يقيناً أن الغالبية العظمى من المارة وأصحاب المتاجر ورواد المقاهي في منطقة شارع الحمرا في العاصمة اللبنانية بيروت وما جاورها، اعتقدوا ما يحدث أمام أعينهم يومها مجرد مزحة عملية يقوم بها حفنة من شبان وصبايا كان مجايلوهم اعتادوا ذلك النوع من المزاح في منطقة تحيط بها صروح الفن والتعليم العالي، ويعيش فيها المبدعون من لبنانيين وعرب آخرين طاردتهم أوطانهم فكانت بيروت حاضنة لهم. ومن المؤكد أن ما من واحد من الذين راحوا يتفرجون أمام أعينهم على مجموعة المسرحيين الذين بعد أن قطعوا صاخبين مهللين وغاضبين حتى، بضعة شوارع قبل أن يحطوا رحالهم في وأمام مقهى "الهورس شو" الشهير بأنه مركز الفنون المتقدمة والتقدمية في البلد وينطلقوا في أداء مسرحي، فيما أحاطت قوات الأمن بالمكان وبدأت تعتقلهم وتطاردهم، ما من واحد جالت في ذاكرته حادثة مماثلة كانت قد شهدتها نيويورك قبل ذلك اليوم الربيعي من عام 1969 بنحو ثلث قرن. وتحديداً يوم سار ممثلو وتقنيو مسرحية "المهد سوف يهتز" من كتابة مارك بليزنشتين وإخراج أورسون ويلز قاطعين الشوارع وأيضاً بحثاً عن مكان يقدمون فيه مسرحيتهم. كان ثمة تشابه ما بين الحالتين مع فارق يكاد يكون وحيداً: الممثلون الأميركيون كانوا يبحثون عن مسرح بعد أن اكتفت السلطات بإقفال الصالة التي كانوا سيقدمون عرضهم فيها من دون أن تمنع العرض، بينما كانت السلطات اللبنانية قد منعت عرض مسرحية فرقة المحترف (نضال الأشقر وروجيه عساف ورفاقهما) "مجدلون" وفي الحالتين لأسباب سياسية. وفي الحالتين على خلفية صراعات فكرية، في أميركا دفاعاً عن العمال والبؤساء ضد الحكم "الرأسمالي الغاشم"، وفي لبنان مناصرة للمقاومة الفلسطينية ضد "الصهيونية والإمبريالية" و"أعوانهما الداخليين" بحسب تعابير تلك المرحلة.
في سبيل قضية القضايا
في بيروت في ذلك الزمن، كانت القضية الفلسطينية قد تغلغلت في الوجدان اليساري اللبناني، وكان المسرح أحد التعبيرات الكبرى عن صحوة ذلك الوجدان. وكان الحكم يسعى بكل جهده للتصدي وقد أرعبته آفاق ذلك التغلغل وإرهاصات مجموعة من حروب أهلية تكاد تبدو حتمية. ولما كان يبدو عليه العجز عن مجابهة ذلك التغلغل سياسياً وأمنياً ولو حتى إشعار آخر، أخذ على عاتقه محاربته من طريق التصدي للحلقات الأضعف فيه: مجموعة الأداءات الفنية التي كان المسرح في مقدمتها من دون أدنى شك. ولم يكن الأمر مقتصراً على مسرحية "مجدلون" ولا طبعاً على فرقة "المحترف" التي تشارك أفرادها في كتابتها وإخراجها وتقديمها، فالقسم الأكبر من الفرق الفنية في بيروت كانت تقف في خط التقدم، فإن لم تفعل، ففي الأقل في خط لا يستسيغ قمع السلطات الحريات العامة والحريات الفنية. ومن هنا حتى وإن كانت "مجدلون" تبدو لنا اليوم خطية وربما ديماغوجية بعض الشيء، وحتى إن كان في مقدورنا أن نتساءل مدهوشين عن تلك الحماقة الرقابية -ولكن هل حدث يوماً للرقابات أن تخلت عن حماقتها حقاً، وهي التي كانت وتبقى ولسوف تبقى "المروج الأكبر" لكل إبداع يزعج السلطات؟- التي جعلت الرقابة السلطوية اللبنانية يومها تتخذ قرارها بمنع "مجدلون" التي ما كان من شأنها في حقيقة الأمر أن تشكل أي خطر حقيقي عليها، لو قدمت أمام ذلك الجمهور الذي قد يقال بصدده إنه "المؤمنون الذين يبشر المبدعون بينهم" ولم تمنع ما حولها إلى ضحية وأضفى عليها شعبية جعلتها حديث الموسم. ومن ثم كسبت لها جمهوراً عارضاً بحث عن الإثارة من دون أن يكون من شيمه ارتياد ذلك المسرح المثقف!
هجوم ساحق على مقهى
والأدهى من ذلك أن الأمن لم يكتف يومها بالمنع بل إنه، وكما أشرنا، هجم على "مقهى الهورس شو" بعد أن حاصره وأوقف العرض ثم اعتقل المخرج المعروف روجيه عساف، الذي ستبقى تلك واحدة من أكبر لحظات مجده التاريخي، فتبعته الفنانة نضال أشقر التي يبدو أن الأمن لم يكن مزوداً بأوامر تتعلق بها لكنها طالبته باعتقالها وربما تضامناً مع عساف وهي شريكته في الفرقة والمسرح فاعتقلت معه، كما حال الكاتب هنري حاماتي شريك الاثنين في كتابة العمل. وهكذا قامت ضجة كبيرة بخاصة أن قوات الأمن لم تتردد في استخدام العنف، مرة لإبعاد نضال أشقر وبعد ذلك لأخذ عساف وحاماتي وربما عدد آخر من الحضور سواء كانوا من أعضاء الفرقة وممثليها، أو من زبائن المقهى الذين حاولوا التدخل... وكانت النتيجة أن عرفت بيروت بفضل "مجدلون" والتصرفات الأمنية، أول مجابهة قوية وحقيقية في تاريخها بين الفنانين والسلطة السياسية، لكنها لن تكون الأخيرة. ويمكننا أن نقول أيضاً إن قوات الأمن عرفت في ذلك السياق أول هزيمة سياسية طاولتها في تاريخها، وكذلك لن تكون الأخيرة بخاصة أن المسرحية ستعود وتعرض بعد ذلك بأيام، ثم "رسمياً" حين سيبرئها القضاء، وسيضحك الناس كثيراً وهم يتساءلون عما دفع قوات الأمن والرقابة إلى تلك المجابهة التي أثارت سخرية العالم كله. وربما أثارت كذلك حسد وغيرة الفرق المسرحية الأخرى التي باتت تتطلع إلى يوم تلتفت فيه السلطات الأمنية والرقابية ناحيتها لتقدم لها هدية من النوع نفسه. ولسوف تفعل تلك السلطات ذلك بين الحين والآخر وستطلع خاسرة في كل مرة، لأن الرأي العام لم يعد مبالياً لتنحصر كل "المعارك" المماثلة التالية انحصار زوبعة في فنجان، بالتالي طلعت "مجدلون" الرابح الوحيد من ذلك كله!
بين النخبة والشعب
ولكن عم تتحدث تلك المسرحية؟ بالتحديد عن الجنوب اللبناني، وعن العمل الفدائي – وهو الاسم الذي كان يطلق على العمل الفلسطيني المقاوم في بداية انطلاقه في لبنان في نوع من التضافر مع القضايا الاجتماعية المطلبية، ولا سيما في مناطق الجنوب التي كانت هي المناطق الأكثر شعوراً بالغبن والحرمان. ولقد انبنى نص المسرحية على شكل "كولاج" تزاوج فيه الكلام السياسي بالأخبار المتحدثة عن الاحتجاجات الاجتماعية التي كانت تشهد هي الأخرى بدايات انطلاقتها، بالموسيقى التي أتى أجملها من وضع وليد غلمية، وقد زين قصائد شعرية ستكون من أقواها قصيدة "غيفارا" التي كتبها عصام محفوظ لتضحى بسرعة نوعاً من نشيد ثوري على الطريقة اللبنانية. ولعل الجديد في "مجدلون" وفي الأقل بالنسبة إلى تلك النخبوية التي كانت من سمات الحركة الفنية اللبنانية قبل ذلك ولا سيما الحركة المسرحية، كان يكمن في إشراك طلاب وشبان عاديين من الجنوب في جمع الأخبار والمواقف التي راحت تتحول إلى فقرات في المسرحية قبل "المنع" وبعده. ولعل أطرف ما قاله لنا بعد ذلك بسنوات، واحد من أولئك الشبان من أهل الجنوب، الذين أدخلهم "المحترف" عالم الفن والمسرح والسياسة بإشراكهم على ذلك النحو في نشاطاته "لقد فهمنا في البداية أن أهل المحترف يريدون أن يصلوا إلى الشعب ومشكلاته من طريق إدماجنا في نشاطاتهم ليتحولوا من نخبة إلى شعب، فإذا بنا نجدهم قد حولونا بعد أشهر قليلة إلى (نخبة) حتى قبل أن نفهم ما هي النخبة ولماذا صرنا كذلك...".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حدث مهم في تاريخ "قطعة سما"
مهما يكن من أمر، لا شك أن مسرحية "مجدلون" كانت حدثاً مهماً في تاريخ المسرح اللبناني، بـ"منع" أو من دونه، وفي الأقل بفعل إحداثها منذ البداية تبديلاً أساسياً، وقد نقول، محلياً في حياة مسرحية كانت تعيش على ترجمة النصوص الأجنبية محاولة تكييفها مع الأوضاع المحلية وسط تغيرات هائلة كان لبنان يعيشها آنذاك، غائصة عبر كتابة محلية مستمدة على رغم كل شيء من الواقع المحلي نفسه ومن الترابط بين القضية الفلسطينية والقضايا اللبنانية، متوغلة في مشكلات الشعب اللبناني كاشفة عن صعوبات حلها، مارة على التدخل الإسرائيلي العسكري في جنوب لبنان، وصولاً إلى التحركات الطلابية والأخطار التي تحيط بالبشر والأرض... بالإنسان اللبناني عموماً، كاشفة بشكل مبكر عن أن لبنان لم يكن، كما كان يزعم وديع الصافي في إحدى أجمل أغانيه "قطعة سما".