تشتق مفردة الووكية (wokisme) من الصفة الإنجليزية ووك (woke) التي تدل على الإنسان المستيقظ الذي نهض من سباته. غير أن هذه الصفة التي تشذ عن قواعد اللغة الإنجليزية شاعت على الألسن في اللغة المحكية المحلية المتأثرة بالثقافة الأفرو-أميركية المنتشرة في الولايات المتحدة الأميركية. قد يكون السبات بيولوجياً أو فكرياً. أما المقصود في الووكية، فالاستيقاظ من السبات الأيديولوجي الذي هيمن على الثقافة والمجتمعات الغربية، وخدر في الناس حس المسؤولية والنقد والإصلاح. المربك في الأمر أن مذهب الووكية المنتشر حديثاً في المجتمعات الأميركية والأوروبية تجاوز حدود المطالبة بالصحوة الفكرية، وطفق ينادي بالهدم المنهجي الشامل. انطلقت الصحوة اليسارية الثورية من معاينة المظالم التي تصيب الفقراء والمقهورين والمهمشين والمضطهدين، وما لبثت مطالبها أن تطورت وتضخمت حتى أضحت تنادي بإنصاف الأقليات، على تنوع التسميات واختلاف البيئات، وإقامة شرع انقلابي جديد يهدم كل ما سارت عليه البشرية وأقرته المناقشات الأخلاقية الناشطة في منتديات الحوار العالمي. ومع أن النشأة الأولى حدثت في مجتمع الولايات المتحدة الأميركية، فإن إنصاف الأقليات غداً المحور الاحتجاجي الأبرز في هذه الحركة.
انتفاضة الكرامة في وعي السكان الأميركيين السود
أكب الباحث الأميركي جيمس ليندسي والباحثة البريطانية هلن بلاكروز في كتابهما الشهير (Cynical Theories: How Activist Scholarship Made Everything About Race، Gender and Identity and why This Harms Everybody) على تقصي الحقائق الأساسية التي تنطوي عليها تعاليم الووكية. فأظهرا أن تصورات ما بعد الحداثة أفضت بمذهب الووكية إلى خلط ميول التحرر والتمرد والعصيان بمطالب العدالة الاجتماعية المحقة، بحيث سقطت الحدود الفاصلة بين مفاهيم العرق والجندر والهوية، وغدا كل كلام يخالف مطالب الصحوة الثورية هذه خاضعاً لمحكمة التسفيه والإدانة والعزل.
في البداية نشأت الووكية إثر الاحتجاجات المطالبة بإلغاء العبودية، وأخذت تناصر اختبارات السكان السود في المجتمع الأميركي المتأثر بانحرافات التمييز العرقي. يعود أصل العبارة إلى الكاتب المناضل الأميركي بوكر تاليافرو واشنطن (1856-1915) الذي كان يحث المجتمع على إنصاف السود، محرضاً الجميع في كتابه "يقظة الزنجي الأسود" (Awakening of the Negro) على الإصغاء إلى محنة الأميركيين المتحدرين من أصل أفريقي وتعزيز مقامهم الاجتماعي الذي يليق بالكائن الإنساني. غير أن هذا النداء نعت بالموعظة الأخلاقية التي لا تراعي حقائق الواقع الثقافي السياسي الاقتصادي.
ترددت أصداء هذه الدعوة على تعاقب عقود القرن العشرين. وما لبث تيار الصحوة هذا أن استعاد زخمه بفضل الأغنية الشهيرة التي أطلقتها المغنية الأفريقية-الأميركية إريكا بادو (I stay woke). تحرض هذه الأغنية الناس على اليقظة الدائمة والاستعداد الحثيث من أجل مواجهة الأخطار التي تهدد حياة السود في المجتمع الأميركي، فضلاً عن ذلك، استخدمت الأغنية في تشييع ضحية العنف البوليسي مايكل براون الذي قضى نحبه في مدينة فرغسون عام 2014. استناداً إلى هذا النداء، انطلقت حملة التوعية التي جعلت شعارها إعلاء قيمة حياة الناس السود (Black Lives Matters) في الولايات المتحدة الأميركية وفي جميع المجتمعات الغربية التي ما برحت ترتكب جرائم التمييز العرقي. من البديهي أن تستثير مثل هذه الدعوة ردود الفئات المحافظة في أوساط السكان الأميركيين البيض الذين سارعوا إلى التنديد بها وبتطرفها الأيديولوجي.
شمولية الصحوة الحياتية والإصرار على المساواة المطلقة
من جراء هذا كله، انبثق تيار أيديولوجي واسع استند إلى دعوة الاستيقاظ والصحوة، وطفق ينادي بضروب شتى من التحرير العرقي والجنسي والنسوي والاقتصادي والبيئي، معتمداً الشعار الرباعي الذي تناصره الووكية (LGTB: Lesbian، Gay، Bisexual، Transgender) في تأييدها المثلية الجنسية الأنثوية والذكرية، والثنائية الجنسية في التركيبة الجسدية أو الهوية البيولوجية الواحدة، والتحول الجنسي. لشدة الإصرار على مطلب المساواة، أخذ أصحاب هذا التيار يطالبون بإعادة كتابة التاريخ البشري، وتعديل مسلمات العلوم الإنسانية، وشطب الإحالات العنصرية، وتشذيب المعاجم من الاصطلاحات التي تضمر بعضاً من التمييز غير المتعمد. كل مفردة أو صفة أو أداة تصطبغ بالاستعلاء الذكوري يجب حذفها من قاموس اللغة. لا عجب، والحال هذه، من أن تذكرنا المطالب الانقلابية الثورية التعجيزية هذه بالمباحثات التي نشطت في العقد التاسع من القرن العشرين وتناولت مسألة الكلام أو الخطاب أو الموقف السياسي الصائب الملائم المنصف (political correctness).
من الواضح إذا أن الووكية انبثقت في الولايات المتحدة من مذاهب ما بعد الحداثة التي عكفت على استثمار أفكار الفلاسفة الفرنسيين، من أمثال سارتر (1905-1980) وفوكو (1926-1984) ودريدا (1930-2004) وليوتار (1924-1998) ودلوز (1925-1995)، الذين ألهموا النظرية الفرنسية (french theory)، ونادوا بضرورة الانقلاب على كل أشكال العقلانيات الموروثة. أما ما تتصف به الووكية، فالتمرد والعصيان والانقلاب على الثقافة السائدة، ومناهضة كل أشكال العقلانيات والمنطقيات واليقينيات. وعلاوة على ذلك، يغالي أصحاب الووكية في الاقتداء بروحية الضحية التي تنزل بها مصائب الكون كله من جراء ظلم أصابها في موضع من مواضع انحراف السلطة.
الاستقطاب السياسي وتشويه المقاصد
بسبب من طبيعة المطالب الاجتماعية، لم تسلم الووكية من الاصطفاف السياسي الذي شوه أصولها وأضر بصدقية مساعيها النضالية. فإذا بأحزاب اليسار تتهم أحزاب اليمين بارتكاب جرائم التمييز العنصري والعرقي. وإذا بأحزاب اليمين تقرع أحزاب اليسار وتنتقدها على ركوب الموجة واستغلال مشاعر الناس المستضعفين والأقليات المنبوذة من أجل اكتساب التأييد الشعبي واكتساح صناديق الاقتراع. يبين لنا الناقد السياسي الكاتب البريطاني المحافظ دوغلاس موراي في كتابه "جنون الجماهير: الجندر والعرق والهوية" (Madness of Crowds: Gender، Race and Identity) أن الووكية تصبو إلى غايات إصلاحية شريفة، لا سيما تلك التي ترتبط بقيم العدالة والمساواة والحرية. غير أنها خضعت للاستقطاب الأيديولوجي اليساري، فحرمت مؤيديها من دعم العقول المحايدة المستنيرة التي لا تروم الخضوع للمشيئات السياسية الاستغلالية، فضلاً عن ذلك، سقطت الووكية في محنة الغلو الأيديولوجي، حتى إنها أمست تصنف المناصرين في فئة الشرفاء، وتستكبر استكباراً منتبذةً كل من لا يناصرها، راشقة إياه بالحرم الإقصائي والعزل الاجتماعي. في ختام التحليل، يخلص الكاتب إلى أن الناس، في الزمن الراهن، لا يستطيبون الاصطفاف التطرفي الإلغائي، ولا يستحسنون افتعال التعارضات الحادة بين الأعراق أو بين الجنسين الأنثوي والذكري أو بين الاختلافيين والمثليين.
محكمة التفتيش المعاصرة وثقافة الإلغاء
في السياق عينه، يمكن القول إن الووكية أضحت تدعي التخلق بأخلاق الصفاء والتطهر والترفع والاستعلاء، فتحرض مناصريها على الافتخار والاستكبار حين يفضحون انحرافاً في مسار من المسارات أو التواء في تحرك من التحركات، أو تشوهاً في مسعى من المساعي. من جراء التحري عن أدنى أشكال العنف المضمر في نشاطات الإنسان اليومية وأعماله وتصرفاته ومواقفه وآرائه، تحولت الووكية إلى محكمة تفتيش دينية تضطهد الناس من جراء زلة في اللسان أو تقصير في التعبير أو تعثر في الموقف.
لا غرابة، من ثم، في أن تتواطأ طهرانية الووكية الدينية وثقافة الإلغاء (cancel culture) التي أخذت تنتشر في الأوساط الاجتماعية الأميركية منذ عام 2010، ذلك بأن الأشخاص الذين يعبرون عن رأيهم في وسائل الإعلام وعلى منصات التواصل الاجتماعي يخضعون لتحقيق افتراضي صارم يستقصي أبسط الزلات ويخضعها لمحكمة المعايير الاستنسابية التي تصوغها مجموعات شبابية افتراضية تؤيد تيار الووكية وتسانده في إقصاء جميع الذين لا يناصرون حركة التحرر الاجتماعي الشامل.
في السابع والثامن من شهر يناير (كانون الثاني) 2022 نظمت جامعة السوربون مؤتمراً علمياً ضم شخصيات فكرية وأدبية وفلسفية تناولت ظاهرة الووكية في خلفياتها وتسويغاتها ومطالبها وأبعادها. غير أن الملتئمين في هذا المؤتمر نالوا نصيبهم من القدح الانفعالي، إذ إن مناصري هذه الظاهرة لم يرتضوا أن تخضع تصوراتهم الثورية الراديكالية للنقد الجامعي الموضوعي الرصين، ذلك بأن كل نقد أكادمي فاقد الشرعية في نظرهم، لا يستطيع أن يدرك معنى الانقلاب العام الذي تستثيره المتغيرات الثقافية الكونية.
يذهب بعض الباحثين إلى تصنيف مأساة الفيلسوف الهولندي سبينوزا في فئة ثقافة الإلغاء التي اختبرتها المجتمعات الغربية قبل الأوان، ذلك بأن الجماعة اليهودية التي كانت تقطن أمستردام أفتت إفتاء قاطعاً بإقصائه من المدينة ومحاكمته أمام هيئة العلماء. لا ريب في أن مثل هذا الإقصاء الذي اختبرته المجتمعات الإنسانية في جميع العصور يبدو اليوم أمراً طارئاً مستغرباً، لا سيما في البيئات الثقافية الغربية. غير أن الأمر الأبعث على القلق يتعلق بهوية المحكمة الإقصائية التي انتقلت من طرف إلى آخر. لم تعد الأنظومة الثقافية الاجتماعية السياسية تحكم وتدين وتقصي، بل أمست المجموعات الثورية الانقلابية الهامشية تضطلع بمثل العدالة المباشرة هذه، وفي يقينها أنها تناصر قيم المساواة والحرية والانفتاح والتغيير والابتكار.
في عام 2019 صبت الووكية جام غضبها على صاحبة رواية "هاري بوتر" الذائعة الصيت الأديبة البريطانية الشهيرة جوان رولينغ، لمجرد مساندتها مواطنتها البريطانية الباحثة مايا فورستاتر التي كانت قد أعلنت أن الإنسان لا يستطيع أن يغير جنسه البيولوجي. فإذا بوسائل الإعلام والمنصات الافتراضية تحرض أنصار ثقافة الإلغاء على رذل الروائية ونبذها ومقاطعتها والتشهير بمواقفها المحافظة. وعليه، تنادت كوكبة من المفكرين والعلماء، من أمثال نعوم تشومسكي وغلوريا ستاينام ومارغرت أتوود ومالكولم غلادول وسلمان رشدي وسواهم، وعقدت العزم على مواجهة التيار الإقصائي الظالم هذا، وأذاعت وثيقة احتجاج قيمة ضمنتها كل الأدلة التي تناصر الرأي الحر والمناقشة العادلة المفتوحة.
في أثر هذا كله، عمدت الحكومة البريطانية عام 2021 إلى استصدار بضعة من القوانين الإجرائية التي تضمن حرية التعبير في الجامعات البريطانية من أجل مواجهة الضغط المرعب الذي تمارسه جماعات الووكية وثقافة الإلغاء. في صدارة هذه التشريعات أن يحترم الطلاب رأي الأساتذة الجامعيين الذين لا يؤيدونهم في طفراتهم الابتداعية، وإفتاءاتهم الإقصائية، ومحاكمهم الشارعية.
تشويه حقائق الوجود
في الكتاب الصادر حديثاً "ديانة الووك "(La religion Woke)، يبين لنا فيلسوف العلوم الفرنسي جان-فرانسوا باونشتاين أن الووكية خطر داهم يهدد مصير عصر الأنوار الغربي بأسره، ذلك بأن الإدانات الاعتباطية التي تطلقها إنما تصدم الوعي الإنساني. كثير من المناصرين يعلنون بوقاحة أن الرياضيات علم عرقي استحوذ عليه البيض، وأن قضبان شواء اللحم مصطبغة بالاستعلاء الذكوري بسبب شكلها الإيحائي، وأن الحمل يجب ألا يقتصر على النساء لكي لا يتحول إلى تمييز بيولوجي. أما صفة الديانة، فيعاينها باونشتاين في البنية الأيديولوجية التي استقرت عليها الووكية، إذ اتخذت لها طقوساً، واعتمدت نصوصاً منزلة، وأنشأت محاكم تفتيش، وأصدرت فتاوى تحريم. غير أن ما يستفظعه هذا الفيلسوف إنما هو القول بالخطيئة الأصلية التي يرتكبها الرجل الأبيض منذ مولده، ذلك بأن عرقه يدينه وجنسه الذكوري يحمله وزر المظالم التي أصابت المجتمع الإنساني. أما أخطر المسائل، فيتقصاها باونشتاين في تقاعس الأوساط الجامعية وأعراضها عن مواجهة التيار الأصولي الجامح هذا، إذ يستنكف كثير من الباحثين الأكاديميين من الإفصاح عن آرائهم وتفنيد مغالط منظري الووكية ومناصريها.
لا بد، والحال هذه، من تفكيك الأنظومة الووكية وتعرية خلفياتها الفكرية الاستنسابية. لا ريب في أن المطالبة بالمساواة والعدالة والتضامن والحرية من أجمل القضايا الفكرية التي تليق بمقام الإنسان وتعزز كرامته الأصلية. غير أن المساواة لا تعني إلغاء الاختلاف، والعدالة لا تفترض القضاء على التمايز الابتداري الابتكاري بين الأفراد، والتضامن لا يبطل الخصوصية الفردية، والحرية لا تخنق الآخرين وتمنعهم من التعبير عن ذاتياتهم. أعتقد أن تحول الصحوة النافعة إلى التطرف المؤذي ينجم عن التأويل المفرط الذي يحمل هذه القيم على غير معناها الأصلي الصحيح.
الهوية الجنسية
أسوق مثالاً على موقف التطرف الذي تقفه الووكية من مسائل الهوية الجنسية. قد يوافق المرء على رغبة الإنسان الصادقة في اختبار ذكورة فاتته في بنيته البيولوجية الأنثوية، أو أنوثة تضج في قوامه البيولوجي الذكري. غير أن تسويغ الانتقال المنهجي من الذكر إلى الأنثى ومن الأنثى إلى الذكر لا يفيد البشرية بشيء، ولا يطور وعي الإنسان على الإطلاق. ماذا ينفعنا أن نجعل الرجل، وقد انتهكت بنيته البيولوجية انتهاكاً مؤذياً، يحمل في أحشائه بذار الحياة على غرار ما يجري في رحم المرأة؟ أو أن نتيح للمرأة، وقد خضعت لعمليات جراحية استنزافية، أن تنعم برمزية العضو التناسلي الذكري؟ في بعض الأحيان النادرة، يعترف العلم، استناداً إلى معاينات طبية موضوعية، بأن بنية الكائن الإنساني البيولوجية تترجح بين هويتين ذكرية وأنثوية. حتى علماء النفس يقرون، في بعض الحالات النادرة، باضطراب خطير في إدراك الهوية الجنسية الذاتية، لذلك أظن أن الأخلاقيات الطبية المعاصرة يمكنها أن تعالج مثل هذا الاضطراب وتؤيد التحول الجنسي. أما أن تصر الووكية على إلغاء الاختلاف بين الرجل والمرأة وإبطال كل علامات التمايز، حتى في سياق اللغة، فأمر لا يقبل به العقل السليم. كذلك لا يجوز أن يتحول الرجال إلى نساء، والنساء إلى رجال، إذ نعود فنقع على الاختلاف عينه، ولكن في الاتجاه المعاكس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا بد من مثال ثان في مسألة المثلية، ما من أحد يريد إدانة المثليين وسجنهم وتعذيبهم وقتلهم في المجتمعات المعاصرة المنادية بشرعة حقوق الإنسان الكونية، ولكن أضعف الإيمان أن يعترف المثليون بأن الأغلبية الساحقة ليست مفطورة على المثلية، وبأن الوصال الجسدي يبلغ نضجه الأشد والأعمق في الالتحام الجنسي بين الرجل والمرأة. ثمة اختلافات بيولوجية طبيعية بين الجسدين تجعل مثل هذا الوصال يثمر ألذ الثمار المحيية وأطيبها وأغناها للبشرية. يحق لكل إنسان أن يختبر من الأحاسيس ما يناسب بنيته وقوامه ووعيه ووجدانه، ولكن لا يحق لرجلين أن يصرا، بعد زواجهما الحر، على إنجاب الأولاد وإرضاعهم، أو لامرأتين اقترنتا بعقد الزواج الحر أن يحرما الطفل من صورة الأب التي تجسد في وعي الإنسان نصف الكينونة الإنسانية.
العدالة الاجتماعية
أما المثال الثالث والأخير، فأترصده في مسائل المساواة الاجتماعية. ليست العدالة بإلغاء الفوارق الطبيعية والاكتسابية بين الناس، بل بصون خصائص الإسهامات الموهبية والقدرات الإنتاجية التي يتمتع بها كل فرد من أفراد المجتمع، شرط أن يتاح للجميع الحصول على التنشئة عينها، والإمكانات ذاتها، والفرص نفسها. لكل إنسان وضعية ذاتية تؤهله لنمط من أنماط الإنتاج والابتكار. ومن ثم، لا نقضي على الفقر بالقضاء على الأغنياء، بل بمساعدة الفقراء في الحصول على شروط الانتقال السليم من وضعية الحرمان إلى وضعية التمكن الإنتاجي. ليست العلة في الغنى، بل في إدارة خيرات الأرض وتوزيعها توزيعاً عادلاً. يبدو لي أن المطالبة بالمساواة الاجتماعية المطلقة لا تراعي ما انعقدت عليه نظريات العدالة الاجتماعية المعاصرة من تصورات تشريعية دقيقة تتناول أشد المسائل تعقيداً في رعاية حرية الإنسان الفردية، وصون قيمة التضامن البشري الكوني، والحفاظ على سلامة النشاط الاقتصادي في مدلوله الأرحب الذي ينطوي على جميع أصناف التعبير عن إنتاجية الكائن الإنساني في حقول الإنجاز الثقافي المتنوعة.