شرطة دينية أو دورية توجيهية أو ما تسمى "الشرطة الأخلاقية"، القاسم المشترك بينها أنها مركبة مجهزة بطاقم من الذكور مهمتها الأساسية مراقبة النساء، ومعاقبة واعتقال من تخالف "اللبس العام" وبخاصة الحجاب في عدد من الدول، التي تعيش مرحلة جمود فكري وتمييز ضد المرأة، على النحو الذي أجج الانتفاضات التي تشهدها المدن الإيرانية حالياً بعد مقتل الشابة الإيرانية مهسا أميني.
عادة ما تقف "المركبة الدينية" في الأماكن المزدحمة كمراكز التسوق والساحات ومحطات مترو الأنفاق، وعند اعتقال أي امرأة يتم نقلها مباشرة إلى مراكز الشرطة أو إلى منشأة إصلاحية، وقد يتخللها في وقت الاعتقال الاعتداء بالضرب، ومن حسن حظ النساء ألا تتعدى العقوبة أحياناً إلقاء محاضرة على مسامعها حول كيفية ارتداء الملابس ثم يطلق سراحها في نفس اليوم عادة بعد حضور أحد أفراد العائلة وغالباً ما يكون ذكراً.
هذا ما حدث في أوائل فصل الخريف 13 سبتمبر (أيلول) 2022 في العاصمة الإيرانية طهران، عندما أوقفت الشرطة الأخلاقية شابة تبلغ من العمر 22 عاماً أثناء قيامها بزيارة لعائلتها في العاصمة، ليؤدي ذلك إلى موتها أثناء اقتيادها في الشاحنة الصغيرة إلى مركز الشرطة، ما أدى إلى وفاتها ثم إلى سلسلة احتجاجات، لم تشهدها إيران منذ أعوام طويلة أيام اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979، ولا تزال نتيجة هذه الاحتجاجات مستمرة ومجهولة المصير، إلا أن كثيرين رأوا أنها ستهز على الأقل إن لم تسقط مع الوقت هيبة نظام الولي الفقيه في طهران، الذي أمعن منذ وصوله إلى الحكم في فرض سطوته على النساء وقمعهن تحت ذرائع متعددة، وفق تهم منظمات حقوق الإنسان العالمية، والنشطاء الإيرانيين، فيما تقول إيران إنها تطبق تعاليم الإسلام، وهو ما يرفضه عدد كبير من الفقهاء المسلمين.
على خطى الإيرانيين
وعلى الرغم من محاولة النظام الإيراني تقديم نفسه على أنه جزء من المجتمع الدولي فإنه في اعتقاد كثيرين لا يختلف كثيراً عن نظام "طالبان"، ففي دولة أفغانستان بعد سيطرة "طالبان" على الحكم عام 2021، كان بين أول قراراتها إلغاء وزارة المرأة ووضعها وزارة تلاحق المرأة، عندما أنشأت وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتداهم بها النساء غير المحجبات في شوارع أفغانستان.
إلا أن كلا النظامين الإيراني والطالباني شكلا تشويهاً لافتاً للتعاليم الإسلامية، التي يقول مفكرون معتبرون، إنها تدعو إلى الرحمة خصوصاً نحو النساء والأطفال، وصون الكرامة الإنسانية.
وسنستعرض في هذا التقرير تاريخ الحسبة الدينية والأمر بالمعروف إسلامياً، وكيف تحول شكلها في بعض التجارب الراديكالية إلى أجهزة انتهاك ضد النساء.
تنظيم الحسبة تاريخياً
وبالعودة إلى نظام تأسيس الحسبة في الإسلام، نرى أنها كانت مرتكزة على قاعدة أساسية وهي "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، على الرغم من عدم ذكر أي نص من القرآن كيفية تأسيس نظام بذلك، ففي العهد النبوي كان الأمر بالمعروف بحسب المؤرخين منصرفاً إلى مكافحة "الغش في البيع والمعاملات التجارية"، ولم تكن مراقبة سلوك النساء محوراً شائعاً فيه، بحسب المدونات التراثية.
وبدأ تطبيق الحسبة كنظام منذ أواخر العهد الأموي ومطلع العهد العباسي، إذ عرف أبو الحسن الماوردي أحد أكبر قضاة الدولة العباسية، الحسبة في الأحكام السلطانية على أنها حق الخليفة في تنظيم أخلاق الأفراد العامة.
لم يذكر الفقيه المالكي يحيى بن عمر في كتابه "أحكام السوق"، وهو أقدم نص معروف يركز حصرياً على الحسبة من دون مناقشتها في سياق الموضوعات الفقهية الأخرى، كلمات مثل "الحسبة" أو "المحتسب" على وجه التحديد إلا أنه تناول مسألة تنظيم الأخلاق في الشأن العام بما في ذلك في الأسواق والشارع والحمامات العامة.
وعرف لقب المحتسب لأول مره في العصر العباسي، بعد أن عين زياد بن أبيه عاملاً على سوق البصرة في خلافة معاوية بن أبي سفيان.
ومع أن دولاً عربية وإسلامية عدة، لا تزال تحتفظ بمواد في قوانينها تشير إلى مراعاة الآداب العامة والقيم، في مثل نظام "الذوق العام" الذي أقرته السعودية قبل سنوات، فإن الانتهاكات الحقوقية ظلت نادرة على النحو الذي يجري حالياً في إيران وأفغانستان.
إلا أن البلدان التي وصلت فيها تيارات إسلامية إلى السلطة ظل فيها تطبيق "الحسبة"، على نحو يتسم بالتمييز ضد المرأة على غرار السودان في عهد نظامها السابق، إذ يرى الكاتب السوداني محمد حامد اليحيى أن الحسبة في السودان لم تبدأ إلا في عهد نظام عمر البشير الذي أصدر في عام 1996، قانوناً يسمى النظام العام، الذي يعطي الصلاحيات لشرطة النظام العام لتقوم بعمليات القمع وكبت الحريات وهذا القانون ذو مواد فضفاضة وغير مضبوطة التعريفات بحسب قوله، مثل الفعل الفاضح في الطريق العام أو اللبس الفاضح وغيرها من المواد التي تعطي صلاحيات واسعة لرجل الشرطة في تعنيف وتنكيل الناس وكبت حرياتهم.
جلد صحافية بسبب بنطال
وأشار الكاتب السوداني يحيى إلى قصة الصحافية "لبنى" التي أصبحت مثاراً للرأي العام بشكل دولي مثل قضية مهسا الإيرانية، إلا أنه من حسن حظها وحظ البشير أنها لم تمت في الاعتداء وإلا كانت قضيتها تسببت في ثورات لا منتهية في السودان.
كانت مخالفة "لبنى" هي لبس بنطال من نوع الجينز على الرغم من حجابها المحتشم، مما تسبب في جلدها وضربها أمام الملأ والتشهير بها، على الرغم من عدم وجود مادة صريحة في القانون تمنع لبس البنطال، إذ كانت مواد القانون فضفاضة، وغير محكمة الصياغة بمعنى أن تفسير تلك القوانين وتطبيقها كان متروكاً لأفراد الشرطة الذين هم في الغالب الأعم غير متعلمين بصورة كافية، وغير ذلك لديهم حساسيه مع المجتمع بشكل من الأشكال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في عام 2016 أصدرت السعودية قراراً بإلغاء مهام الهيئة (الشرطة الدينية) والحد من صلاحياتها التنفيذية ومنعها من القبض أو إلقاء أي عقوبة، حيث شمل التنظيم الجديد للهيئة منع رؤساء وأعضاء الهيئة من إجراءات الضبط الجنائي والإداري والتحفظ والمتابعة والمطاردة والإيقاف والاستجواب والتثبت من الهوية والتحقيق والقبض، فأصبح دور الهيئة هو الدعوة للمعروف والنهي عن المنكر بمبدأ اللين والرفق فقط، وتقديم مذكرات إبلاغ رسمية إلى الشرطة أو الإدارة العامة لمكافحة المخدرات في ما يظهر لها من مخالفات، ما أدى إلى اختفاء التجاوزات التي كانت تصدر من الهيئة مثل التنكيل بالنساء وتشويه سمعتهن.
وتطالب المتظاهرات الإيرانيات باتخاذ إجراء مماثل بحل شرطة الشرطة الدينية في بلادهن، بوصفها ذات تاريخ مشين في قمع النساء، والتدخل في حرياتهن الشخصية.
وأشار المبعوث الأممي الخاص لشؤون حقوق الإنسان في إيران جاويد رحمان، في إيجاز أخيراً في الأمم المتحدة، إلى وفاة مهسا أميني، مبيناً أنها "لم تكن أول ضحية لتعامل الشرطة العنيف". وطالب بإجراء تحقيق مستقل في قمع الاحتجاجات من قبل قوات الأمن الإيرانية. ووصف تحقيقات النظام الإيراني في مقتل أميني بـ"الفاشلة".
عبادي: المرأة تنتصر لنفسها
وقال رحمان إن "40 طفلاً على الأقل قتلوا خلال قمع الاحتجاجات على مدار الأسابيع الماضية"، وذكر أن هذه الأوضاع هي نتاج عدم مساءلة الجمهورية الإسلامية في ما يتعلق بانتهاك حقوق الإنسان.
وتحدثت الحقوقية الإيرانية الحاصلة على جائزة نوبل شيرين عبادي في الاجتماع، مؤكدة أن "التوترات في المنطقة ستنخفض مع مجيء نظام ديمقراطي للحكم في إيران، وطالبت الحكومات الديمقراطية باستدعاء سفرائها إيران، من وخفض مستوى العلاقات الدبلوماسية إلى قائم بالأعمال". وقالت، "إنني أتحدث عن دولة يرى نظامها أنه لا عقاب للقتل، ويجرم الصحافة".
وطالبت الناشطة الحقوقية نازنين بنيادي بصفتها أحد المتحدثين في الاجتماع، الأمم المتحدة بعدم التزام الصمت إزاء ما يحدث في إيران وانتهاك النظام الإيراني لحقوق الإنسان. وقالت بنيادي "أنا ناشطة في شؤون حقوق الإنسان بإيران منذ 14 عاماً. ولا يوجد مكان في العالم يبدو فيه الوضع سيئاً مثل إيران، فلم تكن تظاهرات نوفمبر 2019م، حتى عام 2009م، بهذه الحدة"، وذكرت أن الجزء غير المسبوق من الاحتجاجات الحالية هو أن المرأة تقودها.
كما قالت سفيرة أميركا لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد إن "أميني قتلت فقط لأنها امرأة، وإن العناصر الأمنية دمرت أحلام هذه الشابة البالغة من العمر 22 عاماً. أضافت "يجب أن ندين انتهاك حقوق الإنسان في إيران، ومعاقبة منتهكي حقوق الإنسان".
وكان معهد الدراسات الإيرانية (رصانة) ومقره الرياض، رصد سجلاً حافلاً من الانتهاكات التي تخللت تظاهرات النساء الحالية في إيران، مشيراً إلى أن حشودها بات صوتها يتسع صداه، وأنها لا تشبه أياً من التي سبقتها في عقود النظام الإسلامي الماضية في طهران.