تسأل داريا: "أتعلم كيف يكون شعورك حين تفقد منزلك وعملك ويخبرونك بأنك خسرت بلدك؟ وحين تجبر على اقتلاع نفسك من مكانك لمحاولة الهرب، من دون أن تعلم إن كنت ستنجح أم لا؟".
تضحك بمرارة ثم تضيف: "ولا بد أن تكون منحوساً جداً لكي تمر بهذه التجربة مرتين في حياتك، لكنني متأكدة بأنها لن تحدث مرة ثالثة، كما أنني على يقين بأننا سنعود إلى منازلنا بعون الله".
داريا وزوجها يوري وطفلاهما هم آخر المهجرين الذين اضطرتهم الحرب في أوكرانيا إلى النزوح. وهم من بين الأشخاص الذين دفعهم اليأس إلى الهروب من جنوب البلاد الذي تحتله روسيا بعد إجراء عمليات الاستفتاء بأمر من موسكو، وما تلاها من ضم للمناطق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أعلن فلاديمير بوتين يوم الجمعة أن أربع مناطق أوكرانية، ألا وهي دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوريجيا، أصبحت جزءاً من روسيا الاتحادية، مما أضعف أكثر احتمال إحلال السلام، وشكل إشارة إلى أن هذه الحرب الطويلة والدموية سوف تستمر وقتاً طويلاً بعد.
مرت داريا، 34 سنة، وزوجها يوري، 39 سنة، وابنتهما نتاليا، 10 سنوات، بهذه التجربة من قبل، فقد غادروا شبه جزيرة القرم بعد ضمها إلى روسيا، في أعقاب استفتاء مشابه، منذ ثمانية أعوام.
وكانت فترة مؤلمة حاولوا أن يتناسوها مع استقرارهم في ميليتوبول، حيث أعادوا بناء حياتهم من الصفر. عمل يوري محاسباً فيما عملت داريا في إدارة عملها الخاص في صناعة المصوغات.
لم تبرح العائلة مكانها بعد أن استولى الروس على المدينة، إذ قررت في البداية أن تبقى وتتحمل أطول فترة ممكنة، أملاً في أن تأتي القوات الأوكرانية لتحرير المنطقة قريباً.
شاركت داريا في مسيرات احتجاجية في الأيام التي تلت وقوع المنطقة بيد الروس. وأقنعت يوري بملازمة المنزل والعناية بالطفلين، لافتة نظره إلى أن اعتقاله سيؤدي به إلى التجنيد مع القوات الروسية المسلحة.
فقد طرق مسؤولون من الانفصاليين، يرافقهم جنود روس، بابهم ثلاث مرات من قبل. ونجح في الخروج كل مرة قبل أن يصلوا إلى المنزل. قرر الزوجان في النهاية المغادرة بعد أن دعت موسكو إلى إجراء الاستفتاء.
ويتابع يوري: "أصبحنا أمام احتمال أن نضطر إلى أخذ الجنسية الروسية وبعدها سيلحقونني بالجيش. كان هذا مصدر قلق حقيقي بالنسبة إلى كثيرين: سمعنا عن بعض الرجال الذين كسروا أذرعهم (نتيجة حادثة) لتفادي التجنيد".
كما ساد بعض القلق من أن تصطحب داريا والأطفال إلى روسيا بموجب نظام "الفرز" الذي تطبقه موسكو، والذي اختفى بسببه آلاف الأشخاص عبر الحدود.
"لو حصل ذلك، كنت واثقاً من أننا لن نلتقي بعد ذلك أبداً، ولم نكن قادرين على قبول هذا الاحتمال"، كما شرح يوري، بعد وصولهم إلى مدينة زيتومير في أعقاب هروبهم.
أعاد القرار إحياء ذكريات مغادرتهم شبه جزيرة القرم. وتتكلم داريا ويوري عن شعورهما بالغضب ثم بالخوف الشديد، مع إعلان نتيجة الاستفتاء: إذ زعم بأن 97 في المئة من السكان صوتوا لخيار الانضمام إلى روسيا الاتحادية بعد مشاركة بلغت نسبتها 83 في المئة في الاستفتاء.
كنت أنقل أخبار الاستفتاء حول القرم في ذلك الوقت، وأشرت، إلى جانب زملائي، إلى ضرورة مشاركة الأوكرانيين وتتار القرم في التصويت لكي يصبح أصعب على الكرملين، مع وجود الإعلام العالمي، أن يزور النتائج ويأتي بنسب مرتفعة للغاية.
ويفيد يوري: "كنا من بين الذين لم يشاركوا. أعرف أن بعض الحجج تؤيد التصويت لكننا فكرنا بأن لا طائل من ذلك بينما سيزورون النتائج على أي حال. ربما وجد الأجانب صعوبة في فهم هذا، ولكننا اعتبرنا بأنه من الخطأ المشاركة في شيء فرض على بلدنا بشكل غير شرعي".
كان إكراه الأوكرانيين والتتار على المشاركة في التصويت على يد الانفصاليين والروس محدوداً في ذلك الوقت على رغم وجود براهين على التهديد. وبالنسبة إلى داريا ويوري، لم تكن مغادرة القرم برفقة نتاليا -على متن قطار من العاصمة سيمفيروبول إلى كييف- مهمة شاقة كثيراً في ذلك الوقت.
ويضيف يوري: "كان الوضع محزناً كثيراً لأننا نترك وراءنا أفراد أسرتنا المقربين. لم نشعر بتهديد جسدي ولكن أحد أصدقائنا من التتار تعرض لضرب مبرح على يدهم (الانفصاليين) لدرجة أنه لم يتمكن من السير عدة أسابيع، وظننا أن دورنا قد يحين بعده".
لكن تجربتهم مع الاستفتاء اختلفت كثيراً هذه المرة، إذ زار المسؤولون المحليون والجنود حيهم وأخبروهم بأن عليهم التصويت، واستخدموا هذه الزيارات لتقفي أثر أشخاص يبحثون عنهم.
وتخبر داريا قائلة، "أظهروا اهتماماً بيوري كذلك. وكان يتعمد المغادرة دائماً عندما يسمع بأنهم قد يأتون. ظلوا يسألون عنه، وكانوا مخيفين جداً".
"أحد جيراننا خدم سابقاً في الجيش السوفياتي، وفي أفغانستان. كلما أتى الروس، كان يأتي ويجلب الفودكا ويضربهم على ظهرهم ممازحاً ويشاركهم الفودكا والقصص، وهو ما خفف من وطأة التوتر في الجو قليلاً مع أنني كنت قلقة في شأن تصرفاتهم في حال ثملوا".
"في إحدى الزيارات، أتى معهم جندي من آسيا، أظنه كان من الأوزبك. أوشكت على ذكر صديقنا المسلم من التتار لكي أجد أرضية مشتركة معه ولكنني منعت نفسي من ذلك. كنت سأخطئ بذكر أيامنا في القرم".
أصبح الوضع خطراً خلال آخر زيارة للمسؤولين. "كسروا بضعة أغراض لكن مصدر القلق الحقيقي كان شاباً، نحيلاً ولديه بثور، ووجه أشبه بالجرذ. كان يشعرني دائماً بعدم الارتياح، بسبب نظرته إليَّ. بدأ يلمسني واقترب مني كثيراً وقال: (سأراك مجدداً، أعرف عنك). شعرت بالغضب وصرخت به أن يخرج، ثم أخرجه جارنا والمسؤولون الآخرون".
في مساء ذلك اليوم، قررت داريا ويوري بعد نزهة طويلة أنه عليهما الرحيل، إذ ساورهما القلق في شأن ما قد يحل بداريا والأطفال في حال اعتقال يوري أو اقتياده إلى التجنيد، لكنهما علما بأن تخطي عملية الفرز ونقاط التفتيش الروسية سيتطلب المال من أجل دفع الرشى.
بعد جهد شاق، حصلت داريا ويوري على المساعدة، بما في ذلك من أحد المسؤولين، لكي يهربا: لكنهما لا يريدان الخوض في تفاصيل الاتفاق أو المبلغ الذي دفعاه.
ويقول يوري: "كان كل ما نملك، كما أننا اقترضنا المال. اضطررنا إلى التزام الهدوء وأخبرنا الأطفال في آخر لحظة بأننا مغادرون. عشية رحيلنا، أثناء توضيب أغراضنا". أضافت داريا: "أتذكر حين غادرنا القرم، وشكرنا الله أننا لن نضطر إلى تكرار ذلك؟".
فصل يوري عن باقي أفراد العائلة عند إحدى نقاط التفتيش وجرد من ملابسه بغية تفتيشه بشكل دقيق. "كانوا يبحثون عن الوشوم لكي يتأكدوا إن كنت نازياً. لدي وشمان لفريقي كرة قدم، أحدهما لفريق شاختار دونيتسك والثاني لـ(تي أس كاي) [تي أس كاي سيمفيروبول، وهو فريق في القرم]. قلقت بعض الشيء في شأن وشم (تي أس كاي)، ولكن لا أظنهم لاحظوا".
بعد مرور ثلاث ساعات، سمح ليوري بالانضمام إلى عائلته وبعدها بفترة وجيزة، قطعوا آخر نقطة تفتيش روسية. وقعت غارات صاروخية وقذائف قرب سيارتهم، وكانت إحداها قريبة جداً.
استهدفت الهجمات موكبين مدنيين منذ إعلان ضم المناطق الجديدة، وأسفرت عن مصرع 25 شخصاً في زابوريجيا فضلاً عن 20 آخرين في إقليم خاركيف.
تعقب داريا على الموضوع بقولها "كانت القنابل مخيفة، لكننا سعيدون لخروجنا من الاحتلال الروسي، ومرتاحون جداً. قياساً إلى التقدم الذي يحرزه جيشنا، قد نعود إلى مليتوبول أقرب مما يعتقد كثيرون. وفي يوم من الأيام، سنسبح مجدداً في بحار شواطئ شبه جزيرة القرم. لا يمكن التخلي عن الأمل".
© The Independent