لا يكمن المسرح في أشكال أو موضوعات محددة سلفاً يجب التزامها وعدم الحياد عنها، فثمة أشكال وموضوعات كثيرة يمكن للمسرح أن يتبناها متى توافرت الجرأة لصناعه، ولم ترهبهم تعاليم النقاد المتحذلقين، والأهم متى توافرت الرغبة في ملامسة هموم المشاهدين ومناقشة قضاياهم الحياتية، بخاصة أولئك الذين لاتربطهم علاقات وطيدة بالمسرح ويمكن أن ينصرفوا عنه تماماً إذا هو تناول موضوعات لاتخصهم.
يغفل بعض صناع المسرح عن وجود وسائط أخرى أكثر جذباً للجمهور ويعملون فقط لحسابهم الشخصي، واستعراض أدواتهم من دون النظر إلى ذلك الكائن الذي يدخل إلى القاعة لمشاهدة مايمكن أن يمتعه ويسليه ويضيف جديداً إلى وعيه، فيخرج وكأنه لم يدخل.
على خلفية وضع المشاهد وقضاياه في الحسبان جاء عرض "خطة كيوبيد"، الذي قدمه المسرح الحديث في القاهرة في قاعة يوسف إدريس، تأليف عبدالله الشاعر، إخراج أحمد فؤاد، وهو العرض الذي افتتحت به هذه القاعة بعد إغلاق دام أحد عشر عاماً، وهذا ما يحسب لمدير المسرح الحديث الفنان محسن منصور، الذي حقق إضافه نوعية لهذا المسرح، واستطاع جذب جمهور لم يعتد غالبه أصلاً ارتياد المسارح.
لايناقش العرض قضايا ميتافيزيقية أوكونية كبرى، ويتوجه مباشرة إلى الجمهور العام ليناقش موضوعاً أزلياً وملحاً، وهو موضوع عميق ومهم بذاته، فقضية العرض تتعلق بمشروع الزواج، هذه العلاقة الشائكة التي في أغلب الأحيان تبدأ حالمة ورومانسية، ثم يتكسر ذلك كله على صخور الحياة وهمومها ومتطلباتها، وانشغالات الطرفين أو أحدهما، وإن ظل هناك ذلك الخيط حتى لو بدا واهياً، الذي يربط طرفي العلاقة، ربما الحب أو العشرة أو الاعتياد... كلها أمور يلمسها معظم المتزوجين، بعضهم يتعامل معها بفهم ووعي متجاوزاً أزماتها ومستوعباً لها، والبعض الآخر لايستوعبها فتكون نهاية العلاقة.
نسبة مرتفعة
لقد ارتفعت نسبة الطلاق في مصر تحديداً خلال السنوات القليلة الماضية، وهناك أسباب اقتصادية لاشك وضغوط حياتية أدت إلى ذلك، لكن هناك أيضاً أسباباً تتعلق بعدم فهم طبيعة تلك العلاقة والتحولات التي يمكن أن تطرأ عليها، وهو ما يرتكز عليه العرض تحديداً.
في مثل هذه العروض يتطلب الأمر قدراً من الحساسية لتمرير الموضوع، فكيف توجه رسالة إلى المتزوجين أو المقبلين على الزواج، بشكل فني يمكنك من خلالها أن تغير في وعيهم، وأن توضح لهم أن الزواج ليس كله سنوات من العسل، وأن العلاقة ليست صراعاً بين طرفين بقدر ماهي تكامل بينهما. وليس شرطاً أن يكونا نسخة واحدة لا اختلافات بينهما، بل إن هذه الاختلافات مهمة وضرورية، كيف تتسلل إلى هذا الوعي بخفة، وبحيل فنية لتحدث أثراً فيه لا يغادره؟
كان واضحاً أن العرض تم إعداده ليقدم كعرض قاعة، لا كعرض علبة إيطالية، فمعروف أن عروض القاعات الصغيرة لها طبيعة خاصة، فهي تتيح الاقتراب الحميم بين الممثل والجمهور، وتتطلب كذلك أداء هادئاً وصادقاً من الممثل، بخاصة في استخدام جسده وطبقات صوته، أما لو كان الموضوع كوميدياً، فإن كلاً من الممثل والمشاهد يستمد طاقته من الآخر، فتحدث هذه الكيمياء بينهما، ويخرج كلاهما الأول وقد أشبع رغبته من التمثيل، والآخر وقد اشبعها من المشاهدة والتأثر.
عودة كيوبيد
قصة العرض أن كيويبد (إله الحب عند الرومان) بعد أن تقاعد عاد لممارسة عمله مرة أخرى من أجل ابنته المقدمة على الزواج من ابن عمها، وأراد الأب أن يضع الابنة في اختبارات عدة قبل الإقدام على الزواج حتى تعرف طبيعة هذه العلاقة ومايمكن أن تتعرض له من متاعب، كي يؤهلها لخوض التجربة بكل ماتحمله من سعادة وشقاء.
في العرض يكتشف المشاهد ذاته، وكأن مايدور أمامه هو نفسه ماعاشه، فيرى صورته مجسدة في مساحة التمثيل، ويدرك في النهاية أن العلاقة تحتاج نوعاً من الجلد والمرونة والفهم، وأنها يجب أن تعاش بحلوها ومرها، وأن ما يطرأ عليها من تغيرات هو أمر طبيعي يجب استيعابه لا اعتباره نهاية المطاف. في مساحة ضيقة للغاية استطاع المخرج أحمد فؤاد أن يدير فريق عمله بمهارة، بدءاً من مصمم الديكور أحمد أمين، الذي حرص على أن يكون ديكوره مبهجاً ومرحاً في ألوانه ومرناً في تصميماته، ليتماس مع الحالة التي يقدمها العرض، ويعين الممثلين على أداء مشاهدهم وتغيير المناظر بسلاسة ومن دون ارتباك، وهو أمر صعب بالنظر إلى حجم مساحة التمثيل وطبيعة القاعة نفسها.
وعلى القدر نفسه من البساطة جاءت إضاءة أبو بكر الشريف التي غلبت عليها الإنارة أكثر، ولم يفرط في استخدام الألوان، وهو ما ناسب طبيعة العرض وحالته، وتميزت الأزياء (صممتها رباب البرنس) بكونها مناسبة لطبيعة الشخصيات ومشاهدها المتنوعة، ولعب العزف الحي للكمان (تامر عبدالمجيد)، دوراً في التعبير عن كوميديا العرض وكان معيناً على توصيل مغزاها.
وعي الممثلين
أدى عبدالمنعم رياض دور كيوبيد أداء كوميدياً لافتاً ومحسوباً، لا استظراف فيه ولا مبالغة، وهي طريقة في الأداء لم يعتد عليها من تابع هذا الممثل من قبل، حين لعب ببراعة دور الشرير في آخر عمل مسرحي له "أفراح القبة". لكنه هنا بدا واعياً تماماً، لا لطبيعة الشخصية وطبيعة القضية المطروحة فحسب، بل لطبيعة القاعة نفسها التي تتطلب قدراً عالياً من الصدق، ليكون الممثل قادراً على إقناع مشاهديه والتأثير فيهم، فهذا الاقتراب بين الممثل والجمهور يجعل الممثل يبدو كما لو كان عارياً تماماً، بمعنى أن المشاهد يرصد كل خلجاته وأنفاسه، ويلمس إحساسه مباشرة، فلا مجال هنا للادعاء أو الاستظراف، وحدهما الموهبة والخبرة اللتان تلعبان دورهما.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خطيب الابنة لعب دوره كريم الحسيني بخفة ظل واضحة وبتنويعات عديدة، عكست هي الأخرى وعيه وسرعة بديهته، وقدرته على الأداء البسيط والمركب في آن واحد، ولعبت أمنية حسن دور الابنة وانتقالها من فتاة صغيرة إلى شابة ثم زوجة، بوعي شديد لكيفية إدارة الخلافات الزوجية وطبيعة المرأة وتحولاتها في مثل هذه العلاقة، وكانت نوال سمير في دور زوجة كيوبيد مثالاً للخبرة والرسوخ والاتساق مع طبيعة العرض ورسالته.
"خطة كيويبد" عرض أسري بامتياز، أدرك صناعه أن للمسرح دوراً اجتماعياً، ورسالة يمكنها أن تحدث تغييراً في مجتمعها، شريطة ألا يغلب الخطابي على الفني، صحيح أنه لم يتعمق أكثر في طبيعة الخلافات الزوجية وأسبابها، ومر عليها سريعاً، ولكن حسبه أنه مس هذه العلاقة وفتح أمام مشاهديه نافذة للتأمل والمراجعة، وذلك كله عبر جماليات تمثلت في سينوغرافيا العرض، وطبيعة أداء ممثليه، ورؤية مخرجه التي أرادها بسيطة، فلم تنزلق إلى التسطيح، ولم تستسلم لإغراءات الكوميديا، بل وظفت هذه الكوميديا بشكل واع لخدمة هدفها، والأهم من ذلك كله أنها جسدت القضية وأتاحت للمشاهدين فرصة المراجعة والنظر بعمق أكثر في علاقة قد لاتتوزان الحياة من دونها مهما كانت تقلباتها ومشكلاتها وأزماتها.