بعد مفاوضات عسيرة تواصلت جلساتها الرسمية والسرية خلال الأسبوعين الماضيين، اتفقت الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي على اتفاق سلام ينهي الصراع الذي استمر لعامين، وتسبب في مقتل عشرات الآلاف من المواطنين، وتهجير الملايين من مناطقهم، إلى جانب تركه آثاراً إنسانية مفجعة، وتزامن معه تدخلات إقليمية لا تزال آثارها باقية.
ويعد الاتفاق الذي نص على إنهاء الحرب في إقليم تيغراي والأجزاء الشمالية هو الأول بين حكومة رئيس الوزراء آبي أحمد والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، بعد جولة المحادثات الرسمية التي شهدتها بريتوريا عاصمة جنوب أفريقيا الثلاثاء 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وكانت لقاءات سرية شهدتها عواصم أفريقية جمعت بين الأطراف من دون الخروج بتوصيات رسمية.
وتعتبر الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي التي تحكم إقليم تيغراي هي الفصيل المعارض الرئيس لحكومة آبي أحمد، حيث شنت الأخيرة الحرب على الجبهة جراء خلافات متعددة بين الجانبين، وبعد زعم الحكومة مهاجمة قيادة قوات الوحدة الشمالية للجيش الإثيوبي، مما دفع آبي أحمد إلى إنفاذ القانون في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، والسيطرة على الإقليم، وتطورت الأحداث متلاحقة لتتسع رقعتها وتشمل أقاليم أخرى في حرب ما تلبث أن تهدأ حتى تشتعل من جديد.
دور رئيس
اندلعت الحرب الأخيرة في أغسطس (آب) الماضي لاغية هدنة كان قد توصل لها الطرفان في مارس (آذار)، وشهدت الفترة الأخيرة معارك متسعة النطاق استطاعت فيها الحكومة السيطرة على بعض المدن بإقليم تيغراي بالتزامن مع مشاركة القوات الإريترية الحليفة في القتال إلى جانب القوات الحكومية.
وكانت دول غربية في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية دانت الأوضاع الإنسانية المتردية في تيغراي، كما دانت منظمات دولية وجهات إنسانية غربية عدة الممارسات الحكومية. وفي حين نفت الحكومة الاتهامات الموجهة إليها، اتهمت تلك الجهات بالتدخل المباشر في الشؤون الإثيوبية.
وأثناء ذلك ظلت جهود دولية وإقليمية تنشط في لقاءات متعددة بالأطراف للبحث عن حل سلمي يوقف التصعيد ويعيد الاستقرار.
وكان للجنة سلام الاتحاد الأفريقي بقيادة الرئيس النيجيري السابق أولوسيغون أوباسانجو دور أساس في تقديم مقترح دعوة السلام الأخيرة بجنوب أفريقيا في السادس من أكتوبر الماضي والتي انتظم الطرفان في عقدها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم استمرارية الحرب بين الجانبين ظلت مفاوضاتهما ضمن ظروف شديدة التكتم في جلسات رسمية وغير رسمية، تحت إشراف الوساطة الأفريقية والرعاية المباشرة من الرئيس سيريل رامافوزا رئيس جمهورية جنوب أفريقيا، ومشاركة الرئيس الكيني السابق أوهورو كينياتا، إلى جانب فوموزيل ملالمبو نائبة رئيس جمهورية جنوب أفريقيا السابقة.
وشمل الاتفاق عدداً من البنود أهمها وقف الأعمال العدائية واستئناف وصول المساعدات الإنسانية إلى إقليم تيغراي، واستعادة الخدمات الأساسية، ونزع السلاح بشكل منهجي ومنظم، واستعادة القانون والنظام الدستوري في الإقليم.
وقال البيان المشترك "نعيد تأكيد التزامنا الحفاظ على سيادة إثيوبيا وسلامتها الإقليمية والتمسك بدستور جمهورية إثيوبيا الديمقراطية الفيدرالية". وأضاف "لقد اتفقنا على تنفيذ تدابير انتقالية تشمل استعادة النظام الدستوري في إقليم تيغراي، وإطار عمل لتسوية الخلافات السياسية، وإطار سياسة العدالة الانتقالية لضمان المساءلة والمصالحة". واحتوى البيان في جملته على (12) مادة اتفق الجانبان على تنفيذها.
نشر التسامح
رئيس المعهد الإثيوبي للدبلوماسية الشعبية يس أحمد يقول إن "أهم ما يعنيه هذا الاتفاق هو إيقاف القتال الذي كان يجري يومياً ويؤدي إلى مقتل أعداد كبيرة من الطرفين، وكان مأساة إنسانية كبيرة على الإقليم كله". ويضيف "كان الخطر الأكبر أن تنتقل الحرب إلى أماكن أخرى، فمعظم الدول المجاورة تحمل في داخلها بذور الخلافات الإقليمية والعرقية، كما أنها تعاني ضعفاً في بنياتها السياسية، ولذا فالحرب كانت قابلة للتوسع لتشمل دولاً وأطرافاً مجاورة".
ويشير أحمد إلى أن أهم ما سيحققه الاتفاق خلال المرحلة المقبلة هو نشر التسامح وتحقيق دولة القانون والدستور والعمل المشترك بين جميع فئات الشعب الإثيوبي، سواء في الشمال أو غيره من المناطق لأجل الاستقرار والنهوض بالدولة التي تجمع وتوحد الجميع.
وتابع "أعتقد أن هذا الاتفاق أعاد للاتحاد الأفريقي دوره الذي كان مفقوداً. لقد أعطى صمود الحكومة الإثيوبية ومقاومتها الضغوط الغربية التشجيع للاتحاد الأفريقي للعب دور الوسيط وتحقيق شعار (حل المشكلات الأفريقية بحلول أفريقية)، بمعنى أن أفريقيا قد نضجت سياسياً وهي القادرة على حل مشكلاتها بنفسها. وأن هذا النجاح للاتحاد سيصقل ويشجع إرادته كي يتحمل مسؤولياته ويمضي قدماً في حل بقية القضايا والمشكلات الأفريقية القائمة.
من جهته قرأ المحلل السياسي بشير إسحاق اتفاق السلام الحالي في سياق شموله ثلاثة محاور رئيسة، الأول إنساني يتمثل في تقديم المساعدات للشعب الإثيوبي في إقليم تيغراي واستعادة جميع الخدمات، والثاني سياسي وأمني يتمثل في نزع سلاح الجبهة بالكامل في إطار جدول زمني خلال شهر واحد من توقيع اتفاق السلام. أما المحور الثالث فهو الجانب القانوني باستعادة النظام الدستوري في الإقليم، إلى جانب ترتيبات أخرى في النواحي التي تكفل إعادة الإقليم طبيعياً للدولة الإثيوبية ومشاركته في الحياة العامة وفق الاتفاق السياسي كغيره من الأقاليم الأخرى.
يضيف "يعد الاتفاق نجاحاً للدبلوماسية الإثيوبية التي تمسكت بقوة بمبدأ وساطة الاتحاد الأفريقي. فإثيوبيا كدولة مقر للاتحاد عززت ثقة الأفارقة بها وبأنفسهم في حل مشكلاتهم من دون تدخلات أجنبية تؤثر في استقلالية القرار والدول الأفريقية".
وعن الأثر المباشر للاتفاق على الواقع يضيف "إعادة السلام والاستقرار يتبعه توجه وطني جاد للنهوض بالبلاد وتعويض ما خسرته من أيام في الخلافات والاقتتال، كما أتوقع أن يعيد الاتفاق تشكيل التماسك الوطني بقوة تساعد على التفرغ لقضايا مهمة من اقتصاد وتنمية وغير ذلك من هموم".
اتفاق إطاري
مدير المعهد الأفريقي للدراسات معتصم عبد القادر الحسن يقول إن "الاتفاق جاء في مدۃ وجيزۃ من التفاوض لم تتجاوز عشرة أيام وبرعاية أفريقية، مما يدل على جدية الطرفين في طي صفحات الاختلاف والاحتراب التي كلفت الدولة والشعب الإثيوبي كثيراً من الخسائر المادية والبشرية، إلى جانب الآلام والتشرد".
وتابع "الاتفاق إطاري وشامل لمجمل القضايا، وأهم ما فيه وقف العدائيات العسكرية والدعاية الإعلامية، وضمان وصول المواد الغذائية والطبية والخدمات والعون الإنساني للمواطنين. والتخطيط لإعادة إعمار البلاد وإعادة اللاجئين والنازحين لمناطقهم".
وأشار إلى أن "أهم ما ينتظر أن يلتزم به الطرفان هو إنزال ما اتفقا عليه إلى أرض الواقع لتنفيذه في خطوات مدروسة تؤمن مصالحهما تأميناً حقيقياً لا يؤدي إلى أي انتكاسات مستقبلاً، وكذلك فإن تطبيق الاتفاق سينعكس إيجاباً على دول الجوار والإقليم وعلى السلم والأمن في أفريقيا والعالم".