بعد شهر من الاحتجاجات المتواصلة في مختلف المدن الإيرانية يبدو أن طهران ماضية نحو التصعيد ضد معارضيها الأكراد الذين تحملهم مسؤولية إشعالها وهذه المرة عبر ضغوط متزايدة تمارسها ضد إقليم كردستان العراق لتجريدهم من السلاح أو طردهم، بعد تعرضهم لضربات إيرانية موجعة الشهر الماضي.
الموقف الإيراني جاء على لسان رئيس أركان القوات المسلحة اللواء محمد باقري عندما شدد، الأحد الماضي، على أن بلاده "لن تتحمل وجود ثلاثة آلاف إرهابي مسلح (المعارضون الأكراد) خلف الحدود وستتصدى لهم"، وأكد أنه خيّر سلطات إقليم كردستان العراق بين "تجريد الإرهابيين من السلاح أو طردهم أو أن نقوم نحن بذلك"، متهماً إسرائيل "بتدريب أفراد في هذه المجاميع وإرسالهم إلى إيران لارتكاب عمليات إرهابية".
شروط محرجة
وتزامنت تصريحات باقري مع محادثات أجراها في طهران وفد عراقي برئاسة وزير الأمن الوطني قاسم الأعرجي وعضوية وزير داخلية إقليم كردستان ريبر أحمد مع وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان الذي أبلغ الوفد العراقي بأن بلاده "لن تتحمل بعد الآن تهديدات الجماعات الإرهابية في الإقليم".
ويرى مراقبون أن طهران وضعت أكراد العراق أمام خيارات صعبة تحتم عليهم اتباع دبلوماسية تجنبهم التضحية بقضية أقرانهم الإيرانيين الذين يتشاركون معهم بروابط قومية وتاريخية، على حساب مصالحهم الاقتصادية مع الإيرانيين.
هذا الموقف يطرح تساؤلات حول الخيارات المتاحة أمام حكومة الإقليم للتعامل مع الملف في ظل الشروط الإيرانية مع إمكان إعادة سيناريو طرد مجموعة "مجاهدي خلق" المعارضة لطهران، والتي غادر آخر أفرادها العراق في عام 2016، على التنظيمات الكردية الإيرانية؟ وكيف يمكن أن تتعامل الأخيرة في ما لو أصبح قرار مغادرتها أمراً واقعاً؟
تصعيد غير مبرر
ويقول أكراد العراق إن التنظيمات الكردية الإيرانية الموجودة في الإقليم تخلت منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي عن أنشطتها المسلحة بموجب تفاهم ثنائي يقضي بممارسة النشاط السياسي والمدني حصراً، مراعاة لمصالح أربيل مع طهران وهو ما يؤكده السياسي الكردي فائق كولبي، الذي يرى أن هذه التنظيمات "منذ عقود اتبعت سياسة مرنة وتخلت إلى حد ما عن النضال المسلح مراعاة لمصالح إقليم كردستان ونلاحظ أنها لم تفعل نشاطها المسلح على رغم فوران الاحتجاجات الحالية ضد نظام الحكم في طهران، بخاصة في المدن الكردية، وهي تدرك جيداً أن الضغط الإيراني على الإقليم حق يراد به باطل"، واستدرك "لكن واقعياً فإن الإقليم أصبح بين خيارين صعبين، هل سيتمكن من الموازنة بين مصالحه مع طهران وعلاقته مع التنظيمات الكردية؟ في هذه المعادلة ليس أمامه سوى الخيار الدبلوماسي والسياسي كحل أمثل لإقناع الإيرانيين بالتهدئة عبر إشراك الأطراف ذات العلاقة، بينها حكومة بغداد والمجتمع الدولي مقابل إعطاء ضمانات بألا تعاود هذه القوى نشاطها المسلح".
سكرتير حزب "كوملة" الكردي الإيراني المعارض عبدالله مهتدي كان صرح في وقت سابق، بأن حكومة الإقليم لم تطلب من حزبه "المغادرة لأننا لم نكن يوماً مصدر صداع لتجربة الإقليم التي ندعمها بقوة" وتساءل "إلى أين يمكن أن يذهب آلاف الأشخاص؟ هذا الأمر ليس سهلاً".
ظروف مختلفة
وإزاء إمكان تطبيق سيناريو طرد "مجاهدي خلق" من العراق على هذه التنظيمات، يرى كولبي أن "هذا الخيار لن تكون له نتيجة وسوف يعمق الأزمة، فالمسألة تتعلق بقضية قومية تمتد لعقود طويلة لشعب يطالب بحقوق وحريات في إطار الدولة الإيرانية، كما لا يعقل أن تقدم حكومة الإقليم تنازلات بهذا المستوى لمطلب لا يبدو عادلا"، مضيفاً "باعتبار الإقليم جزءاً من العراق يجب أن يكون حازماً، مع مراعاة المصلحة المشتركة للبلدين، عبر إلزام هذه التنظيمات عدم إعادة نشاطها المسلح، إذ ليس من المنطق حرمانها من نشاطها السياسي والمدني بحجة أنها تدعم الاحتجاجات".
وبالنسبة إلى مستوى الإمكانات العسكرية للمعارضة الكردية الإيرانية رأى كولبي أنها "محدودة التأثير بدليل أن نحو 80 في المئة من عناصرها وأسرهم يعيشون في المخيمات التي تقصفها طهران، على رغم أنها لا تمارس أنشطة مسلحة باستثناء بعض الحالات لأن معظم نشاطها يرتكز على الشؤون التنظيمية وليس العسكرية"، وأردف "من الخطأ أن تخضع بغداد وأربيل لإملاءات طهران التي تعمل لإظهار الاحتجاجات على أنها مؤامرة مدفوعة من قوى خارجية وكأن ما يجري ليس ناجماً عن أزمة في الحقوق والحريات والتدهور الاقتصادي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان ممثل حكومة الإقليم في طهران ناظم دباغ كشف في تصريحات صحافية عن أن الإيرانيين طلبوا من الوفد العراقي "ضرورة تجريد القوى الكردية الإيرانية من السلاح وإلا سيقومون هم بذلك"، معرباً عن أمله في أن "تراعي القوى الكردية الإيرانية الأخطار المحدقة بالإقليم".
وفي أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي أطلق "الحرس الثوري الإيراني" في إطار عملية عسكرية تستهدف معاقل التنظيمات الكردية المعارضة، أكثر من 70 صاروخاً طاولت مقار ومكاتب في محافظتي أربيل والسليمانية، مما أدى إلى مقتل 14 شخصاً وإصابة 58 آخرين بينهم مدنيون بعدما وجه الإيرانيون لهذه التنظيمات اتهامات بالتورط في إذكاء الاحتجاجات التي تشهدها المدن الإيرانية، تحديداً الكردية، على خلفية وفاة الشابة الكردية مهسا أميني خلال احتجازها من قبل "شرطة الأخلاق" بتهمة مخالفتها "قواعد ارتداء الحجاب".
حيادية سلبية
من جهته، يرى المحلل الأكاديمي في الشؤون الإيرانية هردي مهدي أن "إقليم كردستان انتهج في هذا الملف سياسة محايدة إلى حد ما، إلا أن طهران تعتبر هذا الحياد سلبياً وتريد موقفاً حازماً بمعنى حماية الحدود وفق ما تمليه العلاقة بين دولتين جارتين، لكن هذا لا يمكن أن ينطبق على كيان الإقليم الذي هو ثمرة حركة نضال الشعب الكردي وتأسس كواقع فرض على الدولة العراقية"، وتابع "من هذا المنطلق فإن الإقليم ملزم بمراعاة رأي الشعب الكردي وحقوقه أولاً قبل أن يراعي مصالح بغداد، وعليه فإن حكومة أربيل لا يمكنها نزع سلاح هذه التنظيمات، وهذا ينطبق على حزب العمال الكردستاني المعارض لأنقرة، كما انطبق على الحزبين الرئيسين في الإقليم عندما فشلت طهران نفسها في الاستجابة لطلب النظام السابق في بغداد نزع سلاحهما".
ويشير مهدي إلى أن "أربيل وطهران تربطهما علاقات دبلوماسية وأمنية جيدة ويصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى 10 مليارات دولار، مما أسهم في استقرار المناطق الحدودية، وأربيل بإمكانها تقديم المزيد، لكن طهران لا تؤمن بمبدأ الشراكة والتحالفات بل تريد شريكاً خاضعاً، كما فعلت في لبنان واليمن والعراق، وهذا لا يمكن تطبيقه على الإقليم الذي إذا ما رضخ لسيناريو مجاهدي خلق فإنه سيكون بمثابة الانتحار أمام الشعوب الكردية في المنطقة مجتمعة"، وتابع "أما إذا اختارت أربيل الصمت، فإن طهران ستكون المتضرر الأكبر نتيجة الموقف الغربي الذي سيزداد تشدداً تجاه السياسة الإيرانية وقبله موقف الشعب الكردي عموماً لأن ذلك سيمثل انتهاكاً لسيادة بلد إلى جانب تداعياته من الناحية الإنسانية وهذا سينعكس سلباً على استقرار أمن الحدود المشتركة وستعاود التنظيمات نشاطها المسلح".
ويتفق مهدي مع كولبي في استبعاد تكرار سيناريو "مجاهدي خلق" قائلاً إن "الظروف مختلفة في كل جوانبها، إذ إن هذه الجماعة لم تحظ في وقتها بتأييد من الشارع العربي وتم إخراجهم خلال ولاية حكومة نوري المالكي الذي يميل إلى طهران، بينما أقصى ما يمكن أن تفعله أربيل اليوم هو إسكات صوت السلاح وليس نزعه والإيرانيون أذكياء ويعلمون أن استخدام القوة سيكلفهم تحويل النضال المدني إلى المواجهة المسلحة ونقلها إلى عمق الأراضي الإيرانية".
الدبلوماسية أفضل الخيارات
أما المحلل السياسي عبدالسلام برواري فيعتبر أن "وجود اللاجئين الإيرانيين في الإقليم ليس جديداً فهم موجودون هنا قبل عام 1992 وهناك حقيقة يعرفها الإيرانيون كما الكرد وهي أن القوى الكردية المعارضة لطهران بعكس نظيرتها المعارضة لأنقرة (حزب العمال الكردستاني)، تعهدت والتزمت فعلياً منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي ألا تقوم بأي نشاط مسلح عبر الحدود ضد نظام طهران وأبعدت معاقلها ومقارها عن الحدود لأكثر من 40 كيلومتراً وليس لدى طهران أي مبرر أن تفتعل أزمة كهذه"، مؤكداً أن "أربيل ليس أمامها سوى الاستمرار في سياستها المتوازنة واتباع الخيار الدبلوماسي كحل وحيد حرصاً على مبدأ حسن الجوار والحفاظ على المصالح المشتركة".
ويعتقد برواري بأن خطوة طهران وبالتزامن مع مشكلاتها مع السياسة الدولية لها دوافع أبعد من حصرها بأنشطة هذه التنظيمات، معتبراً إياها محاولة يائسة للتغطية على الاحتجاجات التي يصعب واقعاً الهروب منها.