في خطوة لفتت انتباه كثير من الاقتصاديين أعلن الجهاز المركزي للإحصاء في السودان عن تراجع معدل تضخم أسعار المستهلك إلى 107.29 في المئة في سبتمبر (أيلول) الماضي بعد أن كان 117.42 في أغسطس (آب) في وقت يعيش اقتصاد البلاد ركوداً تضخمياً يكاد يشل حركة النشاط الاقتصادي، فضلاً عن غياب أي تأثير لذلك في أسعار السلع والخدمات.
جهاز الإحصاء برر ذلك الانخفاض في بيان له بتراجع معدل التغيير في الأسعار خلال سبتمبر بفارق 10.17 في المئة عن الشهر الذي سبقه، لكن كيف يفسر الاقتصاديون والأكاديميين هذا الانخفاض في ضوء الواقع الاقتصادي المتدهور والماثل بكل تعقيداته؟
انخفاض وركود
أوضح الأكاديمي والمحلل الاقتصادي محمد الناير أن انخفاض معدل التضخم لا يمكن اعتباره ميزة إيجابية مطلقة في ظل حال الركود التضخمي التي يعانيها الوضع الاقتصادي برمته، مما أسفر عن بطء في حركة النشاط الاقتصادي ستكون له انعكاساته السالبة الكبيرة على مجمل الاقتصاد وربما تكون أسوأ من التضخم نفسه.
وأشار إلى أن هناك جدلاً حول مدى دقة التقارير التي يصدرها الجهاز المركزي للإحصاء في شأن معدلات التضخم، لافتاً إلى أن ليس هناك خلاف حول المنهجية التي يتم بها احتساب المعدلات كونها ترتبط بمعادلات معترف بها عالمياً بواسطة كل من البنك وصندوق النقد الدوليين، لكن المشكلة تكمن في أنها تتم في غياب ما يعرف بموازنة الأسرة التي توضح الوضع الراهن للاستهلاك وأوزان المجموعات السلعية التي يعتمد عليها المواطن بصورة أساسية، علماً أن آخر مسح لموازنة الأسرة في السودان كان قبل 15 عاماً، بينما من المفترض أن يتم كل خمس سنوات من أجل مواكبة المتغيرات.
وقال الناير إن عدم إجراء مثل هذا المسح الحيوي خلال فترته المحددة ربما يفقد التقارير صفة الدقة المكتملة ويعطي مؤشرات غير حقيقية لمعدل التضخم، وتابع أن "تدني التضخم هو في حقيقته تراجع في وتيرة ارتفاع الأسعار، مما يعني أن وتيرة تزايد الأسعار ستقل، وعليه فلن يشعر المواطن بانخفاض ملموس فيها، لكنه في الأقل ربما يشعر ببعض الاستقرار النسبي".
تحسن ولكن
على الصعيد ذاته وصف أستاذ الاقتصاد عبدالعظيم المهل توالي انخفاض معدل التضخم من 400 في المئة عام 2018 إلى 107 في المئة في سبتمبر الماضي بأنه يعكس تحسناً فعلياً في الأداء الاقتصادي سببه الاستقرار النسبي الذي تحقق في البلاد خلال تلك الفترة، فضلاً عن تحسن إدارة العملات الحرة الذي أدى إلى المحافظة على سعر الدولار ما بين 570 و580 جنيهاً.
وأضاف "استقرار سعر الصرف يعني استقرار التضخم، إذ إنه يعبر عن توقف تدهور قيمة العملة الوطنية، فضلاً عن النجاح الذي صادف الموسم الزراعي السابق وتحسن إيرادات النقد الأجنبي من مصادر عدة كالذهب وبعض تحويلات المغتربين"، وتابع أن الأعوام من 2018 إلى 2021 هي التي شهدت الارتفاع الجامح في معدلات التضخم نتيجة التدهور المريع في الاقتصاد لأسباب عدة بعضها حقيقي والآخر مصنوع بسبب المعارضة التي ظلت تعمل ضد الحكومة، مشيراً إلى أنه بعكس ما كان مرجحاً خلال فترة وزارة عبدالله حمدوك التي كان متوقعاً أن تشهد ازدهاراً بسبب الانفتاح ووعود العون الخارجي، أدى سوء إدارة الموارد والاضطراب السياسي والإداري اللذين صاحبا تلك الفترة إلى تدهور كبير في الاقتصاد السوداني.
سيطرة وجرأة
ولفت المهل إلى أن حكومة فترة العسكريين ما بعد إجراءات 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي على رغم انقطاع الدعم الخارجي تمكنت من السيطرة على التضخم بسبب حسن الإدارة بواسطة الوكلاء والوزراء المكلفين الذين هم من موظفي الوزارات نفسها، متهماً أداء وزراء حركات السلام بأنه كان الأسوأ ومشيراً إلى أن أداء بنك السودان لعب الدور الأكبر في استقرار سعر الصرف خلال كل هذه الفترة.
وانتقد سياسات وزير المالية جبريل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة الموقعة على اتفاق سلام جوبا بسبب لجوئه إلى فرض زيادات كبيرة على الرسوم والضرائب ستكون لها آثارها وانعكاساتها السلبية على الأداء الاقتصادي في المدى البعيد على رغم أثرها الإيجابي حالياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشرح أن انخفاض معدل التضخم من شأنه أن يمنح الحكومة مزيداً من الجرأة في التوجه نحو الاعتماد على الذات، لكن ذلك يجب أن يكون من خلال إجراءات وسياسات لتفعيل وتحريك الموارد المحلية والاستغناء التدريجي عن الدعم الخارجي وليس فقط بمزيد من الضغط على جيب المواطن.
ويعيب المهل على وزير المالية الحالي عدم استغلاله السليم موارد البلاد وإمكاناتها، فضلاً عن عدم توجيهه الموارد التي وفرها رفع الدعم إلى القطاعات الإنتاجية والخدمية كالزراعة والصحة والتعليم والبنيات التحتية، بل إلى الإنفاق على الحركات المسلحة والسلام زاعماً عدم توافر عائدات من رفع الدعم.
تصاعد الضرائب
حذر المهل من أن تصاعد السياسات الجبائية المتمثلة في رفع الدعم وزيادات الضرائب والرسوم وزيادات الكهرباء والجمارك ومدخلات الإنتاج بغرض الحصول على إيرادات مالية من شأنها أن تؤثر سلباً في القطاعات الزراعية والصناعية بصورة سلبية بعد أن أثرت فعلاً في تدني البنية التحتية وتآكلها في ظل غياب المشاريع التنموية.
وانتقد بشدة الجمود الذي تشهده حركة التنمية في البلاد التي كان من المفترض أن تكون من أولويات دفع حركة الاقتصاد، إلى جانب تحفيز الاستثمار في التنمية الحقيقية، مشيراً إلى أن جل الإيرادات المتحصلة يتم إنفاقها على الصرف الحالي، فضلاً عن عجز الدولة عن تحقيق القيمة المضافة لمنتجات وسلع البلاد واستمرار تصديرها في شكلها الخام، ما يحرم الموازنة من عائدات كبيرة جداً كان من الممكن تحقيقها، فهناك بعض الدول الأوروبية مثلاً تستورد من السودان مادة الصمغ العربي الخام بما قيمته 300 مليون دولار بينما تصدره بعد تصنيعه بما يقارب 25 ملياراً.
وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء فإن معدل التضخم في السودان يتجه باطراد نحو الانخفاض منذ النصف الثاني من العام الماضي بعدما كان بلغ الذروة في يوليو (تموز) 2020 بسبب موجة إغلاقات جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية.
التوجه نحو الذات
وفي حين يستعد السودان لإعداد الموازنة العامة لسنة 2023 بات واضحاً تركيز الاتجاه العام لها نحو الاعتماد على الموارد الذاتية وتحقيق استدامة الوضع الاقتصادي باستقرار سعر الصرف وخفض معدلات التضخم وتحقيق التوازن في ميزان المدفوعات.
وتؤكد التوجهات اعتزام الدولة رفع معدل الجهد المالي والضريبي في الناتج المحلي الإجمالي إلى المستويات الإقليمية وسد منافذ التسرب والفاقد في العائد الضريبي وترشيد الإعفاءات الضريبية بتوسيع المظلة الضريبية وتحديث قواعد البيانات واستخدام أفضل الممارسات التقنية الخاصة بمجال ضريبة أرباح الأعمال والدخل والقيمة المضافة.
وشددت الموجهات العامة للموازنة على ترتيب أولويات الإنفاق الحكومي بالتركيز على المشاريع المستمرة في البنية التحتية، بخاصة المرتبطة بالإنتاج والصادرات وتنشيط الاستثمار، كما التزمت محاربة الفقر وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين وخفض البطالة وسط الشباب وإصلاح البيئة التعليمية مع تسريع خطوات إكمال مشاريع الخدمات الأساسية.
وأكدت توجهات الموازنة الجديدة بناء قوة دفاعية وأمنية محترفة عالية الكفاءة وتطويرها لبسط هيبة الدولة مع إشاعة السلام وفق برنامج سياسي واجتماعي وثقافي وقانوني يركز على نزع السلاح وتوفير البيئة الملائمة للعودة الطوعية للنازحين وإنفاذ مشاريع المياه والصحة وخفض الفقر.
معاناة وتعقيدات
وظلت الموازنة السودانية تعاني الآثار المباشرة لإعلان تجميد المعونات الدولية المقدمة من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، إذ كانت تعول على الانفتاح العالمي والتدفقات التي كانت منتظرة بواسطة التزامات العون الدولي وإعفاء الدين الخارجي، لكنها توقفت بعد انقلاب قائد الجيش في أكتوبر الماضي وإطاحته الحكومة المدنية برئاسة عبدالله حمدوك، مما جعل البلاد تواجه معضلات حقيقية أدت إلى تفاقم تدهور الوضع الاقتصادي بشكل كبير.
منذ ذلك الحين يواجه السودان أزمة وتعقيدات اقتصادية كبيرة في ظل عزلة اقتصادية نتيجة وقف معظم دول العالم ومؤسسات التمويل الدولية والإقليمية تقديم التزاماتها ومساعداتها التي وعدت بها في شكل منح وقروض تقدر بمليارات الدولارات.
وفقدت البلاد نتيجة انقلاب قائد الجيش ما يقارب 40 في المئة من إيراداتها، كما جمد البنك وصندوق النقد الدوليين نحو ملياري دولار من المساعدات كان ينتظر تقديمها لدعم الحكومة الانتقالية، فضلاً عن تعثر مشروع إعفاء ديون السودان البالغة نحو 60 مليار دولار عبر مبادرة الدول الأكثر فقراً (هيبيك)، كما جمدت واشنطن 700 مليون دولار وشحنة قمح بحجم 400 ألف طن كانت ستقدمهما هذا العام.