المدن العربية أنواع وأشكال، منها المبهر ومنها المفعم بالأصالة ومنها الغارق في الحداثة، لكن سمة ما تجمع بين عدد منها، مخاصمة كثير منها لقواعد التخطيط العمراني.
بعضهم يعتقد بأن الشوارع الواسعة أو التجمعات السكنية الراقية المسورة أو المباني الذكية تفي بقواعد التخطيط العمراني، وبعضهم الآخر يعتبره رفاهية لا يملكونها، أو إهدار وقت يقتص من قطار التنمية، أو أمراً هامشياً لا يضاهي عملية العمران في أهميتها وثقلها.
ثقل التخطيط العمراني
لكن ثقل التخطيط العمراني في عدد من المدن العربية، أو بالأحرى قلته وأحياناً انعدامه، آخذ في الكشف عن وجوه قبيحة عدة. من الأردن ومصر والعراق شرقاً، إلى المغرب والجزائر غرباً، مروراً بالسودان، تقف المدن العربية على قلب سمات شبه متطابقة ومشكلات شبه متكررة، لكن باختلافات بسيطة يفرضها المكان ويمليها السكان.
مدن وعواصم بدأت مثالية تفي بحاجة سكانها وتوفر لهم الخدمات الأساسية وكذلك الثانوية عبر بنى تحتية وفوقية جيدة وجدت نفسها في حال يرثى لها بعد أعوام من أجرة داخلية غير مدروسة وزيادة سكانية غير محسوبة. إرث معماري استعماري بهي الطلعة، جميل الواجهة، لكنه غاص وغرق بفعل تغير الأحوال وتبدل الحاجات من دون توافر الموارد والأفكار فنمت المدن عشوائياً.
ومع النمو العشوائي ظهرت الآثار العكسية للحلول المسكنة للمشكلات الآنية عبر السكوت عن البناء على أرض زراعية هنا، أو غض الطرف عن وضع اليد على أراضي الغير هناك، أو خوض الدولة نفسها مضمار المشاريع العمرانية المتعجلة لحل الأزمة الآن وغداً "يحلها ربنا".
وفي القلب من التمدد العشوائي تكمن ألغام عمرانية واجتماعية واقتصادية تنتظر اللحظة المناسبة لتنفجر. تقسيم طبقي للمناطق الحضرية، من يملك ينعم بمسكن ومن لا يملك يحتمي بمأوى. وبين المسكن والمأوى هوة مليئة بفروق الخدمات والبنى التحتية وبالطبع المتطلبات والتطلعات التي تلوح براية العدالة الاجتماعية العليلة.
وعلى ذكر العلة فإن التطرق إلى المدن العربية وتخطيطها العمراني أو بالأحرى اللاتخطيط العمراني لا يكتمل من دون ذكر ما يعتري المنطقة من صراعات وحروب تؤدي إلى موجات هجرة ونزوح تدلو بدلوها هي الأخرى في شأن التخطيط العمراني العربي، هذا الملف الحائر بين أرض الواقع العمراني الصعب والتحليق في آفاق التخطيط المرجو.
القاهرة... الخرسانة الجاثمة
المحلق أعلى القاهرة بطائرة يرى مشاهد أقرب ما تكون إلى الخيال. كتل خرسانية ضاعت معالمها وطمست شوارعها لفرط الالتصاق. طرق طويلة تقطع المدينة طولاً وعرضاً ومنها ما هو مشيد فوق بعضه بعضاً. بقع خضراء متناثرة وأخرى زرقاء في ما يبدو أنه منتجعات سكنية تختلف عن الكتل بنية اللون مترامية الأطراف. وفجأة تباغتك صحراء شاسعة وكأن المشاهد السابقة كانت خيالاً أو أضغاث أحلام.
حلم القاهرة ذات التخطيط العمراني المحكم والتصور الجمالي المتقن يتأرجح بين واقع أصبح في خبر كان وحاضر حار علماء التخطيط العمراني في وصفه، ربما لأنه غير مسبوق.
سبقت مصر دول المنطقة وغالبية دول العالم في وضع نظام متكامل للتخطيط العمراني لمدنها السكنية. المصريون القدماء اتبعوا ما يسمى "التخطيط الشبكي" في تخطيط المناطق السكنية. شوارع تتقاطع في زوايا قائمة على مسافات متساوية من بعضها بعضاً، بيوت مقسمة إلى مجموعات سكنية وكل مجموعة لها صوامع القمح الخاصة بها. كان تخطيطاً محكماً ومدروساً.
ومرت الدهور والسنوات وخاضت مصر عصوراً تاريخية وسياسية واستعمارية عدة وبقيت مدنها وقراها تتميز بسمات معمارية مميزة ومتفردة ومدروسة ومخططة. وتشير أستاذة الهندسة المعمارية في جامعة الزقازيق المصرية هايدي شلبي في بحث عنوانه "فاعلية التخطيط العمراني في مصر" إلى أن مصر من أوائل الدول التي وضعت لنفسها نظاماً متكاملاً للتخطيط العمراني وأن هذا النظام يتضمن مؤسسات قائمة على عملية التخطيط وأخرى مهمتها التنفيذ مستندة إلى قوانين منظمة، لكنها كذلك توضح أنه على رغم التاريخ الطويل والممارسة الفعلية لمهنة التخطيط العمراني فإن حال العمران في البلاد شهدت تدهوراً عاماً شديداً.
بين تمدد لأحياء عشوائية وتحميل أضعاف أعداد السكان على الخدمات والمرافق واعتداء العمران على المناطق الخضراء والمفتوحة وارتفاع كثافات البناء بشكل غير مسبوق واختلاط استخدامات الأراضي بطريقة مفرطة في العشوائية والاختناق المروري والتلوث البيئي وارتفاع حدة الضوضاء وانتشار القمامة في الشوارع تقف المدن العتيقة التي كانت يوماً جميلة منسقة مخططة ذات نسق معماري واضح ومتناغم مع المحيط وهي حائرة بين ثقل عقود من التمدد العشوائي وتدخلات جراحية يصفها البعض بالسريعة والمتسرعة، حيث علاج آثار عقود من العشوائية والفساد والإهمال بطمس ما تبقى من ملامح المدينة وذاكرتها.
ذاكرة مصر العمرانية تطرح نفسها يومياً هذه الآونة بين فريق مهلل لحركة البناء والتعمير الكبرى التي تشهدها البلاد وآخر غاضب ناقم صب غضبه على حركة التطوير العمراني برمتها.
واقع الحال يشير إلى أن القاهرة الكبرى (القاهرة والجيزة والقليوبية) تئن بحملها البشري وقوامه 25.5 مليون مصري ومصرية، تحظى القاهرة وحدها بـ10 ملايين منهم بعدما كان تعدادها 3 ملايين نسمة عام 1970. تزامناً وربما بسبب هذه الزيادة الرهيبة في عدد السكان، أخذ نسيح القاهرة المخططة بروعة معمارية على رغم تراوحها بين الإسلامية والخديوية والأوروبية من فرنسية وإيطالية وإنجليزية يتضاءل ويتلاشى شيئاً فشيئاً أمام هجمة البناء العشوائي والتمدد العمراني بالغة القبح منزوعة الذوق التي أصبحت سمة المدينة العتيقة.
المدينة العتيقة، تحديداً وسط القاهرة، يبدو كأنه مخزن للذكريات الجماعية للأجيال الأكبر سناً. إنها الأجيال التي شهدت القاهرة والإسكندرية وقت كانتا تفخران بطرزهما المعمارية المتناغمة والمتناسقة على رغم اختلاف مصادرها وأزمنتها.
تحت عنوان "متاهة القبح في مصر" كتب مستشار "مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية" نبيل عبدالفتاح "يبدو وسط المدينة كمركز للذاكرة المعمارية التي غابت ومقاييسها الجمالية في إطار التخطيط للأنسجة المعمارية والفراغات ونمط المقاهي الأوروبية على الطريقة الفرنسية أو المقاهي الشعبية. وغالباً تثير الأفلام القديمة حنيناً مشوباً بالأسى والحزن والشكوى من ضياع الحال الحضارية في البناء الجميل والسلوك الاجتماعي الراقي المصاحب لها".
ويستطرد عبدالفتاح قائلاً إن هناك أيضاً الحنين للإسكندرية وكيانها الكوزموبوليتاني التي وصفها الممثل الفرنسي إيف مونتان عام 1951 بأنها "أجمل من مارسيليا"، لكن تحولت الإسكندرية إلى مدينة "مريفة" (تطغى عليها عادات الريف) مع إضافة كتل إسمنتية قبيحة على شواطئها وكباري معلقة وانتهاكات لحرمة البحر وفضاءاته.
هجرة الريفيين غير المدروسة وإقامتهم غير المخططة في المدن وتوسعهم عددياً بشكل كبير شوه الأنسجة المعمارية فائقة الجمال، إضافة إلى أن الوافدين الجدد لم يقيموا للطرز المعمارية وأهمية الحفاظ والإبقاء عليها وزناً أمام الهدف "الأسمى" ألا وهو كسب الرزق، وهذا مفهوم.
لكن غير المفهوم هو ترك أبواب البناء والتمدد المعماري مفتوحة على مصاريعها من دون حساب أو تدقيق لنحو ستة عقود. بشائرها بدأت على استحياء عقب الحرب العالمية الثانية واتسع نطاقها مع ثورة يوليو (تموز) 1952 وعقب هزيمة عام 1967، ثم تفجرت تحت رعاية الفساد والرشوة وبمباركة الإهمال واللامبالاة حتى أصبح كل حي قديم محاطاً بحلقات من الأحياء العشوائية قلباً وقالباً. ليس هذا فقط، بل أتى الفساد وتضاؤل قيمة الجمال والحضارة والرقي على كثير مما تبقى من قصور وفيلات وعمارات ذات طرز تاريخية لا تعوض في داخل الأحياء الأصلية، وذلك عبر الهدم لمصلحة مزيد من الخرسانة القبيحة منزوعة الطراز والتخطيط.
اعتداء منظم
وخاصم التخطيط التمدد العمراني. انتشر البناء من دون ترخيص حتى أصبح أمراً طبيعياً وبالتوازي جرى اعتداء شبه منظم على الأراضي الزراعية التي تكالب أصحابها على البناء عليها. أما الحكومات المتعاقبة في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات والعقد الأول من الألفية الثالثة، فسهلت عشوائية العمران وغضت الطرف عن الاعتداء على الأرض الزراعية وذلك عبر "تسوية" أوضاع المباني غير المرخصة وتسديد مبالغ مالية زهيدة نظير إدخال المرافق.
إدخال المرافق لآلاف المباني المخالفة لم يضف حساً جمالياً إلى المعمار، فما بني على عشوائية يظل عشوائياً ولو كانت المداخل من الرخام والمصاعد ألمانية والسكان يملكون أحدث السيارات. فكل ما سبق لا علاقة له بالحس الجمالي في المعمار، أو الحفاظ على نسق بناء معين، أو حتى التفكير في رمزية الطراز، أو ثقافة المكان، أو هوية السكان.
يقول نبيل عبدالفتاح إن الحكومات المتعاقبة في عصر الرؤساء الراحلين جمال عبدالناصر ومحمد أنور السادات ومحمد حسني مبارك لم تحمل معها تراكم خبرات أو تصورات خاصة بالثقافة المعمارية وطرزها وجمالياتها ومدارسها، وبالطبع علاقة المعمار بالبيئة وثقافة المكان وتاريخه. تركز جل الاهتمام في مواجهة مشكلة أزمة السكن للسيطرة على الغضب الاجتماعي حتى لا يؤثر سلباً في استقرار النظام واستمراره.
استمرار بناء أكبر عدد من المساكن في أقصر وقت ممكن، أو غض الطرف عن البناء المخالف لـ"الغلابة" ربما هدأ قليلاً من مشاعر الغضب الشعبي أو أجلها، لكنه أسهم في ترسيخ ثقافة القبح واعتيادها حتى تصالح معها ملايين الأشخاص وبات الجمال هو الاستثناء وإن وجد، فلا يلفت الانتباه أو يتم النظر إليه وتذوقه.
اعتياد القبح المعماري طاول الجميع وكان الحل الأمثل للهاربين من الأحياء والشوارع الآخذة في الالتحام ببعضها بعضاً والإطباق على أنفاس سكانها بفعل حصار العشوائيات المتزايد حولها وتمددها وهيمنتها العددية، الهرب إلى "المدن الجديدة".
"المدن الجديدة" نشأت في مصر في عهد الرئيس الراحل أنور السادات وتشير تقارير "برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية" (الموئل) التابع للأمم المتحدة (يو إن هابيتات) إلى أن مصر كانت شرعت في منتصف سبعينيات القرن الماضي في إنشاء مدن جديدة في مناطق صحراوية قريبة من المدن الأصلية لعلاج المشكلات المستفحلة داخل التجمعات السكنية بالمدن.
وساد الاعتقاد بأن المجتمعات العمرانية الجديدة تمثل حلاً فاعلاً للزحف المتسارع على الأراضي الزراعية وتدهور النسيج الحضري وتدني جودة المعيشة، إلا أن المجتمعات العمرانية الجديدة لم تحرز النجاح المأمول في تحقيق أهداف التنمية بسبب فشلها في جذب أعداد كافية من المصريين للسكن فيها وعدم توافر سبل المعيشة المستدامة مع عدم وضع استيعاب مزيج اجتماعي اقتصادي من السكان فيها، إضافة إلى غياب معايير الجودة.
وعلى رغم تحسن الأداء الحكومي في الأجيال التالية من المدن الجديدة من حيث استيعاب فئات مختلفة من السكان وتوفير قدر أكبر من عوامل الاستدامة من وسائل مواصلات وخدمات وغيرها، فإن الطرز المعمارية تخاصمها الرؤية والتناغم، والتخطيط العمراني يعاني قصر نظر وضيق أفق.
التخطيط العمراني يهدف إلى صناعة بناء عمراني متوازن ومتناسق وظيفياً واجتماعياً وجمالياً وهو يضع الخطط التنموية نصب عينيه، فيهتم بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتاريخية التي تمكن المخطط العمراني الجديد من الارتباط بغيره من التجمعات العمرانية، مكوناً سلسلة متناغمة تعكس روح المكان والإنسان وثقافته وهويته، وبالطبع يلبي حاجاته السكنية والخدمية والترفيهية.
وينتقد نبيل عبدالفتاح ما سماه "الفوضى المعمارية" في التخطيط العمراني للمدن الجديدة وكذلك منتجعات الساحل الشمالي الصيفية وحتى في العمارات الجديدة التي يجري بناؤها في القاهرة والإسكندرية. ويرجع ذلك إلى "آليات الفساد السلطوي لدى بعض الموظفين العموميين المسؤولين عن إصدار التراخيص وكذلك الاستعانة بعقلية المقاول لا المهندس المعماري المتخصص في التخطيط".
وعلى رغم أن معظم المدن الجديدة وغيرها من العمارات الحديثة في القاهرة والإسكندرية موجهة إلى الطبقات المقتدرة اقتصادياً، وعلى رغم الجهد المادي المبذول لإظهار هذا الاقتدار عبر مبالغات في التزيين أو مزج غير مدروس لطرز معمارية غير متناغمة بهدف الإبهار، فإن عمارة الأغنياء تقف على قدم المساواة مع عمارة الفقراء من حيث تضاؤل حس التخطيط العمراني ورؤيته.
وهناك اعتقاد شائع راسخ بأن بيوت الفقراء يجب أن تكون قبيحة باعتبارها مجرد مأوى لسكانها. تحت عنوان "عمارة للأثرياء، مأوى للأغنياء" جاء في ورقة نشرها "مركز دراسات البيئة المبنية" أن كثيرين من المهندسين المعماريين يرون إسكان أصحاب الدخول المنخفضة هو مأوى لا أكثر ولا أقل والدليل أن معظم هذه المساكن سيئة وقبيحة. كتل بناء قبيحة لا خصائص مميزة أو طابع فني أو أدنى مواصفات جمالية فيها".
الغريب أن صاحب فكرة "عمارة الفقراء" التي جرى تنفيذها بالفعل ومن دون كلف باهظة وبطابع معماري خلاب يشبه الناس والمكان هو شيخ المعماريين المصري الراحل حسن فتحي الذي صمم بيوت مدينة القرنة الجديدة في أسوان، حيث جرى بناء نحو 900 بيت وثلاث مدارس ومركز طبي ومسجد بتقنيات البناء في العمارة الصعيدية والنوبية ومستخدماً الطين في البناء بعد تطويعه. كما وضع العوامل المناخية في الحسبان، فصمم على أساسها الواجهات والنوافذ والفتحات والقباب. فخرجت قرية لها روح وهوية يسكنها أناس يشبهون بيوتهم. إنها الهوية المعمارية المفتقدة.
الجزائر... هوية معماية مفقودة
هوية معمارية أخرى مفقودة في الجزائر التي تعاني توسعاً يصفه خبراء ومهندسون بـ "العشوائي"، لا سيما في المدن الكبرى بسبب ترامي البنايات غير المكتملة على الأطراف ومعظمها لا يخضع لمعايير بناء واضحة أو تنظيم محدد. كما تنعدم العلاقة بين أساليبها المعمارية وبين نمط الحياة وبعدها البيئي، لكن لحسن الحظ، يحتفظ عدد من المدن الجزائرية بأنماط معمارية مميزة.
على مسافة 630 كيلومتراً من العاصمة الجزائر تقع مدينة وادي الصحراوية الهادئة والجميلة وهي المدينة التي قالت عنها الكاتبة والمستكشفة السويسرية إيزابيل إيبرهارت "الوادي البلد الذي لا تعد قببه، هي البلدة الوحيدة التي أقبل العيش فيها للأبد".
ويذكر أن إيبرهارت (1877-1904م) زارت المدينة عام 1899 وهي أول من أطلق عليها اسم "ألف قبة وقبة"، وكانت الجريدة التي تعمل فيها أوفدتها للجزائر لتكتب عن حياة الجزائريين في ظل الحقبة الاستعمارية الفرنسية (1830-1962)، وحين صعدت إلى أعلى صومعة "زاوية سيدي سالم" انبهرت بمشهد القباب المتجانسة وهندستها المعمارية الفريدة وبدأت تكتب عنها القصص والحكايات.
في وادي تعتلي القباب تقريباً كل سقف في المدينة، سواء كان بيتاً أو محلاً تجارياً أو سوقاً أو مسجداً وهي مصممة بشكل يسمح بمرور الهواء وتخفيف حدة حرارة الشمس، كما تمنع تجمع الرمال على الأسطح.
وادي ليست وحدها في تميزها بطراز معماري فريد. منطقة وادي ميزاب في ولاية غرداية (600 كيلومتر جنوب الجزائر) تم تصنيفها ضمن التراث الوطني بمقتضى قرار وزاري صادر عام 1971. كما صنفت تراثاً إنسانياً عالمياً من قبل منظمة "يونيسكو" عام 1982. السكان هناك نجحوا في تطويع الطبيعة الصحراوية وقسوتها عبر إنشاء مراكز حضرية متجانسة وفريدة بهندستها المعمارية تعكسها قصور "المدن المحصنة" في وادي ميزاب.
هذا النسق المعماري، عمره أكثر من ألف عام، مصدر إلهام لعدد من المهندسين والمعماريين من جميع أنحاء العالم. فـ"ميزاب" بقصورها المصممة ببراعة بحسب الطراز الإسلامي وطريقة تراعي الظروف المناخية مستمرة في الحفاظ على هيكلها المعماري بمساعدة عمليات الترميم.
وفي مدن مثل الجزائر العاصمة ووهران وقسنطينة لا تزال مباني زمن الاستعمار صامدة مع خضوعها لترميمات دورية، وذلك على رغم مرور عقود على تشييدها وتعد رمزاً لجمال الطرز المعمارية الأوروبية.
وعلى رغم ذلك، تبقى الجزائر مفتقدة تخطيطاً عمرانياً واضح المعالم ويعود ذلك إلى أسباب مختلفة، إضافة إلى عوامل تاريخية. فالحضارات المتعاقبة على البلاد تركت طرزاً معمارية خاصة بها وبعد الاستقلال عام 1962، لم تتمكن الحكومات المتعاقبة من غرس ثقافة عمرانية في المدن والأحياء السكنية ويصفها مهندسون معماريون بأنها تفتقد الرؤية الجمالية وتخلو من هوية حضارية خاصة بها.
محاولات عدة بذلتها الدولة لتكريس نظرة جديدة في مجال التخطيط العمراني وغرس ثقافة معمارية حضرية متفردة، بدءاً من عام 2003، فقد انطلق بناء المدن الجديدة لاستيعاب التمدد السكاني من جهة، وكذلك في محاولة لكبح جماح البناء الفوضوي والتصدي للتلوث البصري الذي يشوه المدن من جهة أخرى، لكن تلك المحاولات في حاجة إلى جهد مكثف واستمرارية.
ويشار إلى أن الأوضاع الأمنية الصعبة التي عاشتها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي أثرت سلباً في التخطيط العمراني، وذلك بعد نزوح عائلات من القرى والجبال نحو المدن والمناطق الحضارية فتشكلت أحياء عشوائية ومبان فوضوية.
وعلى رغم إقرار الحكومات المتعاقبة مشاريع سكنية وبأعداد كبيرة، فإنها لم تعالج مشكلات العمران على خلفية ارتفاع الطلب على المساكن والنمو الديموغرافي والتأخر في إنجاز مشاريع سكنية بسبب تعقيدات بيروقراطية ومادية.
وأدى نقص الرقابة إلى إقبال قطاع من الجزائريين على توسيع مساكنهم من دون الحصول على موافقات الجهات المتخصصة، مما تسبب في انتشار المباني غير الخاضعة لأية معايير معمارية محددة، وبات في حكم المستحيل تصنيف الأحياء بين حديثة أو قديمة أو تجمعات سكنية فاقدة الهوية. إنها الهوية الجزائرية بأبعادها الإسلامية والمغاربية والأمازيغية.
كما تغيب المساحات الخضراء في التجمعات السكنية، ويقتصر الاهتمام عادة على تجميل البيوت من الداخل على حساب جمال الواجهات والمداخل ويتعمد بعضهم ترك واجهات المنازل من دون طلاء، وهو ما قد يعود إلى موروث شعبي مفاده بأن البيت الجميل يجلب الحسد.
يشار إلى أن القوانين الجزائرية تحوي نصوصاً من شأنها أن تحافظ على النسق العمراني وخصائص كل منطقة مع عدم الإخلال بمهن الفلاحة والصناعة والتراث الثقافي والتاريخي والبيئة، ومنها قانون 25 - 90 الصادر عام 1990، لكن القوانين تحتاج إلى تطبيق لوقف التشوهات العمرانية.
السعودية... إزالة العشوائيات
وفي السعودية تسعى الحكومة إلى تطوير مدنها لا سيما الرئيسة منها، ورفع مستوى جودة الحياة بها من خلال استحداث المشاريع التنموية والعمل على إزالة المناطق العشوائية التي انتشرت في بعض مدنها، من خلال إعادة تخطيطها بشكل منتظم وحضاري متناسق سعياً لرفع جودة الحياة داخل تلك المدن.
وتسعى من خلال ذلك إلى إقرار تخطيط "يرتقي بالمجتمع ويلبي حاجاته الآنية والمستقبلية"، بحسب وليد الزامل، الأستاذ المشارك ورئيس قسم التخطيط العمراني في جامعة الملك سعود.
وأضاف "أن التخطيط العمراني يسعى لمواءمة ثقافة المجتمع واستنباط حاجاته، وفهم الموارد المتاحة لتطوير سياسات عمرانية ترتقي بالمجتمع واقتصاديات السكان. فالأحياء السكنية ليست مجرد إطار مكاني يحتوي السكان بل يستلهم حاجاتهم ليطور خدمات وبنية تحتية تتلاءم مع هذه الحاجات. وهكذا، تختلف الحلول التي يضعها المُخطط العمراني وفقاً لعاملَي الزمان والمكان والثقافة المحلية والتوجهات الاستراتيجية الوطنية".
وشدد الزامل على أن المخططات السكنية التي ينتجها المخطط العمراني ليست مجرد أنماط عمرانية أو نماذج مادية كما يعتقد البعض، بل هي نابعة من تحليل متعمق لطبيعة الموقع وخصائصه ضمن السياق العمراني.
واستطرد بالقول "يبدأ هذا التحليل من فهم الخطة الوطنية وتحليل الخصائص الاجتماعية والاقتصادية بما فيها الدخل، ومعدلات الإنفاق ومواءمتها مع طبيعة الموقع وخصائصه في إطار التشريعات العمرانية".
وقال "إن منظور المُخطط العمراني للأحياء السكنية بمثابة البيئة التي تسهم في خلق ظروف حياتية تعزز من الانتماء الوطني، والصحة البدنية، وتخلق التفاعل الاجتماعي، وترتقي باقتصاد السكان. ويتضمن ذلك تطوير أنماط عمرانية متنوعة كقطع الأراضي أو المساحات الترفيهية التي تستجيب للتنوع الاجتماعي والثقافي، إلى جانب توفير أنماط متعددة للنقل تتكيف مع كافة حاجات الفئات الاقتصادية ضمن إطار المصلحة العامة".
من جانبه، يرى الأستاذ المساعد في قسم الجغرافيا والمعلومات الجغرافية بجامعة الملك عبد العزيز، مرشد السلمي، أن نشأة المدن ترتبط بالوظائف التي تؤديها، وقال "إن ابن خلدون ربط نشأة المدن والتي قد تعود لبضعة آلاف من السنين وتأثر هذا الظهور منذ القدم بالعوامل الطبيعية من حيث الموقع والموضع فكل مدينة نشأت عبر التاريخ ارتبطت بالوظيفة التي تؤديها، فهناك مدن دينية، سياسية، اقتصادية وغيرها كالوظيفة السياحية التي تعتبر آخر وظائف المدن في ما بعد الثورة الصناعية، وهذه الوظيفة انعكاس للهجرة من الأرياف نحو المراكز العمرانية، مما أدى إلى ارتفاع الكثافة السكانية للمدن واتساعها فظهرت الوظيفة السياحية والترفيهية تلبية لحاجة سكان هذه المدن".
واستطرد بالقول "إن الدراسات الحديثة أثبتت أن نشأة المدن في السعودية قديمة جداً بقدم خلق الإنسان ووجوده"، تعتبر الرياض وجدة من أكثر مدن البلاد نمواً.
وعلى رغم نمو وتطور العديد من مدن البلاد بشكل حضاري ومدروس إلا أن الهجرة من الأرياف إلى المدن الرئيسة أسهم في نشوء العشوائيات على أطرافها، وأسهم التطوير العمراني والتمدد إلى احتلالها وسط المدن اليوم، والتي أصبحت تشكل إشكاليات كبرى من نواحٍ متعددة.
وأكد الزامل أن فهم العوامل التي أدت إلى نشوء المناطق العشوائية تعد خطوة هامة في سياق ابتكار حلول ناجعة لمعالجتها.
وزاد "العشوائيات نشأت نتيجة عجز المدينة عن تقديم بدائل سكنية تلبي حاجات ذوي الدخل المنخفض. وتبدأ مشكلة العشوائيات غالباً في المدن ولا سيما مع النمو السكاني غير المدروس، حيث تبدأ الامتدادات العشوائية في المناطق الجبلية أو بطون الأودية أو تلك المناطق البعيدة من رقابة الجهات البلدية وتنتشر تدريجاً وعلى نطاق واسع نتيجة ضعف سياسات التنمية الإقليمية وعدم قدرة المدينة على طرح مخزون سكني يتوافق مع الأسر محدودة الدخل. العشوائيات هي بمثابة محاولة مجتمعية ارتجالية للحصول على مسكن رخيص، ولكنها تفتقر إلى التخطيط والتنظيم القانوني وتتم بمعزل عن الموافقات الحكومية وبلا تراخيص بناء. وهي بالتالي لا تحقق أدنى متطلبات ومعايير التخطيط العمراني".
ويرى السلمي أن تمدد المدن بعد الهجرة غير المضبوطة إليها ينتج منه تباين في الكثافة السكانية بين المناطق الإدارية المختلفة من جهة، وندرة وانخفاض كبير لعدد سكان الأرياف والمدن المتوسطة والصغيرة من جهة أخرى، حيث "تؤكد الإحصاءات أن ثمانية من عشرة أشخاص من السكان السعوديين يسكنون المدن والمراكز العمرانية، هذه الهجرة أدت إلى ظهور أحياء عشوائية شيدها المهاجرون".
ولفت إلى أن نشوء العشوائيات أصبحت عائقاً تنموياً مع ما يسببه وجودها من مشكلات أمنية وصحية وتعليمية، إضافة إلى الصعوبة في إيصال الخدمات إليها.
وقال "مع الوقت تتدهور حالتها العمرانية ومشهدها المتهالك الذي يعد أحد أشكال التلوث البصري. وقد استبشر سكان مدينة جدة بصدور التوجيه السامي الكريم بالبدء في إزالة هذه الأحياء العشوائية التي وصل عددها إلى نحو 32 حياً عشوائياً مع حرص الدولة على تلبية حاجة ساكنيها من توفير المسكن المناسب في بيئة صحية وظروف معيشية ملائمة والبدء في دفع التعويضات المالية لمالكها".
ونوه إلى أن مشاريع تطوير المدن بالسعودية لا سيما المناطق القديمة وإزالة العشوائيات لم تقتصر على جدة بل شملت مدناً عدة، بهدف تحقيق "تنمية شاملة ومستدامة لجميع المناطق الإدارية في البلاد تحقيقاً لمستهدفات رفع جودة الحياة للمواطن السعودي والتوسع في إيجاد الفرص الاستثمارية، لتكون أحد أهم روافد الاقتصاد الوطني مستقبلاً".
وفي السياق ذاته، أشار الزامل إلى أن الحكومة تخطو خطوات كبيرة في سياق معالجة العشوائيات على نطاق واسع من خلال إزالتها وتوفير بدائل سكنية تتلاءم مع حدود القدرة الاقتصادية للفئات محدودة الدخل. ففي ضوء الرؤية الوطنية أكد برنامج التحول الوطني على "تحسين المشهد الحضري في المدن السعودية" من خلال تطوير أواسط المدن والمناطق العشوائية.
ويرى الزامل أن إيجابيات إزالة المناطق العشوائية مع توفير بدائل إسكانية سوف ينعكس على المشهد الحضري العام في المدينة ويحقق مستهدفات رؤية 2030 في تحسين جودة الحياة في الأحياء السكنية وصولاً إلى مدن مستدامة.
التمدد السكاني
وفي الصدد ذاته، أوضح الزامل أن "النمو العمراني في المدن يعتمد على دراسة متطلبات التنمية العمرانية ومدى قدرة المدينة على استيعاب النمو السكاني المستقبلي وأعني به مقارنة الموارد المتاحة والفرص الوظيفية التي يمكن أن تقدمها المدينة للسكان. ويعتمد تطوير المخططات الهيكلية وحتى مخططات الأحياء السكنية في المدن على استيعاب الخطة الوطنية وعلاقة المدينة في سياقها الإقليمي، وهكذا يتم تحديد المساحات العمرانية المتاحة للتطوير والحجم الأمثل للنمو العمراني ضمن إطار زمني أو ما يعرف بسنة الهدف".
وعلى رغم جهود إدارات لتخطيط المدن وتطوير مخططات عمرانية قادرة على استيعاب النمو المستقبلي طيلة العقود الماضية، إلا أنها لم تتوافق تماماً مع معدلات النمو السكاني. على سبيل المثال شهدت بعض المدن السعودية تمدداً عمرانياً واسع النطاق في فترة "الطفرة الاقتصادية" عام 1970، وازدادت حركة البناء والعمران بشكل فاق توقعات الأجهزة البلدية في تلك الفترة. ففي مدينة الرياض فقط تجاوز النمو السكاني حدود المتوقع في الخطة العمرانية، حيث بلغ عدد السكان الفعلي 1.4 مليون نسمة في عام 1986، في حين توقعت الخطة الاستراتيجية أن تصل المدينة لهذا الرقم في عام 2000.
واستدركت الخطط المتعاقبة لوضع حلول عاجلة اقتضت توفير مساحات واسعة من الأراضي والخدمات والبنية التحتية لاستيعاب النمو السكاني.
وعليه يعلق الأكاديمي وليد الزامل بالقول "الفترة الحالية التي تشهدها البلاد هي بمثابة طفرة تنموية تركز على محاور الاستدامة وهي البيئة والاقتصاد والمجتمع، حيث نشهد اليوم مشاريع متعاقبة في سياق تحسين البيئة العمرانية وتحويل المدن السعودية من مدن تقليدية إلى مدن مُنتجة قادرة على المنافسة العالمية في سلم المدن الحضري. وتقتضي هذه المرحلة بالتحديد العمل على تطوير استراتيجيات محلية للمدن تأخذ في الاعتبار موارد المدن وبنيتها الاقتصادية لوضع تصور واضح للمستوى الأمثل للنمو السكاني فيها.
وعلى رغم أهمية التطوير العمراني للمدن والحاجة الماسة لمتخصصين في هذا المجال، إلا أن هناك قلة في المخرجات التعليمية لهذا التخصص، وهو ما أكده الزامل بالقول "توجد لدينا أقسام للتخطيط العمراني في عدد محدود جداً من الجامعات السعودية. وللأسف الشديد لا يزال لدى العديد من المتقدمين لبرامج التخطيط العمراني قصور في فهم تخصص التخطيط العمراني وإدراك مدى أهميته في سياق النهضة العمرانية التي تشهدها البلاد أخيراً".
وأضاف "كما لدينا قصور في فهم المنظور الشمولي لتخصص التخطيط العمراني ضمن الإطار المهني والمسؤوليات المناطة بخريج التخطيط العمراني حيث يتم حصر عمل المُخطط في تطوير المخططات الفنية وتقسيمات الأراضي وتوزيع المناطق من دون تأصيل ذلك ضمن إطار مبني على تحليل متعمق للموارد والإمكانات الذاتية في المدن".
ولفت إلى أنه نظراً لقلة الخريجين المتخصصين في التخطيط العمراني، يأخذ البعض من غير المتخصصين زمام العمل في تطوير السياسات العمرانية في المدينة والإقليم وهو ما قد يؤدي إلى ضعف المنتج العمراني أو الخطط الاستراتيجية على المدى الطويل.
وقال "قد نلتمس العذر لضعف المخرجات التخطيطية في العقود الماضية نتيجة حداثة تأسيس الهياكل الإدارية في المدن مع طفرة النمو السكاني. إلا أن سقف الطموح اليوم عالٍ جداً مع توجهات الرؤية الوطنية وهو ما يتطلب حشد الجهود وإدراك أهمية تخصص التخطيط العمراني".
وقال "على الرغم من التطور العمراني والتنموي الذي تشهده السعودية منذ إقرار الرؤية الوطنية عام 2016، إلا أن الكوادر البشرية المتخصصة في مجال التخطيط العمراني تظل محدودة جداً إذا ما قورنت بحجم المشاريع التنموية الكبرى. على سبيل المثال، برامج التخطيط في الولايات المتحدة الأميركية تُخرج حوالى 2700 مُخطط لكل 30 مليون نسمة، بينما لا يتجاوز عدد الخريجين محلياً 270 مُخططاً لكل 30 مليون نسمة. وفي بلد يشهد نمواً في جميع القطاعات وموارد متباينة في كافة المناطق.
الحاجة تبدو ماسة إلى ضخ كوادر بشرية مؤهلة في مجال التخطيط العمراني، بل والتوسع في تخصصاته لا سيما في مجالات النقل الحضري، والتخطيط الإقليمي، والتخطيط البيئي، والتنمية المستدامة، وتخطيط الأحياء السكنية.
الدار البيضاء... كآبة المأوى
هذه "التشوهات" العمرانية تنعكس على نفسية السكان. ولم لا؟ فالمدن الكئيبة تلقي بظلال الكآبة على سكانها.
الكآبة أنواع ومنها ما ينجم عن غياب الخدمات وأماكن الترفيه في المناطق الحضرية المكتظة التي تعتبر البيت مأوى وليس سكناً. الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية للمغرب، ما زالت تحافظ على إرثها المعماري الاستعماري الفرنسي الذي يقسم المدينة إلى مركز وهامش.
لهذا يجمع معظم الباحثين المتخصصين في المجال الحضري على غياب رؤى واضحة في تخطيط المدينة، مما يؤثر في نمط الحياة فيها. الغريب أن الدار البيضاء هي أكبر مدن المغرب وعاصمته الاقتصادية ويبلغ عدد سكانها نحو 5 ملايين نسمة وهي ثالث أكبر مدينة أفريقية بعد لاغوس والقاهرة. وتنقسم المدينة إلى أحياء المركز حيث يعيش جزء من الطبقة المتوسطة والميسورين، وأحياء الضواحي حيث يعيش الفقراء.
تقول أمينة سلامي (ربة بيت) التي تسكن حي سيدي مومن في ضواحي الدار البيضاء إنه "ليس هناك مكان نأخذ إليه الأطفال في أوقات فراغهم. المدينة مكتظة بالبنايات ولا مناطق خضراء، لا سيما لأولئك الذين يعيشون في الضواحي، إذ يتطلب التنقل إلى مركز المدينة للتمتع بمنطقة خضراء أو ترفيهية نحو ساعة". وتضيف "ليست لدينا إمكانات مالية لكي نعيش في أحياء المركز لأنها غالية الثمن، فموقع السكن يحدد قيمته المادية".
لكن هل هناك فرق كبير بين ضواحي الدار البيضاء ومركزها؟ تجيب سلامي "نعم، المركز هو المدينة ونحن نعيش في عشوائيات غير منظمة تفتقد إلى الأمن والنظافة وتنتشر فيها الجرائم والمخدرات، وهذا ما يجعلني أعيش في خوف مستمر على مستقبل أطفالي".
حتى بداية الثمانينيات كان حي سيدي مومن منطقة زراعية خصبة وبسبب الهجرة من القرى المغربية إلى المدن، استقر المهاجرون الجدد في أحياء صفيحية مثل أهل غلام ورحامنة.
وبحسب دراسة أجراها الباحث في جامعة القاضي عياض المغربية ياسين أوصار تحت عنوان "التدبير الترابي للمدينة المغربية"، فإن المغرب يعاني عدم وجود سياسة حضرية واضحة، أو رؤية عمرانية شاملة، وهناك إجماع على أن الدار البيضاء تمر بأزمة عميقة فالحلول المصممة معظمها جزئي، وبعضها الآخر في حكم المستحيل. الرؤية الشاملة للتخطيط العمراني شبه غائبة.
وتشير الدراسة إلى أن "التخطيط العمراني للدار البيضاء لم يخرج عن نطاق الإرث الاستعماري، حيث الاختيارات السياسية تتغلف بتدابير التنمية وسياسة المدينة تتميز بالغموض وتعدد الفاعلين، مما يعوق المشروع الحضري لها الذي يظهر معتلاً من خلال استمرار المناطق الهامشية".
وقد وضع الاستعمار الفرنسي المخطط العمراني لمدينة الدار البيضاء بحيث يكون مركز المدينة للفرنسيين ومجهزاً ببنى تحتية خاصة بهم، أما الضواحي، فاستقر فيها المغاربة الوافدون من القرى للعمل. وبعد استقلال المغرب أصبح المركز مخصصاً لنخب الفرانكفونية والميسورين، بينما الضواحي للفقراء وجانب من الطبقة المتوسطة كالأساتذة والموظفين والعاملين في شركات وقطاع الخدمات.
في مركز مدينة الدار البيضاء تسود الحياة الليبرالية الغربية، فهناك مدارس للبعثات الأجنبية وحانات ومطاعم راقية، بينما في الهامش مثل حي سيدي مومن ما زال بعضهم يستعمل العربات التي تجرها الدواب.
بالنسبة إلى أمين (19 سنة) تقتصر علاقته بالمركز على حضور فعاليات فريقه المفضل "الرجاء البيضاوي". يقول "أشعر بالفعل بأنه مغرب آخر مختلف عن الحي الذي تربيت فيه، الناس هناك لديها سيارات فارهة وأبناؤهم يرتدون ملابس أنيقة ويتحدثون الفرنسية فقط".
أمين ولد في حي سيدي مومن ويعتبر أنه من الظلم أن يعاني الإقصاء الاجتماعي لمجرد أنه ولد في ضاحية بالدار البيضاء. يقول "نحن لا نعيش في مدينة. نعيش في عشوائيات مهمشة لا علاقة لها بالمدن".
المشكلة هي أن "الدولة بكل قطاعاتها لا تلعب دوراً فاعلاً في تصميم المدن وضبط التخطيط العمراني"، بحسب ما ورد في دراسة للباحث في علم الاجتماع الحضري عبدالرحمن رشيق الذي يضيف أن الدولة حاربت أحياء الصفيح "الكاريان" لتجد نفسها أمام تمدد مستمر للعشوائيات سواء في السكن أو العمل.
بغداد... تخطيط قصير النظر
ويبدو أن التخطيط القصير النظر والعمران المجتزأ سمة عدد من المدن العربية. الحكومات العراقية المتعاقبة كلفت شركات أجنبية عدة متخصصة في تخطيط المدن وضع تصورات للعاصمة بغداد وذلك بعدما استشعرت أهمية توسع المدينة لتستوعب الزيادة السكانية، إلا أن تخطيط تلك الشركات افتقر إلى الدقة فكانت عديمة الجدوى، كما أسهمت الظروف الأمنية والسياسية في عدم اكتمال المشاريع.
مدينة بغداد القديمة تتألف من 76 محلة، فضلاً عن محال الكاظمية والأعظمية والكرادة الشرقية، وعام 1923 زادت حركة العمران والتوسع حول الكرخ والرصافة والكاظمية والأعظمية وكانت على شكل امتداد طولي وليس دائرياً على جانبي النهر.
يصف رائد الحداثة المعمارية العراقي محمد مكية (1914-2015) التخطيط العمراني لبغداد بأنه جعلها تدير ظهرها عن نهر دجلة، قائلاً "ظل الشاطئ معرضاً لعشوائية البناء، إضافة إلى امتداده داخل المدينة محاطاً بسياج يصعب اختراقه لتنظيم مشاريع حيوية. وظلت الطرق موازية للنهر وكان الأنسب أن تتعامد معه".
عام 1936 جرت محاولات جدية لإعادة تخطيط بغداد بإشراف المهندس الألماني بريكس وكتب تقريراً تناول المناطق الحضرية والسكك الحديدية والسكن ومشاريع الماء والكهرباء والصرف الصحي والشوارع والمرائب، لكنه لم يخرج إلى النور بصورة كاملة. وعام 1945 بذل أمين العاصمة فخري الفخري جهوداً لوضع تخطيط للمدينة وطرح تصميماً أساسياً عام 1956 واستقدم مستشارين بريطانيين لوضع التفاصيل وتم تطبيقه بالفعل.
وعام 1958 جرى وضع تصميم لمشاريع الإسكان في اليرموك وغرب بغداد من قبل شركة "دوكسيادس" اليونانية، لكنها لم تنفذ لعدم دقتها.
التخطيط العمراني للمدن عادة يكون لخمس أو 10 سنوات وبعض الدول تضعه لمدة 50 عاماً على أن يراعي البعد الاجتماعي في التنفيذ، لكن العراق وعلى مدى عقود طويلة لم ينجز مخططات للمدن، وغالباً يتم إنجاز مشاريع غير مخططة.
يقول مدير عام دائرة العلاقات والإعلام في أمانة بغداد محمد الربيعي إن التخطيط العمراني للمدن شهد كثيراً من التعثر منذ التسعينيات بسبب ظروف العراق من حصار وحروب متكررة، ويضيف "غالباً ما يجري التجاوز على الخطط. قبل عام 2003 تم التجاوز بشكل بسيط على مخطط مدينة بغداد، وهو ما خلق مدينة مثالية متكاملة أقرب ما تكون إلى المدن الحديثة كما هي الحال في العمارات السكنية في شارع حيفا، لكن بعد ذلك لم تراع شركات التخطيط الأبعاد الاجتماعية والزراعية والصناعية".
وعلى رغم أن مخطط المدن يسمح لأمين العاصمة بالتجاوز على المخطط بما نسبته (0.6 في المئة) خدمة للمصلحة العامة، فإن الأعوام الأخيرة شهدت تجاوزاً خطراً في مشاريع غير مخططة وأصبح التجاوز على المخطط يتعدى خمسة في المئة وتتمثل هذه التجاوزات في كثرة المراكز التجارية (المولات) في الأماكن غير المناسبة وغياب المساحات الخضراء والتعدي على الأراضي الزراعية.
يقول الربيعي إن التخطيط العمراني للأزقة البغدادية جعلها وفق البناء الأفقي وهي تشمل مناطق المنصور والكرادة والكاظمية وزيونة وبغداد الجديدة والدورة والغدير، لكن بعد عام 2003 توسعت ظاهرة تقطيع هذه المساحات الكبيرة إلى مساحات أصغر وتشييد عمارات عمودية، مشيراً إلى أن تلك الظاهرة التي غذاها الفساد والتحايل على القانون أدت إلى تشوه التخطيط الحضري. فالأزقة التي كان من المخطط لها أن تسكنها 50 عائلة باتت تضم أكثر من 1500 عائلة، و"عليه سيكون هناك انهيار قريباً في خدمات الكهرباء والصرف الصحي والمياه والمدارس".
غياب التنمية الحقيقية في المحافظات والقرى أدى إلى اتساع ظاهرة الهجرة إلى العاصمة، وذلك للحصول على فرص عمل وتعليم للأطفال في مدارس ليست طينية أو "كرافانية" كما هي الحال في جنوب العراق، وأسهمت الهجرة الداخلية في زيادة عدد السكان في العاصمة، ومن ثم عدم استيعاب الخطط الإنمائية للمدينة للأعداد الوافدة.
يبلغ عدد العشوائيات في العاصمة بغداد 1125 عشوائية وهي الأعلى، وتأتي بعدها البصرة والموصل، لكن الربيعي يرى أن تلك الظاهرة لا تؤثر في تخطيط المدن لأن من السهل إزالتها، ويوضح أن التخطيط الإنمائي الشامل 2030 سيحد من التوسعة في مركز المدينة لمصلحة ضواحيها مثل الدورة والغزالية والعامرية وبوب الشام، وسيتوقف بناء المراكز التجارية والمستشفيات والجامعات والمدارس في مركز المدينة لمصلحة أطرافها، مشيراً إلى أن ذلك "لا يمثل حلاً جذرياً، بل موقتاً لحين المصادقة على المخطط الإنمائي الشامل للمدينة".
ويضيف أنه من بين الخطط المستقبلية التي بدأت أمانة بغداد الإعداد لها مع البنك المركزي العراقي ورابطة المصارف العراقية وغرفة التجارة و"يونيسكو" إعادة إحياء 17 سوقاً تجارية منها سوق الصفافير والحرير، وسيتحول شارعا الرشيد والكرخ إلى مراكز تجارية وتنموية واقتصادية وسياحية على أن تنتقل محال الجملة إلى أطراف بغداد، وربما يكون ذلك بداية النهاية للبناء العشوائي.
عمان... باهتة وخالية من المساحات الخضراء
بناء عشوائي آخر ولون أصفر طاغ وصورة أخرى ملتقطة من الجو تشي بفوضى في التخطيط العمراني. عام 2020 نشرت مصورة أردنية صورة لعمان من الجو بدت فيها عاصمة الأردنيين كئيبة وباهتة وخالية من المساحات الخضراء، مما أثار ردود فعل سلبية عدة على منصات التواصل الاجتماعي وصلت إلى حد وصف بعض الأردنيين عاصمتهم بـ"المقبرة والغابة الأسمنتية".
وبعيداً من هذه الأوصاف القاسية عانى الأردنيون لعقود طويلة البناء العشوائي لمنازلهم بطرق تقليدية ومن دون ضوابط. وعلى رغم وجود نظام خاص للأبنية في العاصمة عمان وبقية المدن، لا تزال الفوضى هي السمة الغالبة على معظم الإنشاءات، خصوصاً في الأحياء الفقيرة.
وحتى ستينيات القرن الماضي ظلت عمان في ذاكرة الأردنيين وأدبياتهم مجرد قرية وذلك قبل أن تتحول إلى عاصمة تتوسع يومياً بشكل فوضوي وعشوائي.
ويقدر عدد المساكن في الأردن بنحو مليونين و300 ألف مسكن، 45 في المئة منها في العاصمة، فيما تبلغ نسبة الشقق نحو 83 في المئة.
رئيس المكاتب الهندسية في الأردن المهندس عبدالله عاصم غوشة قال لـ"اندبندنت عربية" إن المملكة شهدت ثورة عمرانية وحضرية خلال الأعوام الـ20 الأخيرة، مشيراً إلى "الارتفاع الكبير في عدد رخص البناء والطلب على المساكن والمنشآت المختلفة نتيجة تضاعف عدد السكان لأسباب داخلية وخارجية مرتبطة بالأزمات الإقليمية المحيطة بالأردن مثل حرب الخليج الثانية عام 2003 والأزمة السورية عام 2011، إضافة إلى النمو الطبيعي لعدد السكان، إذ قفز بنسبة 36 في المئة في السنوات الـ10 الأخيرة إلى 11.2 مليون نسمة".
وفضلاً عن الضغط السكاني الهائل على البنيتين التحتية والفوقية وفرص العمل والمواصلات والنقل أكد غوشة أن "كل ذلك لم يتواكب مع أي خطة أو رؤية عمرانية"، واصفاً ما يحدث بـ"الحلول المجتزأة التي أدت إلى تشوهات تخطيطية وحضرية وعمرانية وإدارية وتنموية".
وذكر غوشة عدداً من أسباب التشوه العمراني في الأردن من بينها "تعدد مرجعيات التخطيط وتداخل الصلاحيات بين البلديات وشركات التطوير والوزارات، إضافة إلى غياب التنسيق المتكامل على مستوى التخطيط التنموي لكامل المحافظات"، لكنه أشار إلى "خلل كبير في أرقام التوزيع السكاني، بحيث يتمركز 86 في المئة من السكان على 10 في المئة فقط من مساحة البلاد، تحديداً في العاصمة عمان ومدينتي الزرقاء وإربد. ونتج من ذلك توسع عشوائي واعتداء على الرقعة الزراعية وارتفاع كلف إيصال البنية التحتية إلى المناطق السكانية".
كما ظهرت مشاريع عدة للتطوير العقاري على أسس طبقية وتجارية موجهة لذوي الدخول المرتفعة وسط غياب مشاريع التطوير الموجهة لذوي الدخول المحدودة والمتوسطة، مما أدى إلى حدوث فرز طبقي للتطوير العمراني.
يشكو الأردنيون من عدم وجود دراسات علمية حقيقية توضح الوضع التخطيطي الموجود وتقيّمه، ويرى مراقبون أن الواقع العمراني في البلاد يقوم على اجتهادات فردية ومحاولات حكومية محدودة للقفز فوق إشكالية التخطيط بمشاريع مثل "المدينة الجديدة" التي يجري الحديث عنها منذ أعوام من دون أن ترى النور.
فكرة إنشاء عاصمة إدارية جديدة في المملكة لمواجهة الزيادة السكانية طرحت قبل خمس سنوات وظلت حبيسة الأدراج، وقالت الحكومة الأردنية إن هذه المدينة ستكون مدينة إدارية جديدة متطورة وليست عاصمة، وكشف وزير الاستثمار الأردني خيري عمرو عن أن "موقعها المقترح سيكون شرق العاصمة وعلى شكل مثلث ضخم، بحيث يربط ما بين العاصمة ومدينة الزرقاء ثاني أكبر مدينة أردنية من حيث عدد السكان"، وبحسب عمرو فإن الهدف هو توسيع الرقعة السكنية وتحسين البنية التحتية وتطويرها، وصولاً إلى إنشاء مدن ذكية، وفقاً لاعتبارات مالية واجتماعية وبيئية.
ويجري الحديث عن بناء مدينة إدارية جديدة تنقل إليها الوزارات والمؤسسات والمسؤوليات الحكومية والسفارات ومراكز البنوك الرئيسة.
في سياق آخر يتخوف أهالي مدينة المفرق (شمال الأردن) من تحول مخيم "الزعتري" للاجئين السوريين المقام على أرض مدينتهم إلى "عشوائية جديدة" بعدما تحولت مخيمات عدة للاجئين الفلسطينيين خلال عقود مضت إلى أسوأ شكل للتجمعات السكنية في العاصمة والمدن الأردنية الأخرى.
القاسم المشترك بين كل مخيمات اللاجئين في الأردن هو فوضى البناء وغياب البنى التحتية والزحف العمراني العشوائي من دون ضوابط أو تخطيط.
من جانب آخر تبرز ظاهرة المساكن العشوائية التي يقوم أصحابها بوضع اليد على ممتلكات غيرهم عنوة وبناء غرف أو خيام أو مساكن من مادة "الزينكو"، وحالياً ينظر القضاء الأردني في 15 قضية مرفوعة من أشخاص يطالبون باستعادة أراضيهم التي احتلها غرباء وأصبحت أحياء تدريجاً.
أبرز أمثلة الاعتداء الصارخ على الأراضي التي تحولت إلى أحياء حي جناعة في مدينة الزرقاء ويقطنه حالياً نحو 30 ألف شخص باتوا مهددين بالإخلاء بعد أعوام من تحوله إلى مركز تجمع سكني للاجئين الفلسطينيين.
وترفض الحكومة إخلاء أو تنظيم نحو 13 مخيماً فلسطينياً للاجئين وذلك بسبب كثافة سكان تلك المخيمات وما قد يترتب على ذلك من أزمة إنسانية وطنية ربما تنعكس سلباً على الأمن والسلم المجتمعي.
الخرطوم بين براثن العشوائية
كثافة سكانية أخرى تمددت في غفلة من القانون ووقعت في براثن العشوائية أيضاً تعاني الأمرين في السودان. المثلث الحضري، الخرطوم وأم درمان وبحري تمددت أطرافه في شكل سكن عشوائي بسبب التعديات على الأراضي والحيازات غير القانونية، وبعدما فتح محمد علي باشا السودان في القرن الـ17 وجرى تحويل العاصمة مرات عدة من سنار إلى مدني ثم إلى الخرطوم لم يكن هناك تصور بأن المدينة التي يقترن عندها النيلان الأزرق والأبيض ستكون سوداناً مصغراً يلتحم فيه السكان الأصليون والمهاجرون والنازحون من الداخل والخارج.
وفي ظل التطور العمراني على مدى العقود الأخيرة تحولت الخرطوم إلى غابات متشابكة من الأسمنت مجافية لعقلية التخطيط العمراني التي أسست بها، فباتت الأبنية القديمة وما استحدث من مبان جديدة قائمة في غير تآلف، مما يستلزم إصلاح الوضع القائم، وهذا الإصلاح يجب أن ينبع من تصورات ومفاهيم حماية النسيج العمراني والحفاظ على البيئة مع إدارة البنى التحتية وتخطيط النقل والمواصلات والاندماج الطبقي والمواقع التراثية ومراعاة اللمسات الفنية والجمالية.
يقول المتخصص في التخطيط العمراني إبراهيم عطا المنان "رؤية التخطيط العمراني تتأسس على المحورين الاجتماعي والاقتصادي وكذلك النسيج العمراني الأمثل. المحور الاجتماعي يقوم على إنفاذ الموجهات الحضرية لرقي المجتمعات ورفاهيتها، مما يقتضي وجود أماكن وخدمات تربوية ورياضية وترفيهية ومسارح وأندية ودور ثقافية وتراثية ودينية. أما المحور الاقتصادي، فهو أساسي في أي تطور حضري مستدام، بحيث يعتمد نجاح التطور والتحضر على القضاء على الفقر وتوفير فرص العمل وهو ما ييسره التخطيط العمراني المدروس جيداً".
ويحذر عطا المنان من أن أي انحراف في خطوات النسيج الهيكلي يؤدي إلى كوارث اجتماعية واقتصادية وبيئية لا يمكن تداركها بسهولة وتشمل الفيضانات والأمطار والصرف الصحي والطاقة والطرق وهي تمثل الإطار الأمثل للاستدامة الحضرية وتساعد على الابتكار لإيجاد حلول لمشكلات المناخ والبيئة.
ويضيف "التخطيط العمراني يحتاج إلى تحديث ومراجعة مستمرة نتيجة التطور وتغير نمط الحياة وظهور إبداعات جديدة لحل المشكلات أثناء تطبيق الخريطة العمرانية، خصوصاً تحديث القوانين واللوائح المنظمة للتصرف في الأراضي والملكيات العامة والخاصة".
ويؤكد عطا المنان أن الحيز الاجتماعي والارتباط الاقتصادي والاجتماعي كلها أمور تظهر في الخريطة العمرانية، مشيراً إلى أن وضع الخرطوم من الناحية التخطيطية كان جيداً، لكن الهجرة والنزوح الكثيف وعدم التحديث والمواكبة أظهرت التشوهات الحالية وخلقت واقعاً تخطيطياً لا يلبي طموحات المجتمع الجديد.
ويرجع المتخصص في التنمية العقارية محمد عبدالرحيم ما تتعرض له الخرطوم من ضغط سكاني إلى الظروف التي مر بها السودان في العقود الأخيرة، إذ زاد النزوح والهجرة إليها من الولايات والأقاليم ومناطق الصراع، ويقول إن الخرطوم "تعاني عدم التخطيط الحضاري، كما تفتقر إلى قوانين ملزمة للتعامل مع البنية التحتية والطرق العامة والمحافظة على الخدمات".
ويوضح عبدالرحيم أن التخطيط العمراني الأساسي للخرطوم "لم يجدد منذ ما قبل استقلال السودان عام 1956، مما أثر سلباً في البنية التحتية، إضافة إلى الافتقار إلى وسائل المحافظة على البيئة"، ويشير إلى أن التخطيط الذي يجري حالياً في الأطراف لا يتم بصورة جاذبة للمواطنين ولا تتوافر محفزات له، كما يحتاج إلى تمويل كبير لخطة بعيدة المدى تعتني بالبنية التحتية من طرق وكهرباء وغيرها.
ويرى أنه في حال فشل إعادة تخطيط المركز، فعلى الدولة أن تلجأ إلى فكرة العاصمة الجديدة، حيث يجري نقل الإدارات الحكومية خارج الوسط، فيتوجه المواطنون إليها وتنشأ تلقائياً مناطق سكنية جديدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويوضح عبدالرحيم أن حجم التمدد السكاني كبير جداً بالنسبة إلى الخطة الموضوعة وغير متوافق مع تخطيط المدينة، مما يستلزم حلولاً جذرية، مضيفاً أن "سمات التمدد في الخرطوم تنقسم إلى تمدد نهائي نتيجة هجرة دائمة إلى المدينة من القرى والمناطق الأخرى، وآخر موقت بناء على ما تفرضه ظروف العمل في الخرطوم، أو النزوح لأسباب معينة، وبمجرد انتهائها يعود النازحون إلى موطنهم. وهو تمدد توافق مع جزء من التطور الذي بدأته العاصمة باستيعابها عدداً كبيراً من حالات النزوح الدائم بالتطور الرأسي في شكل أبراج سكنية. والجزء الآخر له علاقة بالحيازات والسكن العشوائي في أطرافها والتعديات على الأراضي الزراعية".
ويقول إن من سمات التمدد أيضاً ترسيخ الفصل الطبقي من حيث درجات السكن بين أولى وثانية وثالثة وتتجمع الفئات التي تشبه بعضها بعضاً.
وعلى رغم وجود جامعات تدرس التخطيط العمراني وتوفر فرص عمل للخريجين، إلا أن هناك فجوة بين الدراسة والواقع بتحدياته العمرانية الكثيرة. كما أن التخطيط العمراني لا يستوي من دون تخطيط العشوائيات أيضاً، وكذلك التخطيط البيئي والاقتصاد الحضري وعلم الاجتماع ونظم المعلومات الجغرافية وغيرها في ظل قوانين تطبقها الدولة ويلتزم بها المواطن.
وفي ما يتعلق بالبعد الطبقي في التخطيط العمراني، يقول عبدالرحيم إن هناك أماكن تعكس التقسيم الطبقي مثل المنطقة الصناعية ومناطق أسواق ومجمعات تجارية مثل السوق الشعبية وسوق سعد قشرة والسوق المحلية، لكن لم يتم تحديثها لتواكب حركة العمران، ويضيف أنه بزيادة الكثافة السكانية، لم يعد هناك متسع للفصل الطبقي، بل إن هذا التمدد أدى إلى ضعف شبكة العلاقات الاجتماعية في المنطقة الواحدة، نظراً إلى عدم وجود خدمات تجمع الأفراد مثل مناطق ترفيهية أو خضراء مثلاً.
ويشير إلى أن استمرار ارتفاع الكثافة والتمدد السكاني في ظل عدم وجود قوانين للتخطيط العمراني أطلق العنان للسكن العشوائي، لا سيما في المناطق الخطرة، موضحاً أن النازحين لا يشترون أراض، إنما يحوزونها بوضع اليد ويبنون بيوتهم ويستقرون فيها من دون ضوابط أو قوانين، لافتاً إلى أن كثيراً من هذه العشوائيات مشيد على مجاري السيول، وهو ما يعرض السكان لخطر دائم ويضع حملاً إضافياً على الدولة لإنقاذ المواطنين.
في الأحوال الطبيعية يشارك المواطنون في تشكيل بيئة مدنهم، لكن في منطقة تتكون من 22 دولة يعاني معظمها شكلاً واحداً في الأقل من أشكال التوتر الاجتماعي والإقصاء والفقر والصراع، فإن التخطيط العمراني للمدن يبدو صعباً. التقرير الأحدث الصادر عن "برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية" (الموئل) حول "حال المدن العربية 2020" أشار إلى أن البنية التحتية يمكنها أن تكون إما وسيلة للإقصاء السياسي والاجتماعي لفئات بعينها في المجتمعات، ومنها المهاجرين والأقليات، وهم كثر في العالم العربي، أو تكون محركاً للشمول السياسي والاجتماعي للجميع.
المنطقة العربية لها خصوصية ديموغرافية. ثلث العرب تقريباً تتراوح أعمارهم بين 15 و25 سنة والبطالة نسبتها لا تقل عن 30 في المئة وهي أعلى بين الشباب، وينبه التقرير إلى الثقة المفقودة بين الحكومات والناخبين الذين يشعرون بأنهم مستبعدون من ثمار التنمية. وفي ظل التوجه العالمي لـ"المدينة" باعتبارها الثقل الديموغرافي الأكبر والكيان السكني الرئيس، فإن حسن إدارتها يؤدي إلى مصلحة الجميع والعكس صحيح.
التقرير خلص إلى استحواذ المدن العربية على نصيب الأسد من انعدام المساواة بين دول المنطقة وبعضها، وفي داخل الدولة الواحدة وفي داخل المدينة الواحدة. وفي المدينة العربية الواحدة يمكن رؤية ناطحة السحاب والتجمعات السكنية العملاقة الجديدة والمنتجعات المسورة جنباً إلى جنب مع فئات السكان المحرومين تماماً. كما أن هوة عميقة تفصل بين رؤى معظم الحكومات العربية للتخطيط العمراني وما يتم ويمكن تنفيذه بالفعل في الواقع. سمة أخرى توحد عدداً من المدن العربية هي غياب التخطيط الطويل المدى في ما يتعلق بالبنى التحتية. فالبنية التحتية التي يجري تشييدها اليوم غالباً لا تضع في الاعتبار حجم التمدد السكاني المتوقع خلال خمسة أعوام. كما يوجد اتجاه عربي عام يميل إلى ترجمة المساحات السكنية إلى قيمة مادية، مما يرفع كلفتها ويجعلها حكراً على فئات بعينها.
ويلفت التقرير الأممي إلى معضلة مستقبلية كبرى، ألا وهي كلفة إعادة بناء المدن العربية وبناها التحتية التي دمرتها الصراعات التي طال أمدها في المنطقة، وحتى في حال إعادة البناء فإن إنجازها كما كانت من دون أخذ التحولات الديموغرافية والاجتماعية التي جرت ومتطلبات المستقبل في الاعتبار سيؤدي إلى مشكلة عمرانية أكبر.
وبالطبع فإن عدم توافر المساحات الخضراء الكافية في التجمعات العمرانية والتغاضي أو عدم القدرة على تشييد بنى تحتية ذكية وغيرها تعد مشكلات ثانوية على رغم أهميتها أمام المشكلات الأكبر الأساسية وأبرزها الحق في السكن وليس مجرد الحق في مأوى.
تونس... تتوسع لكن عشوائيا
وفي تونس يرى المتخصص في تخطيط المدن والأستاذ في المدرسة الوطنية للهندسة المعمارية والتعمير شكري المثلوثي، أن الوضع في كل مدن تونس متشابه، إذ تسود الفوضى على مستوى تنفيذ المشاريع المبرمجة في مخططات التهيئة العمرانية، ويعود ذلك لأسباب مختلفة أهمها ضعف التنسيق بين جميع المتدخلين.
وحول فهم المواطنين والمسؤولين فكرة التخطيط العمراني وأهميته، يقول إن عدداً قليلاً من المتدخلين لهم فهم شامل للتخطيط العمراني، باعتبار أن معظمهم يعتبره أداة لإسناد رخصة بناء، لكن مفهوم التخطيط العمراني أعمق من ذلك بكثير، باعتبار أن هدفه الأساس ضمان التنمية المحلية بمختلف مكوناتها الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى جانب تثمين العنصر البيئي، وطبعاً هنا مصطلح التثمين يشمل حماية البيئة وإدماجها في التنمية الاقتصادية.
أما المواطن العادي فغالباً ما يسهم بشكل كبير في ضعف إنجاز المشاريع المخطط لها، وذلك لعدم احترامه مخطط التهيئة.
وفي ما يخص التخطيط العمراني يؤكد المثلوثي، "أهميته القصوى باعتباره يهدف إلى ضمان تنمية محلية جامعة وشاملة وتحسن الحياة العمرانية والريفية، باقتراح حلول لجميع الاشكالات المطروحة على غرار أزمتي التضخم السكاني والبناء العشوائي ومشكلات المرور وتحسين تنقل السكان وضمان قربهم من باقي الخدمات والوظائف العمرانية، وفي الحقيقة يوجد عدد من التصورات والنظريات للتخطيط العمراني تهدف إلى ضمان جودة الحياة العمرانية".
وبالنسبة إلى مراعاة التمدد السكاني بقواعد التخطيط العمراني، يقول المثلوثي إنه يجب التوضيح أن التمدد العمراني له العديد من الأوجه، منها ما يعني توسع المدينة على حساب الأراضي الزراعية بشكل منظم في إطار أمثلة التهيئة العمرانية، وهو "شر لا بد منه" يهدف إلى استيعاب التزايد السكاني، على اعتبار أن المدينة "كائن حي" يتطور ويتمدد بشكل دائم.
ويؤدي التوسع العشوائي بحسب المثلوثي إلى ارتفاع عدد المشكلات العمرانية منها الصرف الصحي ومشكلة الربط بشبكة مياه الصالحة للشرب والربط بشبكة الكهرباء والنقص في المرافق العامة والنقل والمواصلات، ومن ثم تدهور الوضع البيئي، وتؤدي جملة هذه المشكلات إلى ارتفاع كلفة التهيئة إلى أضعاف الوضع العادي.
وفي ما يخص ترسيخ الفصل الطبقي يقول المثلوثي إنه "يجب التذكير أن التخطيط العمراني يأخذ بعين الاعتبار أهمية إدماج كل الطبقات الاجتماعية في المدينة، وهذا حق مكتسب لكل المتساكنين، وذلك ببرمجة كل أصناف السكن الموجهة سواء للطبقة الثرية أو المتوسطة والطبقة الفقيرة، لذلك عادة ما يحتاج مخطط مدن إلى القيام باستبيان لمعرفة التنوع السوسيولوجي في المدينة، وهذا مهم جداً في التخطيط العمراني لضمان فهم السلوكيات والاختلافات الثقافية والهدف من ذلك هو ضمان نجاح المخطط العمراني، باعتباره تطرق الى جميع الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية".
ويوضح أن "دور التخطيط العمراني الاستراتيجي هو الحد من النزوح إلى المدينة بتطوير الريف أو تطوير القرى"، للتوسع العمراني العشوائي آثار سلبية عدة أهمها زيادة عدد السكان مما يؤدي إلى الاكتظاظ والبطالة وندرة المياه ومشكلات الصرف الصحي وارتفاع معدل الجريمة.
ويتابع المثلوثي، "هذا طبعاً إضافة إلى بروز ظاهرة ترييف المدن، إذ ارتبطت المدن تاريخياً بسلوك التحضر الذي يرافقه تبنّي سكانها منظومة خاصة من الثقافة والسلوكيات مع تميز المدن بوجود مرافق وفضاءات عامة لا توجد في الأرياف، لكن سرعة النمو في المدن أدت إلى فقدان عدد كبير منها الخصائص الحضرية المميزة، وتحولها إلى تجمعات سكانية مكتظة تتميز بمظاهر ترييف المدن يعني بروز تجمعات على شكل أحياء منعزلة داخل المدن يقتصر سكانها على عائلات معينة، أو على اشتراك أهالي الحي بالقدوم من موطن أصلي محدد، ويحافظ أهل هذه الأحياء على الروابط والعلاقات السابقة على قدومهم للمدينة، ما يعطي مؤشراً إلى ضعف الاندماج في محيطهم الحضري الجديد، وعادة ما تنشأ مثل هذه الأحياء كنتيجة لهجرة جماعية غير منظمة".
وفي ما يخص الآثار الاجتماعية الإيجابية للتوسع العمراني، يرى المثلوثي أنها تشمل خلق أكثر فرص للعمل والتطور التكنولوجي والبنية التحتية، إضافة إلى تحسين وسائل النقل والاتصالات والمرافق التعليمية والطبية عالية الجودة، وتحسين مستوى العيش للسكان عموماً.
ويوجد في تونس المعهد العالي للبيئة والعمران والبنيان الذي تأسس عام 2002، والمدرسة الوطنية للهندسة المعمارية والتعمير التي تتضمن تدريس الماجستير المهني وماجستير البحث في العمارة والتهيئة، وأقسام الجغرافيا بكل من كليتي العلوم الاجتماعية والانسانية.
وتقول المتفقد المركزي التابعة لوزارة التجهيز والإسكان في تونس حياه حميدة، في إحدى بحوثها، إن "ظاهرة التعمير وتنظيم المدن ظاهرة قديمة ترجع إلى عشرات القرون الماضية، منذ أن استقر الرأي على الاستقرار في فضاء محدد، وتفضيل حياة الاستقرار على حياة الترحال ضماناً لحياة أفضل للفرد وتحسيناً لظروف المعيشه".
وتقوم السياسة العمرانية في تونس، بحسب حميدة على، "فكرة التخطيط في التهيئة العمرانية عبر إعداد أمثلة ذات صبغة توجيهية وترتيبية وتنفيذية".
وتعتبر أمثلة التهيئة العمرانية أداة تخطيط عمراني تمكن الجماعة المحلية المعنية من ممارسة سياسة متناسقة لتنظيم استعمال مجالها الترابي، وتحديد صبغة الأرض وشروط استعمال واستغلال كل قطعة منها.
وتمثل هذه الأداة الترتيبية الإطار الأمثل لتنسيق تدخلات كل القطاعات لدفع مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالتجمع العمراني.
وقد عرف المشرع التونسي السياسات العمرانية بالفصل الـ 12 من مجلة التهيئة الترابية والتعمير، بكونها تضبط بخاصة قواعد استعمال الأراضي.
لبنان... سياسات الخراب
أما في لبنان فالفوضى السياسية التي تعيشها البلاد تكاد تنعكس على جميع القطاعات، إذ يمكن ملاحظتها مع اقتراب الطائرة من الهبوط في مطار بيروت الدولي حيث تظهر العشوائيات العمرانية إلى جوانب المطار بشكل لا يراعي أدنى معايير التنظيم المدني وتستكمل الفوضى المرئية في الشوارع التي تشق طريقها بصعوبة بين الأبنية السكنية، فيما أدت الأزمة الاقتصادية في البلاد إلى فوضى إضافية مستجدة بحيث باتت معظم الشوارع بلا إنارة وإشارات سير والأمر ذاته ينسحب على كل المدن والبلدات اللبنانية.
ومن يعرف لبنان قبل الحرب الأهلية التي بدأت عام 1975 يذهله المشهد المستجد إذ إن المساحات الخضراء اختفت على طول الساحل اللبناني وتحولت إلى مشهد عمراني يكاد يكون متصلاً بين مدينة صور في الجنوب وصولاً إلى طرابلس مروراً بالعاصمة بيروت.
وفي هذا السياق حذر تقرير صادر عن برنامج "الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية" من خطورة التمدد العشوائي للمدن التي يشهدها لبنان، إذ إن 87 في المئة من المقيمين يقطنون بالمدن و64 في المئة منهم بالمدن الكبرى (بيروت وطرابلس وزحلة وصيدا وصور)، لافتاً إلى أن مساحة المناطق الحضرية زادت في لبنان من 221 كلم مربع عام 1963 إلى 741 كلم مربع عام 2005 مع توقعات بارتفاعها إلى 884 كلم مربع عام 2030.
ويرى المتخصصون أن ثلثي الأراضي اللبنانية غير منظمة وأن الحروب والهجرة والنزوح من الأرياف عوامل أساسية أسهمت في التمدد العمراني السريع وعززها النموذج الاقتصادي القائم على تنمية المدن وإهمال الأرياف في ظل غياب سياسات مدينية متقدمة، الأمر الذي أدى إلى إنتاج مدن عشوائية مكتظة وغير آمنة.
يؤكد مدير عام التنظيم المدني المهندس إلياس الطويل أن لبنان يعيش فوضى عمرانية كاملة المواصفات، بحيث التهمت كثير من المساحات الخضراء في المدن والقرى وتحولت إلى كتل أسمنتية، مشدداً على أن "موارد الأرض هي ثروة من ثروات لبنان وكل ما يرتبط بها، لا سيما في مجال التنظيم المدني والمقالع والكسارات، ينبغي أن تخضع للتخطيط واحترام القوانين".
وأكد أن التحديات كبيرة وصعبة، فلبنان مر منذ بداية الحرب الأهلية حتى الآن بفوضى كبيرة عرقلت كثيراً من الحلول وأدت إلى استسهال تجاوز القوانين، مشيراً إلى أن المديرية العامة للتنظيم المدني تطمح إلى تشريع قانون بناء جديد متطور وحديث ومعرباً عن اعتقاده بأن الأمور تحسنت عن الماضي وأن للتنظيم المدني ووزارة الأشغال خطة شاملة تطبقها، وأضاف أنه يجب إعادة تقييم قرار إلغاء وزارة التخطيط وتحويل دورها إلى مجلس الإنماء والإعمار بعد انتهاء الحرب عام 1990.
من ناحيته اعتبر رئيس إدارة التخطيط والبرمجة في مجلس الإنماء والإعمار إبراهيم شحرور أن القوى السياسية الحاكمة لا تعير اهتماماً للبيئة والعمران، إذ تغطي المخالفين والمتجاوزين على القانون، "لا أحد يطبق الخطة الشاملة الموضوعة التي وافقت عليها الحكومة عام 2009"، وأكد أن "المشكلة سياسية وليست تقنية، فالنظام السياسي حول الدولة إلى شبه دولة غائبة عن المصلحة العامة، مما فتح المجال أمام التعديات"، معتبراً أن "الوضع البيئي اليوم هو أسوأ مما كان عليه منذ 10 أعوام وهذا مؤشر خطر".
ورأى أن الشعب أيضاً يتحمل جزءاً من المسؤولية إذ بات معتاداً على التحايل على تطبيق القوانين، موضحاً أنه للوصول إلى بيئة سليمة يجب تأمين أبسط مقومات الحياة للإنسان حتى لا يتعدى على البيئة بسبب حاجاته اليومية.
بدوره أكد نقيب المهندسين في بيروت عارف ياسين أن السياسات الموضوعة أعطت المجال للتعدي على القانون من بعض المستفيدين، مشدداً على أن السلطة السياسية المسؤولة الأولى عما وصلنا إليه فهي من سمح بهذه العشوائية الكبيرة وكل القوانين التي أقرتها أتت بسبب ضغوط دولية ولكنها لم تنفذ بعد إقرارها، وكشف عن أن هناك تهديداً للسلامة العامة من خلال القانون الذي أقره أخيراً مجلس النواب بالسماح بإضافة طابقين فوق أي مبنى مع رخصة بلدية، خصوصاً أن ليس كل بناء تم تشييده يتحمل طابقين إضافيين، مشيراً إلى أن هناك صرفاً متوازناً وليس إنماء متوازناً في المناطق اللبنانية بسبب السلطة السياسية القائمة، وأضاف أن عدم وضع استراتيجية للتنمية المستدامة في لبنان تم تجاوزه قصداً لأن من يحكم البلاد تجار يعملون لمصلحتهم الخاصة.
ويرى بعض المراقبين أن القرارات العشوائية التي صدرت عن حكومات متعاقبة تسببت بالعمران العشوائي، إذ أصدر عدد من الوزراء استثناءات للمواطنين ببناء مبان سكنية من دون ترخيص مسبق، الأمر الذي أدى إلى تجاوز الضوابط والمعايير الموضوعة من قبل التنظيم المدني.
ويعتبر هؤلاء أن تلك القرارات تزامنت مع الانتخابات النيابية وأن هدفها كان عملياً رشوة المواطنين الذين يشيدون مباني مخالفة ولاحقاً يصدر قرار آخر يلزم التنظيم المدني تسوية أوضاع تلك المباني على الحال ذاتها وبغض النظر عن التشويهات التي تكون لحقت بالمنطقة، الأمر الذي يتسبب في ازدحام واكتظاظ، لا سيما أن معظم تلك المباني أضيفت إلى مبان قديمة وهي تفتقر إلى مرأب للسيارات والتصريف الصحي في حين تبرر وزارة الداخلية المسؤولة عن تلك الاستثناءات قراراتها بأنها لتسهيل شؤون المواطنين وتخفيف أعباء التراخيص، إلا أنها تؤكد إلزامها المواطنين عدم تجاوز تصنيف المنطقة ومعايير جمالية المكان.
ويضاف إلى تلك الإشكالات التي فاقمت العشوائيات غياب سيطرة الدولة عن مناطق واسعة في لبنان، إذ تشكل سيطرة أحزاب نافذة عائقاً أمام إمكان قوى الأمن الداخلي منع المخالفات العمرانية وحتى البناء من دون ترخيص مسبق ومن دون مراعاة شروط السلامة العامة.