تعتبر رواية الكاتب الروسي إيفان تورغنيف (1818 – 1883) القصيرة "الحب الأول" وإلى جانب روايته الكبرى "آباء وأبناء" أحد أعماله الأساسية التي تظهر ما كان يتسم به الكاتب من نزعة تشاؤمية في مجال رسمه العميق لرجال "عديمي الفائدة" ومغمورين بشؤون الحب غير المكتملة. ولعل الأساسي في رواية تورغنيف هذه - والتي أنجزها في مارس (آذار) 1860 في سانت بطرسبرغ لتنشر على الفور في مجلة ثقافية شهرية روسية قبل أن يعاد نشرها للمرة الأولى بالفرنسية في عام 1962 – هي أنها تصور الحب بأنه شر لا يفنى، ومجرد اضطراب عضوي يؤثر في البشر بطرق مختلفة ولكن دائماً بحسب استعدادهم النفسي وربما لون بشرتهم أو سنهم. ومن الواضح أنه إذا كان تورغنيف قد تمكن من وصف هذا "المرض" في قصته هذه بتعمق مدهش وسبر نفسي كبير ودقة شديدة في التلوين، بحيث خفف ذلك كله من الطابع المؤسي إلى حد ما للموضوع – وهو التنافس بين الأب والابن على حب المرأة نفسها -، فإن مرد ذلك إلى أن الكاتب إنما يتحدث هنا في هذا القالب التخييلي عما حدث معه وهو في مستهل مراهقته، حتى وإن كان ما حدث له حدث وسنه لا تتجاوز الثالثة عشرة بينما رفع سن بطله، وراوي القصة إلى السادسة عشرة. وذلك تحديداً كما تقول سيرة حياته، لأنه كان في الأصل سابقاً عمره بسنوات عدة ما كان من شأنه ألا يبدو مقنعاً لو أعطى بطله تلك السن المبكرة.
الحب الأول في حياتنا
ومهما يكن من الأمر فإن أحداث هذه القصة تدور من حول الفتى فلاديمير بتروفيتش الذي يروي وهو الآن في الأربعينيات من عمره، ما حدث معه في نص كتبه ليقرأه صديقان له طرحا معه على أنفسهم ذات عشية فكرة أن يروي كل واحد منهم حكاية حبه الأول. وما الحكاية التي يرويها فلاديمير مفضلاً كتابتها في ذلك النص الذي يشغل الصفحات القليلة التي تشكل رواية تورغنيف، سوى جوابه على السؤال. بالتالي فإن ما يرويه يتعلق بتلك الفتاة الرائعة التي يحبها البطل وكانت يوم التقاها للمرة الأولى حسناء رائعة تكبره بخمس سنوات. والفتاة تدعى زنايدا ألكساندروفنا وباتت تقطن في بيت يفصله عن بيت فلاديمير وأهله حديقة وارفة. صحيح أن زينايدا أميرة بنت أمير لكن رحيل والدها والظروف المالية العسيرة التي تمر بها مع والدتها التي تعيش الآن معها في بيت أقرب إلى أن يكون بائساً، تجعلانها لا تبدو أميرة إلا في جمالها وتعاملها مع الحياة. أما فلاديمير فيعيش مع أمه الثرية إلى حد ما وأبيه بيوتر ذي الشخصية الاستبدادية والوسيم الذي لا يترك فرصة لاصطياد النساء إلا ويلتقطها، مؤكداً ما يرويه الابن عنه من أنه ما تزوج أمه التي تكبره بسنوات إلا طمعاً في ثروتها من دون أن يحبها لحظة في حياته.
بين الأحلام والواقع
في بداية صيف عام 1833، استعد فلاديمير بتروفيتش، الذي كان آنذاك في السادسة عشرة من عمره إذا، من دون حماسة لا داعي لها لامتحانات الالتحاق بالجامعة في منزل والديه، بالقرب من موسكو. لكنه في تلك المرحلة بالذات يلتقي زنايدا في الحديقة ويذهله حسنها ورقتها ويقع من فوره في هواها، أو ذلك ما يعتقده على أية حال. وينسحر بالتالي بما تتمتع به من جمال فريد، وهو إذ يراقبها أول الأمر تلهو مع رفاق لها من الواضح أنهم كلهم منجذبون إليها، يراقبها من خلف السياج الذي يفصل حديقته عن المنتزه. ومن خلال تلك المراقبة يخيّل إليه أنها بعيدة المنال وأنه سيكون من المستحيل عليه الدنو منها. لكنه سيشعر بسعادة لاحقاً حين تتيح له ظروف الجوار أن يصبح صديقاً معها وربما بشكل يجعله – كما يعتقد – مفضلاً لديها على بقية أولئك الرفاق ومنهم خاصة واحد في الحرس وسيم وأنيق ويبدو لفلاديمير أول الأمر أنه حبيبها. مهما يكن فإن زينايدا حتى وإن كانت تتجاوب مع ذلك الضابط ما يثير غيرة فتانا، فإن هذا الأخير سيبقى أثيراً لديها وسيبني من الأحلام قدراً كبيراً حتى اليوم الذي بات فيه واثقاً أنها تفضله على العاشقين الذين يمضون وقتهم في مغازلتها والتقرب منها حين تجمعهم معاً في بيتها أو في الحديقة ومنهم الدكتور لوشين، والشاعر مايدانوف، والكونت مالييفسكي، والضابط بيلوفزوروف، والقبطان المتقاعد نيرماتسكي، فيكتور إرجوروفيتش ويبدو واضحاً أن تلعب عليهم جميعاً وتستمتع بإثارة غيرتهم عليها. أو تدفعهم لارتكاب حماقات مضحكة. ولكن المفاجأة الكبرى ستكون من نصيب فلاديمير في اليوم الذي يدخل فيه على خط العلاقة مع زنايدا، "رفيق" جديد لم يكن يتوقعه. وهذا الرفيق ليس في الحقيقة سوى والده نفسه. والوالد يتمتع بالطبع بوسامة وشخصية مميزتين. لكن فلاديمير لم يكن ليتنبه إلى أن زينايدا يمكن أن تنجذب إلى أبيه وأن هذا الأخير يمكن أن يتجاوب معها.
مفاجأة أبوية
لكن ذلك يحدث ذات مساء حين كان الفتى يلاحق أباه باحثاً عنه في الحديقة ليفاجأ بزنايدا بين ذراعيه. وكان من الطبيعي لفلاديمير أن يغضب إذ يدرك الحقيقة الرهيبة ويشعر أن نهاية العالم قد حلت بالنسبة إليه. لكنه سرعان ما يهدأ خلال أيام قليلة ويشعر أنه يشفى تدرجاً من تلك الصدمة. وها هو يفيق الآن على أكبر خيبة تلقاها في حياته. لكن استئنافه دراسته و"الترياق" الحقيقي الذي يشكله الزمن إذ يمضي في مساره يمكنان صاحبنا من أن يشفى من ذلك الجرح بل حتى تحرير نفسه من تعويذة هذا الشغف المدمر. أما زنايدا ووالده، فإن الأقدار نفسها ستثأر له منهما مع أنه هو لم يكن أبداً يريد ذلك. حيث لن يلبث مصيرهما أن يكون فجائعياً: فزنايدا، التي ستتزوج بعد انفراط علاقتها بسرعة مع الوالد لن تلبث أن تسلم الروح وهي تضع طفلاً من زوجها. أما الأب فإنه يصاب في الوقت نفسه بنوبة مرض يقضي عليه بسرعة هو الآخر تاركاً قبل رحيله رسالة لولده ينصحه فيها بألا يحب حباً حقيقياً في حياته، قائلاً له فيها وبكل وضوح: "حذار أن تحب أو أن تقع في الحب يا بني!". والحقيقة أن الفتى وقد أضحى الآن شاباً، لم يعد ومن زمان في حاجة إلى هذه النصيحة. لكنه على رغم كل شيء ظل يحتفظ في أعماقه بتلك الحكاية وبذكرى تلك الفتاة التي سيقول طبعاً في النص الذي كتبه لصديقيه جواباً على السؤال الذي طرحاه عليه، سيقول إنها لم تكن أول حب في حياته وحسب، بل كانت الحب الوحيد في تلك الحياة. والحقيقة أننا إن استنتجنا من تفاصيل هذه القصة أنه تشكل بالفعل جزءاً من سيرة حياة إيفان تورغنيف نفسه وجزءاً كذلك من حكاية أبيه الحقيقية مع أمه، يبقى علينا أن نتساءل هل كان ثمة حب وحيد أول في حياة تورغنيف؟ الحقيقة أننا إذا قرأنا سيرة هذا الكاتب الكبير سنجده قد عاش علاقات غرامية كثيرة. لكن من بينها علاقتين كبيرتين من الصعب أن نجد تشابهاً بينهما وبين ما يعيشه "أناه/ الآخر" فلاديمير هنا. واللافت أن أولى العلاقتين كانت مع مغنية الأوبرا الشهيرة في ذلك الزمن بولين غارسيا التي حافظ على حبه لها وصداقته معها عقوداً طويلة وكانت سبب نزوحه إلى باريس، والثانية الممثلة ماري سافينا التي كانت آخر علاقاته ودخلت حياته وهو على أعتاب سنوات شيخوخته الأخيرة وكتب لها عدداً من المسرحيات!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
السينما في المرصاد
وبقي أن نذكر أخيراً هنا أن السينمائيين في مناطق شتى من العالم، قد شغفوا برواية تورغنيف هذه وحولوها إلى أفلام سينمائية منها فيلم إسباني عام 1941 ومنها، ولعله أجملها فيلم سويسري مجري (1971) من تمثيل ماكسيمليان شيل وإخراجه ومن بطولة دومنيك ساندا. إضافة إلى فيلم مكسيكي من إخراج خوسيه دياز موراليس عام 1974. وآخر إيطالي عام 1984. فيما حقق الروسي رومان بالان نسخة منه عام 1995 ليعود إليه الأميركيون بدورهم عام 2001 في فيلم من تمثيل كيرستن دنست. من دون أن ننسى أخيراً أن اليابانيين اقتبسوا الرواية مرتين بعنوان واحد هو "هاتسوكي" أحدثهما عام 2013...