منذ أعوام طويلة تحارب المرأة السودانية على طريقتها القوانين والمعتقدات التي تعتبرها مجحفة في حقها وتنادي بتغييرها ودائماً ما تسعى إلى سن قوانين تتناسب معها ومع تطور الحياة السريع وتبدل مفاهيم المجتمعات.
وبالفعل نجحت نسويات سودانيات في تغيير عدد من القوانين التي كانت "تخنق نساء السودان" على حد تعبيرهن، في مقدمتها قانون الأحوال الشخصية الذي تم تعديله.
ولكن عندما يتعلق الأمر بالسلوكيات التي يخاف منها المجتمع، نجدهن في دوامة مع صراع صعب ومخيف يستهدف العادات والتقاليد المتوارثة التي يعتبرها المجتمع غير قابلة للتبديل ولا حتى النقاش.
ومن بين تلك المواضع التي كانت وما زالت من أكثر الأمور حساسية مسألة إجهاض الأجنة، سواء كانت السيدة التي تريد الإجهاض متزوجة أو مغتصبة أو عزباء.
إحصاءات غير دقيقة
لا تتوافر إحصاءات دقيقة في السودان في ما يتعلق بحالات الإجهاض سواء كانت يومية أو سنوية، وذلك لحساسية الأمر ونظرة المجتمع وغيرهما من الاعتبارات التي جعلت حالات الإجهاض إن لم تكن كلها، فإن غالبيتها تتم في السر بواسطة أطباء أو قابلات أو حتى في المنازل المغلقة من دون مساعدة أحد.
ولكن بحسب إحصاءات أجريت في ملف ما بعد الإجهاض، فإن هناك 96 في المئة من النساء اللواتي يبحثن عن خدمات طبية لما بعد الإجهاض أو أثناء حدوثه، ولا يجدنها، خصوصاً أن "الإجهاض غير الآمن هو المتاح فقط في السودان"، بحسب نساء خضن هذه التجربة، إذ يؤكدن أن لا توجد عيادات تدعم خيار الإجهاض لكل السيدات.
كما أسهمت القيود القانونية والثقافية والاجتماعية في عدم الحصول على إحصاءات في هذا المجال.
الناشطة النسوية أمامة سليمان قالت إن "مسألة الإجهاض في المجتمعات العربية عامة والمجتمع السوداني خصوصاً، من الأمور المحرمة التي لا يتم النقاش فيها. وعندما تحصل تتسم بسرية كبيرة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بإجهاض طفل غير شرعي. ولذلك فإن التعامل مع هذه الحالات يتم في سرية كبيرة ومن دون تداول أسماء الحالات، وغالباً ما تحدث عملية الإجهاض في ظروف سيئة للغاية، إذ يقوم بها أطباء من دون ترخيص مقابل مبالغ مالية طائلة في منازل القابلات وفي أوضاع أقل ما يقال عنها إنها خطرة بعيدة كل البعد من الشروط الصحية المطلوبة، مما يعرض حياة السيدة للخطر الذي يصل إلى حد الموت أو النزيف أو حتى إزالة الرحم".
وعن نظرة المجتمع إلى المرأة التي تخضع للإجهاض ووصفها بـ"الجانية"، قالت سليمان "عندما ترغب المرأة في إجهاض جنينها فإنها لا تصل إلى هذا القرار إلا في حال كان الرجل غير مسؤول أو لا يريد الاعتراف بالجنين وغيرها من المشكلات الكثيرة التي تواجهنا كمدافعات عن هؤلاء السيدات. لذلك ترى هذه السيدة التي تعتبر عاقلة وبالغة أن أنسب قرار هو إجهاض الجنين حتى لا يعاني في حال ولادته الوصمة الاجتماعية التي ستظل تلاحقه وحتى لا تعاني هي أيضاً في حال كان الطفل غير شرعي نظرة المجتمع، وهي تدرك أنها ستصبح بعد الإنجاب منبوذة من محيطها ومجتمعها".
وعن الحلول المقترحة اعتبرت سليمان أن "الإجهاض يجب أن يكون قانونياً ومكفولاً لكل السيدات لأنه في كل الأحوال سيحدث حتى إن كان ممنوعاً من الناحية القانونية. ويتم تسجيل مئات حالات الإجهاض أسبوعياً، ونرى حالات توفيت أثناء العملية التي تقوم بها في الغالب قابلة ليست ملمة بما يكفي بحالات كهذه، فتجرى العملية بصورة بدائية من دون تعقيم وتطهير. ولتفادي تداعيات مثل هذه الممارسات غير الآمنة التي تودي بمئات النساء سنوياً، لا بد من إعادة النظر بالقوانين والتشريعات. فعندما تصبح الأمور قانونية سنتخلص من هموم ثقيلة أخطرها الموت، وسنقضي على مافيا الإجهاض التي تتاجر بهموم السيدات وتوفر حبوب الإجهاض بآلاف الدولارات والعيادات التي تقوم بهذه العمليات بعيداً من أعين الدولة بمبالغ ضخمة وتتعرض خلالها النسوة للابتزاز وغيره من الأمور".
العار ونظرة المجتمع
ينظر المجتمع إلى الإجهاض بصورة عامة على أنه "محرم وعار كبير، لأنه يرتبط دائماً بالحمل غير الشرعي الذي غالباً ما يتم إجهاضه".
وعلى رغم عدم وجود إحصاءات دقيقة أيضاً عن نسب الحمل غير الشرعي في السودان، إلا أنه وبحسب ناشطات في حقوق المرأة، النسب كبيرة جداً ولا يتم الإفصاح عنها لأسباب اجتماعية وقانونية.
الإجهاض في القانون السوداني لعام 1991 تحت المواد 135 و136 و138، إذ نصت المادة 135 على أن من يتسبب عمداً في إسقاط جنين امرأة يعاقب بالسجن لمدة ثلاثة أعوام أو بالغرامة أو الاثنين معاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن تسقط العقوبة في حال كان الغرض من الإجهاض حفظ حياة الأم أو كان الحمل نتيجة للاغتصاب ولم يبلغ 90 يوماً، أما إذا كانت فترة الحمل أكثر من 90 يوماً فتصل العقوبة إلى خمس سنوات من السجن وغرامة مالية وقد يحكم للشخص بدفع الدية، علماً أن السودان أول دولة عربية شرعت حق الإجهاض في حال الاغتصاب، وذلك بعد أزمة دارفور وخوض حروب تتعرض فيها آلاف النساء للاغتصاب وحرك ملف الاعتداءات الجنسية القانون وأسهم في تثبيته.
وفي هذا السياق، قال المحامي والقانوني شرف الدين الهادي إن "القانون السوداني متقدم في هذه المسألة ولم يكن القانون سوى مناصر للمرأة ومتقدم على قوانين بلدان كثيرة ما زالت حتى الآن تمنع المغتصبة من إجهاض الجنين".
وعن مدى حقيقة العمل بالقانون في ما يتعلق بإجهاض الجنين، قال الهادي "حتى الآن الدولة تسمح بإجهاض جنين المغتصبة، بل إن الإجهاض يتم فوراً قبل المحكمة أصلاً وبمجرد عرض الإثباتات الأولية حتى لا تتقدم الفتاة في أشهر الحمل، ويتم هذا الأمر في أفضل الظروف مما يضمن سلامة الفتاة وعدم تعرضها لأية مضاعفات".
أما عن وضع قوانين تبيح إجهاض أي إمرأة تريد ذلك، فأعلن الهادي أن "الأمر يتعلق بنصوص شرعية، وحتى في الدول المتقدمة من النادر أن نجد عيادات للإجهاض. وفي حال وفرنا عيادات للإجهاض، فإن ذلك سينعكس سلباً على المجتمع وسيكثر الحمل خارج الإطار الشرعي".
عيادات سرية
أطباء كثر استغلوا حاجة فتيات وسيدات لإجراء عمليات إجهاض وخصصوا عياداتهم لتلك العملية بعيداً من أعين الدولة وبمبالغ طائلة.
ومن بين أشهر الأطباء الذي سجن لاحقاً الطبيب عبدالهادي الذي أجرى أكثر من 10 آلاف عملية إجهاض وعندما تم القبض عليه قال إنه أنقذ "10 آلاف أسرة من الفضيحة"، مؤكداً أن 90 في المئة من اللواتي أجرى لهن العملية هن من الطالبات الجامعيات"، واعتبر أن الحمل خارج إطار الزواج يولد العنف ومشكلات أكثر تعقيداً.
طبيب آخر رفض ذكر اسمه قال إن "هناك عيادات كثيرة في الخرطوم تجري عمليات إجهاض سرية، ويقصدها المئات يومياً، وهي الوسيلة الوحيدة لتنفيذ العمليات لأن الأمر محرم في القانون".
وكشفت إحدى القابلات عن أن "عمليات الإجهاض لا تتم داخل المدن فقط، بل حتى في القرى إذ يتم جلب الفتيات بواسطة أسرهن ويطلبون من القابلة إنزال الجنين وليس أمام القابلة سوى استخدام أدوات بسيطة لتنفيذ العملية بسرية تامة، على رغم أن بعض الفتيات يتعرضن للنزيف وخطر الموت إلا أنه الخيار الوحيد في مجتمع لا يرحم".
وتؤكد "يجب أن تنظر الدولة إلى الأمر بجدية أكثر باعتبار أن معظم الأسر تكون موجودة في عملية إجهاض بناتها، لذلك يجب أن يصبح الأمر قانونياً لإنقاذ الفتيات من خطر النزيف الذي إن حصل لن يكون بمقدور القابلة نقل أي فتاة إلى المستشفى خوفاً من الملاحقة القانونية".
رفض البعض
وفي ظل تعالي أصوات كثيرة بضرورة وضع قوانين تسمح بالإجهاض وترخيص عيادات لذلك، إلا أن هناك من يرى أن هذا الأمر سيؤدي إلى مشكلات كبيرة المجتمع في غنى عنها، فيما يعتبر آخرون أن الأمر غير مقبول ولن يوافق عليه.
وفي هذا الصدد قال الاستشاري الأسري صديق حامد إن "مساعدة الأسر لبناتها في عمليات الإجهاض لا تعني أنها تريد ترخيص عيادات لهذا الأمر حتى تأتي الفتاة مرة أخرى لوحدها. الخطأ لا تتم معالجته بخطأ أكبر والعيادات هذه تريد العمل من أجل الكسب المادي، ولا يهمها المجتمع وعاداته وتقاليده".