لا شك في أن كثيراً من قصص الحب تموت صمتاً وكمداً، لكن يبقى بعضها راسخاً في الذاكرة لارتباطه بعشاق مبدعين بثوا تجاربهم وانكساراتهم في أعمال إبداعية خالدة لتتحول التجربة الخاصة والانكسار الذاتي إلى ذاكرة عامة وحال إبداعية في متناول المتلقي الذي يؤسس ذاكرته الخاصة عليها.
ولعل بعض تلك التجارب خاضعة للتأويل وإعادة القراءة، بينما يظل بعضها ذا أثر على الذاكرة الجمعية رفضاً وقبولاً وفقاً لسياق التلقي الذي يختلف من وقت إلى آخر، فما ظل مرفوضاً في فترة تاريخية معينة ربما يتحول إلى حال فنية أسطورية الطابع في مرحلة لاحقة.
احتلال الأرض والقلب
في التاريخ الإريتري ثمة عشاق كبار تجاوزوا "تابوهات" المجتمع وانتموا إلى ذاتهم أكثر من الانصياع لتلك المحددات المفترضة.
ففي العهد الاستعماري الإيطالي ثمة حكايا لا تزال تروى وتتوارثها الأجيال عن بعض العشاق الكبار الذين بثوا أوجاعهم في أعمال غنائية خرجت للتو من دائرة "التابو" إلى دائرة التداول بفعل التقادم، أو بفضل التقدم في إدراك معنى الفن.
فذاك شاعر تغنى بحبيبته ابنة الضابط الكولونيالي الإيطالي بعد أزمنة من الصمت ومكابدات العشق من طرف واحد، فانبرى وهو يشهد لحظة رحيلها حين تقرر نقل الوحدة التي يشرف عليها والدها من إريتريا نحو المستعمرة الإيطالية ليبيا في شمال أفريقيا، مما دفعه إلى التغني جهراً هذه المرة "لآلي ولالينا بابورا تروبلي سافرا"، ولآلي هذه موال يوازي (يا ليل يا عين عند العرب) وبعد استهلاله بهذا الموال يعرج مباشرة نحو الخبر الموجع "آه لقد أبحر مركبها نحو تروبللي" أي طرابلس.
ويبث الشاعر وجعه أكثر عبر عقده مفارقة غرائبية هي "أهلي غاضبون زادهم النار الحمراء/ وأهلك منتشون يرتوون بدماء أهلي/ فليرحل جيش الاحتلال عن أرضنا/ ولتبقي أنت ها هنا".
ثمة فرز قوامه معادلة الهوى الذي احتل خرائط القلب بشكل مواز لاحتلال الوطن، فبينما يخضع الشاعر طواعية لذلك الاحتلال الذي يزرع مساحات القلب خضرة وبهاء، يقف في الوقت ذاته بالمرصاد أمام اغتصاب الأرض وإذلال مالكيها. إنه الحب في حاله الفطرية الأولى، بحيث لا يحاسب المعشوق بجريرة أهله ولا يرتهن القلب لمحددات الجغرافيا والعرق والطبقة، كأن الحب "حال هدنة" مع كل معارك الوجود.
من الهامش إلى المقدمة
هذه الأغنية التي بقيت خالدة في الذاكرة الإريترية أعيد توزيعها وغناؤها من قبل الفنان الإريتري المعاصر إدريس محمد علي، ولا يعرف معظم الإريتريون الذين يطربون لها اسم شاعرها ومغنيها الأصلي وإن حفظوا قصته وكلمات أغنيته عن ظهر قلب، الأمر الذي يؤكد أن العمل الإبداعي هو الأبقى، سواء في وجود مبدعيه أو رحيلهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتحولت الأغنية من مجرد حال حب خاصة لمجند بسيط أقام علاقة افتراضية مع ابنة محتل وظل يحبها من طرف واحد من دون أن يبوح لها، إذ كان مجرد التفكير في علاقة كهذه يعد من "التابوهات"، إلى أغنية رائجة ومحبوبة يستمع إليها الإريتريون من دون أية عقدة تتعلق بالسياقين التاريخي والسياسي.
يقول المطرب الإريتري عبدالعزيز مرانت لـ"اندبندنت عربية إنه "لا يعرف اسم صاحب الأغنية، لكنه حفظها عن الفنان إدريس محمد علي"، مضيفاً "هي أغنية جميلة ولحنها بسيط وانسيابي مما يسهم في حفظها بسرعة".
ويؤكد "كثر يطلبون مني أداءها حتى في الأفراح على رغم ارتباطها بفترة زمنية بعيدة وبظروف الاستعمار، لكن جمال الأغنية وبساطتها وانحيازها للحب ربما تكون أسباباً موضوعية للطلبات المتكررة لسماعها"، ويشدد على أن "المنتج الفني الجيد يفرض نفسه ويخلد في الأرض، فنحن حتى الآن لا نعرف اسم صاحبها، لكننا توارثنا اللحن والكلمات" ليصل إلى خلاصة مفادها بأن "العمل الإبداعي يبقى خالداً".
من مصوع إلى طرابلس
من جهته يحكي محمود جعفر المهتم بتراث الأغاني، "في فترة الاستعمار الإيطالي لإريتريا لم تكن هناك فرص لتسجيل الأغاني الإريترية، بخاصة للمغنيين المغمورين، بالتالي ليس هناك دليل مؤكد لاسم صاحب الأغنية، لكن قصته مذكورة داخل كلماتها"، مضيفاً "الأغنية تحكي حاله، لذلك عرفنا من خلالها أنه مجند في الجيش الإيطالي وأن حبيبته الإيطالية سافرت مع القوات نحو طرابلس، كما تذهب كلمات الأغنية لتوضيح شعوره كعاشق متيم وهو يرى رحيلها فيقول ’اللعنة على هذه السفينة التي فضحت سري‘، إذ كانت القوات تنتقل عبر السفن من ميناء مصوع إلى ليبيا".
ويتوقف جعفر عند الفرز الذي يقيمه الفنان بين عشيقته ومن يسميهم أهلها ويقصد المستعمرين، فهو "يرفض الاحتلال ويتمنى رحيله عاجلاً، لكنه في الوقت ذاته يتمنى بقاءها، يقول (تلك أنانية العاشق)، وفي الوقت ذاته التزامه بالدفاع عن وطنه على رغم أنه مجند في الجيش ذاته الذي يحتل بلاده"، مؤكداً أن "كلمات الأغنية تصف بشكل دقيق جمال تلك الفتاة الإيطالية، فيصف الشاعر قوامها ورشاقتها وشعرها المنساب على كتفيها، كما يبرئها من أي لوم أو عتب، كما لو كانت ملاكاً في مدينة من الشياطين".
عاشق ضل الطريق
ويضيف جعفر أن المقطع الأخير من الأغنية يرد فيه المطرب على نفسه، إذ يقول "لا يترافق العطشان والمنتشي معاً، أو يفهمان بعضهما، وهكذا حال العاشق الذي يضل طريقه"، وهذا اعتراف بأن قلبه تورط في لعبة لن يطول مبتغاه منها، لكنه الحب حيث لا منطق ولا تبرير مستحق للعلاقة.
يرى مرانت أن "الأغاني القديمة، لا سيما تلك التي تم غناؤها في الفترة الإيطالية والبريطانية أضحت الآن أكثر سماعاً من ذي قبل" ويفكر في إعادة توزيع هذه الأغنية تحديداً وغنائها، مبرراً ذلك بسببين، الأول أنها أغنية جميلة وبسيطة يمكن إضافة توزيعات موسيقية عليها لتبدو أكثر جمالاً والثاني أنها مطلوبة بكثرة من الجمهور على رغم غرائبية فكرتها وقصة صاحبها.