هوى سعر صرف العملة الوطنية في بريطانيا (الجنيه الاسترليني) إلى أدنى مستوى له منذ منتصف الثمانينيات مع رد فعل الأسواق على السياسة الاقتصادية لحكومة رئيسة الوزراء ليز تراس.
ووصل سعر الاسترليني إلى دولار واحد وتسعة سنتات في تعاملات آخر أيام الأسبوع، الجمعة 23 سبتمبر (أيلول)، على رغم رفع بنك إنجلترا (المركزي البريطاني) سعر الفائدة بثلاثة أرباع النقطة المئوية (0.75 في المئة) لتصبح نسبة الفائدة 2.5 في المئة، الخميس، لكن إعلان وزير الخزانة في حكومة تراس، كوازي كوارتنغ، الميزانية التكميلية، الجمعة، أمام البرلمان وما تضمنته من تخفيضات ضريبية على شريحة أصحاب الدخول الكبيرة والشركات والأعمال (أو نسبة واحد في المئة من البريطانيين كما عنونت وسائل الإعلام في تغطيتها لبيان الميزانية) أجج المخاوف من ارتفاع معدلات الدين الحكومي إلى مستويات غير مستقرة، الأمر الذي جعل المستثمرين يقبلون على البيع الهائل للسندات البريطانية وللجنيه الاسترليني.
ومع أن سعر الجنيه الاسترليني يهبط منذ فترة، وفقد ما يقارب خمس قيمته أمام الدولار الأميركي منذ بداية هذا العام، فإن الهبوط، الجمعة، بعد إعلان الميزانية التكميلية جعله يقترب سريعاً من التساوي مع الدولار.
وتراهن ليز تراس ووزير خزانتها على أن سياسة تشجيع الأثرياء والشركات والأعمال ستعيد الاقتصاد البريطانية للنمو من حال الركود الفعلي تقريباً التي يشهدها. فإن الأسواق لا تثق في أن خفض الضرائب والاقتراض بعشرات المليارات في وقت ترتفع كلفة الدين العام البريطاني يمكن أن تؤدي إلى الانتعاش والنمو.
دولة نامية
تعليقاً على إعلان الميزانية التكميلية وسياسة حكومة ليز تراس الاقتصادية بشكل عام، قال وزير الخزانة الأميركي السابق لاري سمرز في مقابلة مع تلفزيون "بلومبيرغ"، "تتصرف بريطانيا مثل دولة صاعدة اقتصادياً ما يؤدي إلى تحولها لدولة نامية. وسيذكر التاريخ بريطانيا على أنها الدولة التي اتبعت أسوأ السياسات الاقتصادية من بين الدول الكبرى منذ زمن طويل"، لكن وزير الخزانة البريطاني علق في مقابلة مع صحيفة الـ"فايننشال تايمز" على رد فعل الأسواق بقوله إن "الأسواق تتقلب طوال الوقت. من المهم أن نحافظ على هدوئنا ونركز على الأهداف طويلة الأمد". والأهداف طويلة الأمد هي السعي إلى أن يحقق الاقتصاد نمواً بنسبة 2.5 في المئة، كما قال أمام النواب في مجلس العموم (البرلمان البريطاني)، الجمعة.
وتضمن إعلان الميزانية التكميلية إلغاء الشريحة الضريبية على أصحاب الدخول العالية، وإلغاء الزيادة التي كانت مقررة في ضرائب الشركات وخفض مستقطعات التأمينات الاجتماعية التي يدفعها العاملون وأصحاب الأعمال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقدر "معهد الأبحاث المالية" البريطاني أن معدل الاقتراض الحكومي سيصل إلى أكثر من 206 مليارات دولار (190 مليار جنيه استرليني) هذا العام، ليصل إلى أعلى مستوى اقتراض سنوي للمرة الثالثة منذ الحرب العالمية الثانية، بعد إعلان خفض الضرائب على الأغنياء وتمويل الخفض بالاقتراض العام، والذي سيزيد ديون الخزانة بنحو 49 مليار دولار (45 مليار جنيه استرليني)، هذا فضلاً عن الاقتراض لتمويل كلفة برنامج دعم شركات الطاقة لخفض سقف الأسعار في الفواتير للمستهلكين في البيوت والشركات والمصانع، والذي سيكلف الخزانة ما قد يصل إلى 163 مليار دولار (150 مليار جنيه استرليني).
وما تخشاه الأسواق، أن الاقتراض الهائل الذي تقدم عليه الحكومة البريطانية يأتي في وقت ارتفعت كلفة الدين العام 10 مرات في نحو عام من نسبة 0.4 في المئة العام الماضي إلى أربعة في المئة حالياً. ومما يزيد من كلفة الدين البريطاني إقدام المستثمرين على التخلص من سندات الخزانة البريطانية بكثافة.
ركود وتضخم وفائدة عالية
وفي حين رأى "بنك إنجلترا" أن الاقتصاد البريطاني ربما يكون في حال ركود بالفعل، أصر وزير الخزانة كوازي كوارتنغ في مقابلة مع "بي بي سي" على أن الركود سيكون بسيطاً وقصير الأمد، مكرراً توقعه بالنمو نتيجة السياسات الاقتصادية لحكومة تراس وخفض الضرائب وإلغاء القيود على مكافآت العاملين في القطاع المصرفي وغيرها من الإجراءات، لكن مختلف ألوان الطيف السياسي في بريطانيا تتشكك في خطة حكومة تراس، ليس فقط بين صفوف المعارضة، بل من حزب "المحافظين" الحاكم نفسه. ونقلت الـ"فايننشال تايمز" عن وزير سابق من حزب "المحافظين" وصفه خطة وزير الخزانة بأنها "متهورة وانتحار سياسي".
وانتقد عدد من كبار أعضاء حزب "المحافظين" الاقتراض الهائل لتمويل خفض الضرائب وتجميد سقف الأسعار في فواتير استهلاك الطاقة، مشككين في أن يؤدي ذلك إلى النمو الذي توقعه كوارتنغ، فضلاً عن أن خفض الضرائب سيؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم أكثر، مما يصعب مهمة "بنك إنجلترا" في كبح جماح التضخم.
وقال "المعهد الوطني للأبحاث الاقتصادية والاجتماعية" إن الاقتراض الإضافي من قبل الحكومة قد يؤدي إلى جعل الركود أقصر زمناً، لكن سيكون على البنك المركزي رفع الفائدة أكثر إلى نسبة خمسة في المئة على الأقل لوقف ارتفاع التضخم.
ومن شأن موقف السوق من السياسات الاقتصادية لحكومة ليز تراس ووزير خزانتها كوارتنغ التي ستؤدي إلى زيادة الدين العام بشكل غير مستدام وتذكية ارتفاع التضخم، بالتالي ارتفاع أسعار الفائدة، أن يجعل الضغوط على الجنيه الاسترليني مستمرة. وإذا شهدت العملة البريطانية مزيداً من الانخفاض الأسبوع المقبل، ستصل قيمتها إلى جنيه للدولار، بل ربما تسلك مسار العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) وتهبط عن مستوى دولار للجنيه الاسترليني.