تزامن تصويت "الكلية الملكية للتمريض" Royal College of Nursing الأسبوع الفائت على تنظيم أكبر إضراب في تاريخ هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية، احتجاجاً على وضع الأجور وظروف العمل، مع قيام نشطاء مجموعة "أوقفوا النفط" Just Stop Oil بإغلاق جزء من الطريق الدائري السريع M25 لليوم الثالث على التوالي، في إطار الاحتجاجات المستمرة على التغير المناخي.
إنني أجمع بين هذين المثلين - الممرضات المضربات والمجموعة المتظاهرة من أجل المناخ – لسبب يعود إلى وجود خيط يربط بين ردود الفعل على هذين الحدثين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما هذه الأنانية! هل يمكن لوم الممرضات أو إلقاء نعوت الأنانية المطلقة عليهن فقط لأنهن يرغبن من التمكن من الاعتناء بكم وبأقاربكم المرضى والمحتضرين ضمن بيئة وظروف آمنة، لقاء أجر عادل. كل ذلك كيلا يُرغمن على مغادرة عملهن في مرافق "أن أتش أس" سعياً إلى الحصول على وظيفة ذات أجر أفضل في متجر سوبرماركت، أو محاولة تأمين قوتهن اليومي باستخدام بنوك الطعام، وللمطالبة بتوظيف عدد كاف من العاملين في القطاع الصحي لتجنيب المرضى المعاناة، ولتأمين حمايتهن من سوء المعاملة في العمل؟ إن الدعوة إلى الإضراب هي حقاً لأمرٌ مشين!
أما في ما يتعلق بناشطي مجموعة "أوقفوا النفط"، فهل من الخطأ أن يقوموا بحض صناع القرار الأقوياء على معالجة أزمة تغير المناخ - التي إذا تُركت بلا رادع قد تقضي على الحياة على هذا الكوكب - من خلال القيام بشيء ما أقل حدةً ... وأكثر هدوءاً بحيث يكون من السهل تجاهله؟
إن توجيه صرخات بـ "الأنانية" إلى كل من الممرضات (بطلات فترة وباء كورونا، اللواتي تم التصفيق لهن على عتبات المنازل، أتذكرون ذلك؟)، وناشطي المناخ (الفيضانات القاتلة وموجات الحر، واتجاه الكوكب على "طريق سريع نحو الجحيم" بحسب تحذير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في قمة "كوب 27" في مصر أتذكرون ذلك؟)، هذه الصرخات إنما تشير إلى أن هذه البلاد تتعامى في الواقع عما هو الهدف من التحرك المباشر.
من البديهي أن تكون الاحتجاجات والإضرابات مثيرةً للإزعاج والمتاعب. وإذا كنتم ترغبون في لفت الانتباه إلى قضية وجودية مستمرة لا يريد المسؤولون الذين هم في السلطة التعامل معها، فأنتم بحاجة إلى أن تقوموا بتحرك كبير - أو عودوا إلى منازلكم.
دار كثيرٌ من الجدل حول القيام باحتجاج "مقبول" والتظاهر "بالطرق الصحيحة"، لتسليط الضوء على المشكلات المطروحة (تذكروا حادثة إلقاء أفراد من مجموعة "أوقفوا النفط" الحساء على لوحة لفان غوخ). إن هذا يصب في مصلحة أولئك الذين لا يريدون معالجة الأمور التي يحتج عليها الناشطون في المقام الأول.
غرانت شابس الذي كان وزيراً للنقل وهو وزير الأعمال الآن (الذي تشكل مسيرته المهنية في رأيي، دليلاً واضحاً على نضوب المواهب لدى حزب "المحافظين")، قال لإذاعة "أل بي سي" يوم الثلاثاء الفائت إنه يأمل في أن يمضي المحتجون فترة عيد الميلاد داخل السجون.
لنفترض أننا عدنا إلى بدايات القرن العشرين، وقمتم بوضع قبعة عالية على رأس شابس كتلك التي يعتمرها جيكوب ريس موغ، فإنه كان سيهم بنشر كتيبات لن تكون سوى خربشات تتضمن إرشادات هدفها إسكات المطالِبات بحق المرأة في الاقتراع، أو إطعامهن قسراً في السجن. فحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، تم زج أكثر من ألف امرأة كن يناضلن من أجل حق المرأة في التصويت في بريطانيا.
فكروا في الأمر على هذا النحو: إذا لم يؤد الإضراب الواسع إلى عزل المسؤولين المعنيين بأزمة ما - وإن كان أحدٌ لم يتأثر به أو يعره اهتماماً وسار كل شيء كالمعتاد - فما هو الهدف إذاً منه بالضبط؟ الإضرابات تحدث عندما تفشل المفاوضات، وبقاء المسؤولين في وضع مريح من شأنه أن يفقد التحرك الشعبي فاعليته، ويجعل العمال في حال من العجز التام.
مَن يستفيد من ذلك؟ ولمصلحة مَن لم يعد بإمكان العمال أن يحافظوا على وظيفتهم بشكل فعال، في الوقت الذي يقومون فيه بمساومة أخيرة للحصول على أجر عادل وظروف عمل أفضل؟ أجد من المزعج حقاً أن ينخرط الحزبان الرئيسيان في بريطانيا، في ما يبدو، في لعبة مبارزات فردية حول مَن يمكنه أن يخون الأفراد العاملين بشكل كامل - إما عن طريق تكتيكات التشهير الشاملة (كالقول إن المشاركين في الإضرابات هم أفرادٌ "كسالى") أو من خلال رفض الوقوف إلى جانبهم في صفوف الاعتصام. يتعين هنا تذكير السير كير ستارمر (زعيم حزب "العمال") باسم حزبه بين الفينة والأخرى.
غرانت شابس رأى أن إضرابات الممرضات "لن تعود بالنفع على أحد". حسناً ماذا عن هؤلاء وعائلاتهن وكل الذين يعتنين بهم؟ إن ستارمر "يدرك" السبب في مختلف تلك الإضرابات، لكنه لا يساند الممرضات. عفواً ماذا؟
النوع نفسه من الانتقادات يتكرر، وتُشن حملات باستخدام هاشتاغات في شأنها على وسائل التواصل الاجتماعي في كل مرة، كأن يقال إن الاحتجاجات على الطرق السريعة يمكن أن تسبب إزعاجاً للأشخاص الذين لا "يستحقونه". وتُساق الحجة على هذا النحو: "ماذا عن صديقي طبيب السرطان الذي يتعين عليه الوصول إلى مرضاه بشكل عاجل؟"، أو "ماذا عن صديقي الذي يحتاج لعملية جراحية من شأنها أن تنقذ حياته؟".
إن وقوع حادث (أو حصول إغلاق بسبب ظروف جوية سيئة) سيكون له تأثير مماثل. وهذا بالضبط ما يحدث الآن بسبب أزمة المناخ. سنواصل رؤية المزيد والمزيد من هذه الظروف الجوية السيئة. وعندما يحترق كوكبنا من شدة الغليان وتغمرنا مياه الفيضانات، فلن يعود التقاطع الرقم 31 الذي يوصل إلى "مركز ليكسايد للتسوق" في مقاطعة إيسيكس موجوداً مع الأسف.
إن الحجة القائلة بأن "إضراب الممرضين من شأنه أن يعرض المرضى للخطر" ليست وافيةً أو مقنعةً هي الأخرى. فسلامة المرضى هي عرضةٌ للخطر كل يوم في مرافق "الخدمات الصحية الوطنية"، بسبب النقص في عدد الموظفين، والشح في التمويل، وضعف الأجور، وظروف العمل.
لكن لا تقلقوا! فإن حزبي "العمال" المعارض و"المحافظين"، يتسابقان على إدانة الأشخاص الذين يقررون الإضراب، لأن هؤلاء - على رغم العمل بدوام كامل - لا يستطيعون تسديد فواتيرهم. إنه لأمرٌ مريح، ناهيك بـ "مشروع قانون النظام العام" الجديد Order Bill Public الذي يهدف إلى تجريم الاحتجاجات أكثر فأكثر، وسيتم وسم الأفراد الذين يشاركون فيها بأجهزة تتبع إلكترونية. وأخيراً، أصبح لدينا قانونٌ ونظام رادع.
لسوء الحظ، ارتكبت الممرضات اللواتي صوتن من أجل الإضراب وناشطو الدفاع عن المناخ خطأً فادحاً - فقد نسوا أننا في بريطانيا، نهتم بالشكاوى المتعلقة بمدى التأثير المباشر لمثل تلك التحركات (إما على أنفسنا أو من الناحية الافتراضية)، أكثر بكثير من العمل على معالجة القضايا المطروحة.
إن الإقرار بوجوب دفع أجور عادلة للممرضين وضرورة معالجة أزمة المناخ - لكن مع عدم تحبيذ الطريقة التي ينتهجها هؤلاء الأشخاص لتحقيق أهدافهم، ومعاملتهم بازدراء بدلاً من مساندتهم والوقوف إلى جانبهم - هو أمرٌ غير مقبول.
وأخيراً إذا كنتم تعتقدون بأنه ينبغي ألا يكون للمواطنين الحق في الاحتجاج، وللعمال الحق باللجوء إلى الإضراب، فلعل من الأجدى بكم التجرؤ على القول إنكم لا تعتقدون بأن موظفي "أن أتش أس" يستحقون العيش بكرامة، وإنكم لا تهتمون فعلاً بمصير كوكبنا. ما ينقصكم هو البوح بذلك جهارة.
© The Independent