أعلن، قبل أسابيع، وزير الثقافة اللبناني في حكومة تصريف الأعمال محمد وسام المرتضى، أن إعادة ترميم مسرح "قصر البيكاديللي" العريق، وضعت على السكة الصحيحة، بعدما التقى بالمنتج اللبناني صادق أنور صباح الذي أبدى رغبته في ترميم هذا الصرح الثقافي الفريد، بهدف استخدامه في تصوير أعماله الدرامية. لكن المعلومات تشير إلى أن الاتفاق قد فشل، وتوقفت المحادثات بين الوزير والمنتج لأسباب عدة منها قانونية وأخرى إنتاجية. وبذلك تكون عودة الحياة إلى مسرح "قصر البيكاديللي" قد تجمدت ربما إلى أجل غير مسمى. كما وأن الخلافات القضائية بين الجهة المالكة للمسرح "كفالات" ووزارة الثقافة، تعوق خروج "البيكاديللي" من النفق المظلم الذي بدأ مع الحريق الذي اندلع في عام 2000؛ وأهم العوائق القانونية، وهو أن الوزارة تريد أن تستملك هذا الصرح، لاعتباره من المقار الثقافية الحضارية والتراثية التابعة للدولة اللبنانية، أما الجهة المالكة فترفض هذا الكلام، لذا ما زالت الأمور عالقة في القضاء إلى حين بتها نهائياً.
كيف ولدت أسطورة مسرح "قصرالبيكاديللي"، وما الخصائص التي تميز بها حتى أصبح بمثابة أسطورة بيروت وذاكرتها الفنية والمسرحية؟
تاريخ مسرح ومدينة
كان المسرح جزءاً من "مركز البيكاديللي"، وكان هذا المركز شركة مساهمة لبنانية، رأسمالها مليونان و500 ألف ليرة، مدفوعاً بكامله. أشرف على هندسة البناء السيد جان شمسيو، مهندس مطار أورلي في باريس. يزين مداخله الرخام ويشمل محال تجارية ومكاتب من الدرجة الممتازة، وصالة سينما تتسع لـ800 مقعد، وحلبة للتزلج على الجليد، وبولنغ، وسائر أنواع التسلية، وحديقة أطفال في الطبقات الأرضية، وصالة شاي، وسناك بار في الطبقة السابعة، إضافة إلى مطعم يشرف على المدينة كلها. أما في الطبقتين الثالثة والرابعة تحت الأرض، فيوجد كاراج مساحته أربعة آلاف و500 متر مربع، مع توافر عدد من المصاعد الكهربائية، منها مصاعد مخصصة لنقل البضائع. نافس مركز "البيكاديللي" مركزاً مجاوراً، وهو "مركز ستراند التجاري"، لكن "البيكاديللي" تفوق سريعاً بأناقته، وبات مسرحه "جوهرة" شارع الحمراء. أما المهندسان وليم صيدناوي والفرنسي روجيه كاشار فقد أستوحيا شكله من قاعة للأوبرا في البرتغال، وتم اقتباس اسمه من "بيكاديللي سكوير" في لندن.
افتتح قصر البيكاديللي نشاطه في السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) 1966 بـ"فرقة أوبريت نمساوية تابعة لأوبرا فيينا"، ثم انتقل إلى العروض السينمائية، وعرض فيلم "الدكتور جيفاغو"، من إخراج البريطاني دافيد ليفين، وتمثيل عمر الشريف وجولي كريستي. بعد هذا الفيلم التاريخي ختم قصر البيكاديللي عام 1966 بعرض فيلم "باريس هل تحترق" من إخراج الفرنسي رينيه كليمان، وتمثيل جان بول بيلموندو، شارل بواييه، ولسلي كارون. وأعلن استقبال فيروز والأخوين رحباني في مسرحية "هالة والملك"، مطلع العام التالي.
بين 1957 و1966، غنت فيروز في لبنان وسوريا والأردن والكويت، وأحيت مجموعة من الحفلات في أميركا اللاتينية وبريطانيا، والغريب أنها لم تظهر على المسرح في بيروت طوال هذه السنوات إلا في مناسبتين. كانت المناسبة الأولى تكريم الأخطل الصغير في قاعة الأونيسكو في 1961، والثانية في عرض "يوم الوفاء" تكريماً للجيش اللبناني على مسرح سينما الكابيتول في نهاية عام 1962. عرضت مسرحية "هالة والملك" من التاسع إلى 15 يناير (كانون الثاني)، وشكلت منعطفاً أساسياً في مسيرة فيروز والأخوين رحباني. حققت هذه التجربة نجاحاً كبيراً، وأعلن تمديد عروضها في حفل أقامه في هذه المناسبة مستثمرو قصر البيكاديللي محمود ماميش والأخوان هاشم وخالد عيتاني، وجاء هذا الاحتفال ليعلن انتقال المسرح الرحباني إلى المدينة.
انطلاقة رحبانية فيروزية
واصل القصر نشاطه، غير أن فيروز غابت عنه في العام التالي، وعادت في فبراير (شباط) 1969 لتلعب دور بائعة بندورة في مسرحية "الشخص". فاجأت هذه المسرحية الجمهور، كما فاجأت الإعلاميين، وبدت جديدة تماماً من حيث الموضوع والحوارات والإخراج. تتابعت العروض على مدى ثمانية أسابيع متواصلة، واستقطبت اهتماماً صحافياً قل نظيره، معلنة انتقال المسرح الرحباني إلى قلب العاصمة اللبنانية. تعددت الآراء في تقييم هذا العمل، وكانت أغلبها إيجابية بشكل كبير. رأى بعضهم فيها إعلاناً لدستور "المسرح الانتقادي السياسي والاجتماعي"، واعتبر أنها رسمت لفيروز "شخصية جديدة أحبها الناس وأقبل عليها ورسخ فيها"، وبات الكل يترقب إطلالتها المسرحية التالية. في فبراير (شباط) 1970، عادت فيروز إلى قصر البيكاديللي للمرة الثالثة لتمثل دور "هيفا" في مسرحية جديدة بعنوان "يعيش يعيش".
تبدأ المسرحية بانقلاب في إمبراطورية تدعى "ميدا". يهرب الإمبراطور المخلوع ويلجأ إلى دكان تديره هيفا، متخفياً تحت قناع شخص بسيط اسمه برهوم، ويوهم الجميع بأنه مطلوب من الشرطة بسبب ضربه لزوجته وحماته. تعيش الإمبراطورية سلسلة من الاضطرابات، وتنتهي بانقلاب على الانقلاب، ويعين برهوم إمبراطوراً جديداً، ويأمر بالبحث عن الفارين الجدد في الدكان الذي آواه.
نجحت "يعيش يعيش" نجاحاً فاق نجاح "الشخص"، ومددت عروضها حتى منتصف نيسان، وكانت حديث البلد طوال مدة عرضها. بعدها، أعاد الأخوان رحباني عرض "الشخص" لبضعة أيام، وظهرت بائعة البندورة من جديد وهي ترتدي ثوباً ارتدته هيفا في "يعيش يعيش".
عروض عربية وعالمية
بعد "يعيش يعيش"، ثم "الشخص" من جديد، قدم الأخوان رحباني في العام نفسه "صح النوم"، إلا أن هذه المسرحية لم تحصد النشاط المنتظر. بدأت عروض المسرحية مساء الـ11 من نوفمبر (تشرين الثاني)، وانتهت عروضها في السادس من ديسمبر (كانون الأول)، قبل أن تكمل الشهر الواحد. غابت فيروز عن قصر البيكاديللي في عام 1971، وقدمت "ناس من ورق" في دمشق، ثم جالت في أميركا حيث حصدت نجاحاً منقطع النظير، وعادت متوجة في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) إلى بيروت، ففتح صالون الشرف لاستقبالها بحضور رسمي من وزارة الإعلام ووزارة السياحة، وشرعت في الاستعداد لتدشين عروض المسرحية الجديدة في 15 فبراير (شباط)، وفقاً للتقليد المتبع. وقد غنت على خشبة هذا المسرح النجمة العالمية داليدا لسنوات متتالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن الأعمال التي شهدها المسرح كانت "صيف 840" لمنصور الرحباني، كما قدم زياد الرحباني مسرحيتين هما "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" و"لولا فسحة الأمل". وهذه المسرحيات كانت لها حصة إلى جانب صالة السينما التي عرضت أهم الأفلام العربية والعالمية. ومن نجوم مصر الذين قدموا مسرحياتهم على مسرح "البيكاديللي" عادل أمام الذي عرض "الواد سيد الشغال" و"الزعيم"، كذلك شيريهان التي عرضت مسرحية "شارع محمد علي". وكذلك فريد شوقي وهشام سليم، وسمير غانم ويسرا وحسين فهمي... كل هؤلاء قدموا مسرحياتهم على خشبته. وكانت مسرحية "ومشيت بطريقي" آخر أعمال الفنان الراحل ملحم بركات، وفرقة عبدالحليم كركلا التي أبدعت بلوحاتها الراقصة، وصوت ماجدة الرومي الذي صدح في أرجائه، وميراي ماتيو وشارل أزنافور، وكثير من الأسماء التي لا مجال لذكرها كلها. نشاط هذا المسرح لم يتوقف خلال الحرب الأهلية اللبنانية، لكنه انتهى بعد حريق، فانطفأت أضواؤه واحترقت ستائره وودع الحياة الصاخبة، فمتى يعود؟