في تسعينيات القرن الماضي اشتعل حريق كبير في مبنى المسافر خانة الكائن في حي الجمالية في القاهرة، وهو مبنى أثري يعود تاريخ بنائه إلى منتصف القرن الـ 18. أتت النيران على محتويات المبنى بالكامل، ومن بينها عدد من المحترفات المخصصة للفنانين المصريين. بين هذه المحترفات كان محترف الفنان المصري محمد عبلة الذي أتت النيرات على جميع محتوياته من أعمال فنية. وعلى رغم ألمه البالغ أمسك عبلة بكاميراه وراح يلتقط صوراً للبقايا المحترقة من أعماله، وما خلفه الحريق من دمار.
منذ هذه اللحظة الأليمة التي لا تغيب عن ذاكرته بدأ عبلة الانتباه إلى أهمية الصورة الفوتوغرافية، ومن هنا أيضاً بدأت علاقة محمد عبلة بالفوتوغرافيا كأداة للتسجيل كما يقول. أخذ اهتمام محمد عبلة بهذا الوسيط يتعمق مع الوقت، حتى إنه تعامل معه كبديل لرسم الاسكتشات السريعة، فالصورة الفوتوغرافية قادرة على تجميد اللحظة بكل تفاصيلها على نحو أفضل كما يقول، وهي الأقدر كذلك على استيعاب التعقيدات البصرية للمدينة وشوارعها، هذه المدينة التي اتسع شغفه بها وبتفاصيلها مع الوقت. تداخلت الفوتوغرافيا واشتبكت مع تجارب عبلة اللاحقة، لتصبح أحد المكونات الأساسية لملامح تجربته الفنية. تشي هذه التجربة الممتدة للفنان محمد عبلة مع الصورة الفوتوغرافية بكثير، فهي دالة في جانب منها على طبيعة شخصيته وقدرته على التعامل مع العراقيل والعقبات وتحويلها إلى انعطافات جديدة في مسيرته الفنية، والأهم كذلك أنها تشي باشتباكه المستمر مع الأحداث الاجتماعية الملحة والتعامل معها بصرياً.
سجل بصري
يمكن اعتبار تجربة عبلة مجموعة من الانعطافات والتحولات المرتبطة بالواقع الاجتماعي والسياسي في مصر وسجلاً بصرياً لعديد من القضايا الملحة في وقتها، فهو فنان دائم الاشتباك مع القضايا التي تشغل الشارع. تتجسد هذه السمات المميزة لتجربة عبلة الفنية في اختياراته لعناصر معرضه المقام حالياً في المركز الثقافي الألماني (غوتة) في القاهرة حتى 28 أكتوبر (تشرين الأول). يقام المعرض تحت عنوان "سيزيف" هذا البطل الأسطوري الذي يكرر فعل الصعود بلا كلل. كان عبلة قد استلهم أسطورة سيزيف اليونانية من قبل في مشروعه النحتي الذي أقامه في إحدى الساحات العامة في مدينة فالسرودة الألمانية، تجسيداً لروح التحدي التي يتسم بها الشعب الألماني كما يقول، وهو يستعيد هنا الأسطورة نفسها كمعنى دال على مسيرته الإبداعية التي تتسم بالتحولات ومعاودة البحث في مسارات إبداعية عدة، من التصوير إلى النحت والخزف واهتمامه اللافت بفن الكاريكاتير.
يستضيف معهد غوتة هذا المعرض تكريماً للفنان محمد عبلة بعد حصوله أخيراً على وسام غوتة، وهو أرفع وسام تمنحه ألمانيا للفاعلين في مجال الثقافة والفنون حول العالم. في هذا المعرض يقدم عبلة نماذج دالة على هذه الانعطافات المهمة في تجربته، تسجلها عدسات كاميرته، ونماذج من تجاربه المختلفة في مجالي التصوير والنحت. يضم المعرض كذلك مقتطفات من المقالات المنشورة في الصحف العربية والأجنبية، تسلط الضوء على تجاربه الفنية واشتباكه الدائم مع محيطه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أقام عبلة أول معارضه الشخصية بعد ستة أشهر فقط من تخرجه، وكان وقتها يتأمل بعين وجلة ملامح الحركة التشكيلية المصرية. كان مرتبكاً كما يقول، حتى إنه لم يدر كيف يرد على أحد رواد معرضه حين سأله عن ثمن إحدى اللوحات. في هذا الوقت المبكر من تجربته كان كل طموحه في الفن وقتها أن يحصل على مكان يستطيع العمل من خلاله، محترف صغير في قلب القاهرة، هذه المدينة المزدحمة التي ظل يرصدها ويتأمل وجوه سكانها، فهم أبطال تجربته مع الفن والحياة، هذه التجربه التي تميزت بالتمرد والحيوية. ظلت العلاقة وطيدة ومتشابكة بين محمد عبلة والشارع، وهي علاقة لا تتوقف عند حدود اللوحة، بل تتجاوزها إلى نقاط من التلاحم والارتباط، حرص هو على وجودها وتأكيدها في مناسبات عدة. أما أدواته فلا حدود لها، ابتداءً من اللون التقليدي المعالج بالفرشاة والسكين إلى الأصباغ والطباعة والفوتوغرافيا وأجهزة العرض الحديثة. تأثيراته مزيج من الخربشات وضربات الفرشاة السريعة والمتتالية على مساحة العمل المفتوح على مصراعية أمام جميع الإضافات.
معرض "سيزيف" يسرد لنا عبر عديد من الوسائط المختلفة، تجربة ثرية تبدو كسلسلة ممتدة ومتواصلة ومرتبطة بعضها ببعض. هي تجارب تستند في جانب كبير منها إلى الواقع وتتشكل تفاصيلها من وحي أحداثه وتحولاته.