإرهابية ليس في مالي فقط، بل امتدت إلى بوركينا فاسو والنيجر، حتى أصبحت تهدد البلدان الساحلية في غرب أفريقيا مثل بنين وساحل العاج.
لمواجهة هذا الوضع سعت بلدان الساحل الأفريقي إلى البحث عن بدائل للقوات الفرنسية، بخاصة بعدما خرجت تظاهرات شعبية في دول عدة منددة بارتفاع عمليات العنف المسلح ورافضة الوجود الفرنسي في المنطقة.
ويعتقد محللون بأن قمم "سوتشي" الروسية أسهمت إلى حد كبير في تقريب وجهات النظر بين موسكو ودول أفريقيا جنوب الصحراء، إذ تم خلالها توقيع اتفاقات التعاون الثنائي للاستفادة من الخبرة الروسية في مكافحة التنظيمات الإرهابية.
في هذا السياق، يرى المحلل العسكري محمد الحضرمي أنه "من المبكر تقييم حصيلة إنجازات مجموعة "فاغنر" في مالي إذ إن من الضروري منحها الوقت الكافي، بخاصة في هذه المنطقة المضطربة بعد تصاعد سلسلة من الهجمات الدموية العابرة للحدود". ويشير إلى أن مواجهة الجماعات المرتبطة بـتنظيمي "القاعدة" و"داعش"، "ليست أمراً سهلاً في مالي، لأنها خبيرة في تضاريس المنطقة ولديها علاقات مع التجمعات المحلية هناك وتضغط عليها من أجل توفير بيئة آمنة لعناصرها في أي وقت، فيما المجموعة الروسية وصلت أخيراً إلى المنطقة وما زالت تنقصها الخبرة المحلية لذلك".
وعن الاتهامات التي توجه إلى المجموعة الروسية في شأن استغلال الثروة المعدنية داخل البلاد والاعتداء على النساء في القرى بتصويرهن والتحرش بهن، يقول الحضرمي إن التعاون العسكري مع روسيا ورفض الوجود الفرنسي في مالي سيكون لهما بالتأكيد تأثير في الاتهامات التي ستوجه لمجموعة "فاغنر" بخاصة خلال الفترة الانتقالية التي تعيشها البلاد.
وتأسست شركة "فاغنر" عام 2014 على يد العميد السابق في الاستخبارات العسكرية الروسية ديمتري أوتكين وظهرت للمرة الأولى شرق أوكرانيا وتعمل حالياً كشركة مستقلة في التعاقد على توريد مقاتليها لسوريا وليبيا ومالي وأفريقيا الوسطى وأوكرانيا، لكن أجهزة غربية تتحدث عن علاقتها بأجهزة الاستخبارات الروسية إذ تستهدف مناطق النفوذ الأوروبي والأميركي.