أثارت الزيارة التي قام بها المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية كريم خان إلى ليبيا، الأسبوع الماضي، الأولى من نوعها منذ عام 2012، والإحاطة التي قدمها بعدها أمام مجلس الأمن، نقاشاً ما زال مستمراً في البلاد في شأن الرسائل السياسية التي حملتها، بالنظر إلى توقيتها المتزامن مع حراك ملحوظ للمبعوث الأممي الجديد في ليبيا عبدالله باثيلي لتحريك المسار السياسي والترتيب لعملية انتخابية جديدة في أقرب الآجال.
وتزامن نشاط الهيئات الدولية العاملة في ليبيا مع تحرك لافت آخر لواشنطن في الملف الليبي بعد أشهر من الغياب الملحوظ، وجاءت هذه العودة بلهجة دبلوماسية حادة من المبعوث الأميركي الخاص إلى طرابلس ريتشارد نورلاند وتهديد صريح تجاه معرقلي العملية السياسية والانتخابات العامة.
فتح الملفات الساخنة
وفي أول زيارة لمدعي عام المحكمة الجنائية الدولية منذ 10 سنوات، التقى المدعي العام كريم خان عدداً كبيراً من المسؤولين الليبيين في طرابلس وبنغازي، منهم رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي وقائد الجيش خليفة حفتر ووزيرة الخارجية نجلاء المنقوش، ضمن الاستراتيجية الجديدة للمحكمة لمتابعة القضايا الخاصة بليبيا المكلفة النظر فيها من داخل البلاد.
وبحسب البيانات الإعلامية الصادرة من المؤسسات الليبية والمحكمة الدولية، ركز خان خلال مباحثاته مع المسؤولين الليبيين على أوجه التعاون بين القضاء الليبي ومحكمة الجنايات الدولية ومكتب المدعي العام في بنغازي وطرابلس بالقضايا المتعلقة بحقوق الإنسان.
وفي تصريح له من طرابلس أكد خان أن "الوضع في ليبيا يمثل أولوية لمكتبه، وأن تعميق التعاون مع السلطات الوطنية والسعي وراء المساءلة هو أحد المبادئ الأساسية للمحكمة الجنائية، وتأكيد احترام القانون الدولي، لتحقيق العدالة". وشدد على أهمية تعميق التعاون مع السلطات الوطنية.
قضايا شائكة
وبحسب التكليف الممنوح لها من مجلس الأمن، تنتظر المدعي العام للمحكمة الجنائية قضايا شائكة في ليبيا بحاجة إلى البت فيها، بينها ملف سيف الإسلام القذافي المطلوب من مكتبه منذ عام 2011، والمقابر الجماعية في ترهونة، وملف الإخفاء القسري للنائبة سهام سرقيوة وملفات أخرى.
وتفقد خان، خلال زيارته، مواقع المقابر الجماعية بمدينة ترهونة وهو من أكثر الملفات سخونة وإثارة للجدل في البلاد خلال السنوات الماضية.
الإحاطة الأولى من نوعها
وضمن زيارته اللافتة، قدم المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية الإحاطة الأولى أمام مجلس الأمن من داخل ليبيا، وقال فيها، "خضت نقاشات صريحة مع السلطات في ليبيا، وعقدت في طرابلس لقاءات مع النائب العام والمدعي العسكري ووزارة العدل، وحصلنا على أدلة على مزاعم تتعلق بأفعال ارتكبتها قوات عسكرية، وسنعيد تركيز عملنا على تدابير تؤدي إلى زيادة النتائج الملموسة". وذكر خان أن "فريقه مستمر في التحقيق في طرابلس ومصراتة ومناطق أخرى". وأكد أن "السلطات الليبية طرف رئيس في التحقيق، ونسعى للنهوض بالشراكة معها لتحقيق العدالة". أضاف، "زرت ترهونة وشاهدت المقابر الجماعية، وقد تجاوز عدد الجثث 250 جثة، عرفت هويات قليل منها".
خطوة إلى الأمام
وعقب الإحاطة تلا مندوب المكسيك لدى مجلس الأمن خوان رامون دي لا فوينتي بياناً صحافياً نيابة عن أعضاء مجلس الأمن الذين هم دول أطراف في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، جاء فيه، "نشكر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان وفريقه على تقديم التقرير الـ24 لمكتبه إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حول الوضع في ليبيا، وفقاً للقرار 1970، كما نرحب بزيارته الحالية إلى ليبيا، ونحن نأمل أن يشكل هذا خطوة إيجابية إلى الأمام على صعيد التعاون مع السلطات الليبية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أضاف، "ندرك الخطوات التي اتخذها مكتب المدعي العام لتنفيذ استراتيجية العمل المجددة في ما يتعلق بالوضع في ليبيا، والتي تم عرضها في التقرير السابق، وعلى وجه الخصوص نرحب باتخاذ إجراءات ملموسة بالتعاون مع السلطات الوطنية ذات الصلة، مما أدى إلى تسريع جمع الأدلة واعتقال المشتبه فيهم وتعميق المشاركة بشكل كبير مع المجتمعات المتضررة والضحايا ومجموعات الناجين ومنظمات المجتمع المدني". وتابع المندوب المكسيكي، "نرحب لأول مرة منذ بدء التحقيق في عام 2011، بحفاظ مكتب المدعي العام على وجود دائم في المنطقة، وقد أدى ذلك إلى تعزيز قدرة المكتب على مواجهة التحديات العملية واللوجيستية والأمنية المرتبطة بالتحقيق بطريقة مرنة".
مناكفات واشنطن وموسكو
وشهدت الجلسة التي تضمنت الاستماع لإحاطة المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، فصلاً جديداً من مناكفات روسيا والولايات المتحدة في شأن الملف الليبي، بعد أن جددت الولايات المتحدة دعوتها ليبيا لتسليم سيف الإسلام القذافي الخاضع لمذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
وفي كلمة لنائب مندوب الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة السفير ريتشارد ميلز، قال "يجب أن يواجه كبار المسؤولين السابقين في نظام القذافي، مثل سيف الإسلام القذافي العدالة، يجب التأكيد أن تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في الوضع الليبي وضد القذافي ظل معلقاً منذ أكثر من 11 عاماً، ولم تتعاون السلطات الليبية للمساعدة في تقديمه للعدالة في لاهاي، ويجب أن يحدث هذا في أقرب وقت ممكن". واعتبر أن "عمل المحكمة الجنائية الدولية في ليبيا عنصر حاسم في التزامات بلاده المشتركة بالمساءلة والسلام والأمن بالبلاد".
ورد مندوب روسيا في مجلس الأمن فاسيلي نيبيزيا على كلمة مندوب واشنطن، قائلاً إن "بلاده ترجو ألا يتعامل مجلس الأمن بمعايير مزدوجة مع المحكمة الجنائية الدولية". أضاف أن" بعض أعضاء مجلس الأمن ينظرون إلى جرائم الحرب التي تحدث في ليبيا بعين واحدة، والمحكمة الجنائية الدولية توشك أن تصبح أداة بيد بعض الدول وتفقد حياديتها كجهة جنائية مستقلة".
ويوصف سيف الإسلام القذافي في ليبيا بأنه رجل روسيا في البلاد، وأن موسكو تدعمه للعودة إلى السلطة، وهو ما دفع الولايات المتحدة لمعارضة ترشحه للانتخابات الرئاسية نهاية العام الماضي، وطالبت بتسليمه للمحكمة الدولية التي تلاحقه منذ سنوات.
تحرك سياسي بغطاء قانوني
وتعليقاً على هذه الزيارة اللافتة للمدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، وما تركته من أسئلة شغلت وما زالت الوسط السياسي الليبي، قال الناشط الحقوقي الليبي عبدالحميد بن صريتي، "هذا التحرك جاء للضغط السياسي على بعض الشخصيات المؤثرة والمسيطرة على المشهد الليبي لإفساح الطريق للانتخابات وتسهيل عملية الانتقال السياسي التي تعرقلها نزاعاتهم منذ سنوات عدة".أضاف، "من الملاحظ أن هذا التحرك تبع إعلان المبعوث الأممي الجديد إلى ليبيا تجهيز خريطة طريق جديدة للعمليتين السياسية والانتخابية، لذلك رتبت هذه الزيارة لكريم خان التي حملت رسالة للمسؤولين الليبيين مفادها، كلكم لديكم انتهاكات وتجاوزات مسكوت عنها، ويمكن تحريك ملفاتها إذا واصلتم عرقلة المسار التفاوضي وتجميد المسار السياسي للبقاء في السلطة". ورأى أن "الولايات المتحدة بالتأكيد جزء بارز في عملية الضغط هذه، وذلك يظهر بوضوح بتصريحات السفير نورلاند المهددة بقطع العلاقات مع أي طرف يعرقل الخطط الأممية لإنهاء المرحلة الانتقالية، ومن أبرز أهداف واشنطن من هذا كله، إبعاد يد روسيا عن الملف الليبي، الذي يشكل أهمية خاصة حالياً، بسبب مصادر الطاقة المتنازع عليها، وخصوصاً الغاز، وقود الصراع الدولي في السنوات المقبلة".