في معركة مستمرة منذ سنوات حول الرواية التاريخية في الكتب المدرسية أغلقت 150 مدرسة عربية في القدس أبوابها في وجه نحو 100 ألف طالب فلسطيني يدرسون فيها، فبعد أن أضحت إدارات المدارس المقدسية مكبلة أمام محاولات فرض مناهج إسرائيلية عليها، والتهديد بإغلاقها في حال درست المنهج الفلسطيني، تولى أولياء أمور عشرات آلاف الطلبة زمام المبادرة، ودعوا إلى إضراب شامل وعدم التوجه إلى المدارس، وذلك بعد أن بدأت الحكومة الإسرائيلية بتنفيذ سلسلة إجراءات عقابية قاسية ضد المؤسسات التعليمية العربية وأساتذتها، من أجل حذف العلم الفلسطيني والأناشيد والرموز الوطنية في الكتب، وإدخال أخرى إسرائيلية.
تجاهل التاريخ
الإضراب بحسب أولياء الأمور ليس إلا خطوة تحذيرية أولى من ضمن سيل تصعيدات قادمة "تتصدى لشطب الهوية ومحو الذاكرة الوطنية الفلسطينية، وترديد نشيد الاستقلال الإسرائيلي"، كما يقولون، فالمناهج الإسرائيلية البديلة بحسب متخصصين وتربويين تتجاهل الشعب الفلسطيني مقابل تدريس التاريخ اليهودي و"حقه في أرض الآباء والأجداد"، وتركز على أن المسجد الأقصى هو "جبل الهيكل" وأن القدس عاصمة دولة إسرائيل وأن جبال الضفة الغربية هي جبال "يهودا والسامرة".
ووفقاً لمركز الإحصاء الفلسطيني يدرس نصف الطلاب في القدس، البالغ عددهم قرابة 100 ألف طالب وطالبة في المراحل الدراسية الابتدائية والإعدادية والثانوية، في 146 مدرسة تتبع لوزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وتشمل 49 مدرسة تابعة للأوقاف الإسلامية، وتضم نحو 12 ألف طالب وطالبة، والمدارس الخاصة التي تملكها الكنائس المسيحية والجمعيات الخيرية والأفراد وتشمل 70 مدرسة، وتضم نحو 39 ألف طالب وطالبة، إضافة إلى ست مدارس تتبع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) وتضم نحو 2500 طالب وطالبة، فيما يتدفق البقية إلى المدارس التابعة لإدارة وزارة المعارف الإسرائيلية وبلدية القدس التي يبلغ عددها نحو 50 مدرسة.
وبحسب اتحاد أولياء أمور طلبة مدارس القدس ارتفع عدد الطلاب الملتحقين بالمنهج الإسرائيلي بنسبة 150 في المئة، ففي عام 2017 كان عددهم 3000 طالب فقط أما في عام 2021 فقد وصلوا إلى أكثر من 11 ألف طالب وطالبة. ويرى مراقبون أن تعدد المرجعيات التعليمية أدى إلى شرذمة الطلاب وتشتيتهم، إذ تشير الأرقام إلى أن 32 في المئة من الطلاب الفلسطينيين في القدس لا يكملون أعوام الدراسة الـ12، في مقابل نحو 1.5 في المئة فقط من الطلاب اليهود، فيما تصل نسبة التسرب المدرسي بين الطلاب المقدسيين إلى أكثر من 13 في المئة.
رئيس اتحاد أولياء أمور الطلبة في القدس زياد الشمالي يقول إن "سلطات الاحتلال تصعد منذ عام 1967 محاولات سيطرتها على حياة الفلسطينيين في قطاعات المجتمع المقدسي الأكثر حيوية وحساسية لربطها بمؤسسات إسرائيلية، من الصحة والاقتصاد وصولاً إلى التعليم والمدارس، وفي السنوات الماضية تضاعفت معاناة المقدسيين في التعليم بشكل مرعب، إذ أصبح الهم الأكبر لدى الحكومة الإسرائيلية هو حرمان الطلاب في القدس من المضامين الوطنية المرتبطة بحب القدس والأقصى، لإخراج جيل فلسطيني يعلي من قيمة الدولة اليهودية ووحدة شعب إسرائيل، مع طمس الانتماء الوطني وإحلال قيم بديلة تتعلق بالسلام والتعايش مكانها. هذه سياسة لغسل أدمغة الطلبة الفلسطينيين، عبر تقديم الحق اليهودي والتاريخي والديني في المدينة المقدسة وأسطورة الهيكل المزعوم، وبالطبع لن نسمح بذلك في مدارسنا مهما كلف الأمر من مخالفات وإغلاقات وعقوبات".
تطوير وتحسين
ويصف الفلسطينيون المحاولة المستمرة منذ سنوات لنشر المنهج الإسرائيلي في مدارس القدس بـ"الحرب الإسرائيلية على التعليم" أو ما بات يعرف بـ"الأسرلة"، بينما تنفي جهات إسرائيلية محاولات فرض منهجها في المدارس المقدسية. وقالت مديرة إدارة المعارف العربية في بلدية القدس لارا مباركي لوسائل إعلام إسرائيلية "إن إدخال المنهج الإسرائيلي يأتي ضمن خطة إسرائيلية لمنح الطلاب فرصاً متساوية للالتحاق بالجامعات الإسرائيلية بعد طلبات متكررة من السكان وعدد من المدارس"، نافية مزاعم الفلسطينيين، بقولها "نحن لا نفرض أي شيء، وهدفنا هو دعم الطلاب في القدس بشطريها الشرقي والغربي".
وقال مدير التعليم في بلدية القدس أفيف كينان لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية "نحن نحتضن بشكل حقيقي المدارس بهدف أن نعطي للطلاب أملاً، ولدينا مسؤولية أخلاقية اتجاه هؤلاء الأطفال، وأعتقد أن نظام تعليم جيد سيوفر استقراراً وأملاً في المدى البعيد. وهذا سيحسن أيضاً الأوضاع الأمنية للقلقين من الهجمات الإرهابية".
وكانت الحكومة الإسرائيلية قد خصصت بين أعوام 2018 و2022 ميزانية بلغت مليارين و100 مليون شيكل (600 مليون دولار) بهدف تقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والتنمية الاقتصادية في القدس الشرقية، منها 445 مليون شيكل (135 مليون دولار) للسنوات الخمس التي تغطيها الخطة لمواضيع تعميق المعرفة باللغة العبرية وتعزيز التعليم التكنولوجي وتوسيع نطاق التعليم غير النظامي، إضافة إلى تقديم حوافز مادية وتربوية وتحسين المناهج الدراسية الإسرائيلية، على أن تكون الحصة الكبرى للمؤسسات التي تدرس المنهج الإسرائيلي واللغة العبرية. وبحسب الخطة فإن الهدف المبتغى من هذه الميزانية هو تشجيع الطلاب العرب على الانخراط في المؤسسات التعليمية المدرجة في الخطة وزيادة أعداد الملتحقين بها.
مواجهة الإغراءات
في المقابل فإن الفلسطينيين على قناعة بأن الهدف الوحيد لهذه الخطة هو تمرير عملية سريعة لـ"الأسرلة" في جهاز التعليم الفلسطيني في المدينة، وهم يشيرون أيضاً إلى أن المشكلة الأساسية في جهاز التعليم في شرقي القدس هي عدم إنشاء صفوف ومدارس جديدة. وتزعم جمعيتا "عير عميم" و"حقوق المواطن" الحقوقيتان الإسرائيليتان أن النقص في الصفوف المدرسية في القدس بلغ نحو 2500 غرفة، فيما أكد مجلس أولياء الأمور في المدينة أن ثمانية في المئة من المدارس تتبع للأوقاف الإسلامية والسلطة الفلسطينية وقدرتها الاستيعابية معروفة ومحدودة للغاية، وتمنع زيادة صفوف دراسية فيها أو بناء واستئجار مدارس جديدة. وانتقد تقرير "عير عميم" التفسير الرسمي الإسرائيلي بأن النقص بالصفوف نابع من النقص بالأراضي، متهمين بلدية القدس باستخدام سياسات تمييزية لإبقاء نسبة الأراضي العامة في القدس الشرقية عند 2.6 في المئة فق، وهو ما نفاه مدير التعليم في بلدية القدس أفيف كينان كلياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى أثر الخطة الخمسية كشف تقرير نشرته وزارة القدس في الحكومة الإسرائيلية بداية عام 2022 عن أن 51 في المئة من الطلاب يخضعون لامتحانات البيجروت (الثانوية العامة) الإسرائيلية، في مقابل 49 في المئة يتقدمون لامتحانات الثانوية العامة للسلطة الفلسطينية.
وأشار التقرير إلى افتتاح ست مدارس و65 مدرسة تمهيدية جديدة في الشطر الشرقي من القدس، إضافة إلى تأجير تسعة مبان جديدة للمدارس التي تستخدم المنهج الإسرائيلي، وتوصيلها بشبكة إنترنت عالية السرعة، وتلقيها نحو 15 ألف جهاز حاسوب محمول، عبر 52 مساراً تكنولوجياً، مما أسهم في رفع نسب الملتحقين. وبينت الأرقام والإحصاءات المتوافرة أن نسبة الطلاب في الصف الأول الذين درسوا المنهج الإسرائيلي في القدس ارتفعت من تسعة في المئة في عام 2018 إلى 16 في المئة في 2021.
في المقابل قالت مديرة وحدة شؤون القدس في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية ديما السمان لـ"اندبندنت عربية"، إن "الأساليب الإسرائيلية تتجدد في كل عام، لأن معركة المناهج طويلة ومستمرة، وأسرلة المنهج الفلسطيني من قبل الاحتلال بدأت منذ عقود بالتهديدات وتقديم الإغراءات، وهو يستخدم أسلوب العصا والجزرة لتحقيق أهدافه، وفي خضم الإغراءات المالية الكبيرة على المدارس والطلبة المقدسيين لتبني المنهج الإسرائيلي نمنع نحن من بناء مدارس جديدة، لأن التراخيص ممنوعة، وعليه يتم استئجار مدارس وهي بالأصل عبارة عن أبنية سكنية ويتم تأهيلها قدر المستطاع، ولكن مهما فعلنا لن نحصل على بناء جيد". وأضافت أن "على المقدسيين مواجهة المخططات الإسرائيلية وتجاوز الأزمات التي تواجه التعليم في القدس بالصمود والثبات في وجه الضغوط والإغراءات".
حذف وتعديل
قبل اتفاق أوسلوا في عام 1993 كان طلاب المدارس المقدسية يدرسون المنهجين المصري والأردني، ومنذ عام 2002 بدأت السلطة الفلسطينية بطباعة مناهجها الخاصة وتدريسها، وبذريعة تنفيذ مخرجات أوسلو سارعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى التدخل في المناهج الفلسطينية. ومنذ عام 2011 أمرت الحكومة الإسرائيلية بتعديل المناهج، وحذف كل ما يتعلق بالنكبة الفلسطينية في عام 1948 والمجازر التي ارتكبت آنذاك في حق الفلسطينيين، وشطب العلم وشعار السلطة الفلسطينية، وكلمات مثل "فلسطين وشهيد وأسير ومقاومة"، كما مسحت خريطة فلسطين التاريخية بالكامل. وفي يوليو (تموز) الماضي سحبت وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية تراخيص ست مدارس في القدس، بزعم احتواء مناهجها التدريسية على "تحريض خطير"، على أن يتم منحهم ترخيصاً موقتاً لمدة عام، باعتباره مهلة لسحب "كتب التحريض"، كما وحرم نحو 6000 طالب من المواصلات في مدارس أخرى.
ومع بداية العام الدراسي الحالي تنبه الطلاب وأولياء الأمور إلى أن عدداً من الكتب الفلسطينية "حرفت بشكل ملحوظ وخطير"، بحسب تعبيرهم، ففي كتاب اللغة العربية للصف الرابع حذفت كلمة "اللاجئين"، وفي كتاب الرياضيات للصف الأول حذفت رسومات أظهرت العلم الفلسطيني و"مفتاح العودة"، وفي كتاب التربية الإسلامية للصف السادس حذفت آيات قرآنية تتعلق بـ"الجهاد". أما في كتاب الصف التاسع فحذفت وزارة المعارف الإسرائيلية صفحة كاملة من كتاب التاريخ، تتحدث عن القضية الفلسطينية والرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات. وشملت عمليات الحذف والتعديل الجديدة شطب فقرات من كتاب الجغرافيا للصف التاسع تتحدث عن اتفاقات سايكس بيكو وسان ريمو ووعد بلفور، كما وحذف للصف الثاني تعريف "بلاد الشام" من كتاب التربية الإسلامية.
من جهتها قالت وزيرة التربية والتعليم الإسرائيلية يفعات شاشا بيتون، في بيان رسمي أواخر يوليو (تموز) الماضي، "وجدنا أن المدارس تستخدم الكتب المدرسية التي تضمنت تمجيد الأسرى الفلسطينيين وكفاحهم المسلح ضد دولة إسرائيل، ونظريات المؤامرة حول منع العلاج عن المرضى والأذى المتعمد للطاقم الطبي، واتهام إسرائيل بأنها مسؤولة عن أزمة المياه في السلطة الفلسطينية ومزاعم خطيرة في شأن عمليات قتل وتهجير ومجازر عسكرية". وأضافت أن "التحريض ضد دولة إسرائيل وجنود الجيش الإسرائيلي في الكتب المدرسية للأطفال هو ظاهرة لا تطاق وسيتم التعامل معها بصرامة".