يتساءل كثيرون عن سر صمت زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، عما تقوم به حكومة الإطار التنسيقي، التي أودعت ثقتها بالمهندس الزراعي محمد شياع السوداني ليتولى الإدارة العامة للبلاد من خلال منصب رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، في أخطر حقبة من تاريخ العراق المعاصر.
ويأتي اختيار السوداني بعد عام من الفراغ الدستوري وعلى إثر حكومة تصريف الأعمال التي ترأسها مصطفى الكاظمي المدير السابق للاستخبارات الذي خلف وراءه ملفات كثيرة. ويؤكد مراقبون عراقيون نافذون أن الحكومة الجديدة لا صلاحية دستورية لها في اتخاذ قرارات التعيينات الحكومية والإنفاق وتوجيه الميزانيات.
المعلومات الخاصة تفيد بأن الصدر يراقب بدقة خطوات السوداني، التي تصب في الأهداف المعلنة ذاتها التي طرحها للحد من الفساد المستشري في البلاد ومحاربته، وإحالة رموز الفساد على المحاكمات، وهو الهدف الذي كان الصدر يجاهر بالعمل من أجله ويغري جمهوره في الشارع الفقير لتبنيه، ولعل تبني الصدر مشروع "الرقابة الشعبية" من خارج البرلمان يمنحه حرية أكبر للتعامل والتعاطي مع الجماهير التي ملت الصراخ بوجه الفاسدين.
حكومة العسرة
يعمل السوداني بصفته رئيس وزراء منتخباً في حكومة توافقية كاملة الصلاحية، تولت مهمتها بعد مخاض عسير دام سنة كاملة، ويسعى لاتخاذ إجراءات عاجلة وسريعة في ملفات الفساد الكبرى التي استهلها بالتصدي بما أطلق عليه الرأي العام العراقي "سرقة القرن"، التي تورطت بها هيئة الضرائب العامة، وهي جهة حكومية تابعة لوزارة المالية، بتخطيط وتنفيذ مقربين من السلطة، سرقوا أكثر من 2.7 مليار دولار من أموال أمانات هيئة الضرائب، التي تؤول إلى تجار ومستثمرين أودعت كأمانات لديها.
وشرع السوداني في كشف الموضوع وأمر بإلقاء القبض على المتورطين بالفساد، وهذه الخطوة فتحت ملفات وحكايات أسطورية عن حجم ونوع الفساد في البلاد، وهناك مؤشرات لملفات أكبر في المنافذ الحدودية والجمارك.
التخلص من رموز الفساد
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكي يفعل رئيس الحكومة إدارته لمكافحة الفساد بدأ بإصدار أوامر إقصاء عدد من الموظفين الكبار المتورطين بالفساد، الذين كانوا يديرون عمليات حكومة سلفه مصطفى الكاظمي، من بينهم وفي مقدمتهم رئيس الاستخبارات العامة رائد جوحي، والمستشار السياسي الإعلامي مشرق عباس، وضياء الموسوي مدير العمليات في جهاز الاستخبارات المتورط بصفقات الفساد وتهريب النفط.
السوداني جرد سلفه الكاظمي من القوة المكلفة حمايته وأمرها بترك موقعها قرب البيت الذي يسكنه رئيس الوزراء السابق بالمنطقة الخضراء، والبالغ قوامها مئة منتسب، في الوقت الذي كان يحتفظ كبار المسؤولين السابقين في العادة بأفواج حماية حكومية عدة حتى بعد سنوات من مغادرة المنصب وبأعداد كبيرة من قوة الحمايات التي تنفق عليهم الدولة من الميزانية العامة أموالاً طائلة.
خفض رواتب ووقف وهدر المال
إضافة إلى اتخاذ سلسلة قرارات مهمة أبرزها تخفيض رواتب الوزراء، وقطع مليونين ونصف المليون دينار شهرياً من كل منهم، وإلغاء مخصصات الضيافة للرئاسات بما فيها مكتبه التي تصل إلى ملايين الدولارات، والتوجيه بسحب الحمايات والمرافقة من أعضاء الوزارات والرئاسات الثلاث السابقين والشخصيات السياسية. وكذلك إلغاء 20 سفارة بسبب عدم وجود جالية في تلك الدول، ومنع تخصيص مبالغ لبدلات الإيجار لمن يمتلك عقاراً في بغداد، ومنع تخصيص مبالغ مالية للعلاج للرئاسات الثلاث، ومنع استئجار الطائرات الخاصة للرئاسات الثلاث من خزانة الدولة.
ويصف كثير من المراقبين خطوات السوداني بأنها سريعة وتدخل بواقع المحاصصة، هذه الإجراءات وسواها تلقفها الشارع العراقي الغاضب والمحتقن بارتياح، لكنه طالب رئيس الحكومة بمزيد من الإجراءات التي تستهدف الرؤوس الكبيرة المغطاة بالسلطة والحزبية، وعدم الاقتصار على تطبيق القانون على الموظفين الصغار وترك الحيتان كما يصفهم المدونون العراقيون.
الباحث صلاح العرباوي قال "إذا أراد السوداني فعلاً محاربة الفساد واصطياد الحيتان فعليه أن يبدأ من تحالف إدارة الدولة، أما إذا أراد إنجازاً وهمياً كشو إعلامي، واصطياد أسماك السردين فعليه أن يبدأ بصغار الموظفين".
ترشيد الإنفاق الحكومي
في مسعاه لترشيد الحكم بالعراق يسعى السوداني إلى اتخاذ تدابير عاجلة، على رأسها ترشيد الإنفاق بالدرجات العليا، حيث تقدر رواتب الرئاسات الثلاث بثلاثة تريليونات دينار في السنة الواحدة، أي ما يربو على ملياري دولار.
هذه المسألة قد ترجح أن يواجه السوداني حرباً شرسة بسبب قيامه بفتح ملفات فساد محمي بالسلطة وبالكيانات المشتركة فيها، مع تضخم الجهاز الحكومي وامتيازاته على حساب المجتمع.
وأغضب السوداني عدداً من النواب بسحبه مجموعة مشاريع قوانين ومن ضمنها قائمة السفراء، وحول التوسع إلى تقليص لأعداد السفارات التي يكتنفها كثير من المصالح التي تتدخل في الترشيحات، حيث يبلغ عدد السفراء 80 سفيراً، بحسب وثيقة أرسلتها حكومة الكاظمي العام الماضي لغرض التصويت عليها، تأجلت حين كشف عدد من النواب عن شبهات الفساد حولها.
كما ألغى السوداني امتيازات الدرجات الخاصة، التي يبلغ عددها عشرة آلاف موقع، فيما لا توجد بيانات في كل الموازنات خلال الحكومات السابقة التي أعقبت 2003 عن رواتب هذه المجموعة.
تراكم التحديات
الأزمة التي تواجه رئيس الحكومة أن هناك استنزافاً للميزانيات على اقتصاد ريعي عبر الإنفاق على ما يزيد على تسعة ملايين موظف مشمولين بقاعدة الإنفاق الحكومي، وهو ما يعني أن ربع سكان العراق موظفون، موزعين على أربعة ملايين ومئتين وخمسين موظفاً حكومياً، بينهم مليونان ونصف المليون موظف بالقطاع المدني العام.
بينما يبلغ عدد الموظفين في القطاع العسكري مليوناً وسبعمئة وخمسين موظفاً، إضافة إلى المتقاعدين، وهناك قطاع الحماية الاجتماعية الذي يبلغ عدد المستفيدين منه مليوناً وخمسمئة مواطن، ما يعني إنفاق ما يقرب من 70 في المئة من ميزانية الدولة السنوية بأعلى نسبة إنفاق في العالم، ما وصم الدولة العراقية بالفاشلة حين تحولت إلى دولة موظفين لضمان الأصوات في الانتخابات العامة، وهو الأمر الذي أفشل العملية السياسية جراء استنزاف الموارد العامة.
الكاتب حميد الكفائي يرى أن "التحديات التي تواجه السوداني لا يمكن عدها لكثرتها وتراكمها، لكن أهمها على الإطلاق هو نزع سلاح الميليشيات التي يرتبط بعضها بالدولة وتتقاضى رواتب منها". وأشار إلى أن "المسلحين المجهولين هم المسؤولون عن القتل والخطف ونهب المال العام وحماية الفاسدين، وهم المرتبطون بدول أجنبية تسعى لزعزعة استقرار العراق، هؤلاء هم العقبة الأولى في طريق رسوخ الدولة وتقدمها".
ويذهب الكفائي بعيداً بالقول "إن لم يتمكن السوداني من حل هذه المشكلة من أجل تحقيق الأمن وحفظ المال العام وصون الحريات المدنية، التي عبثت بها الجماعات الإجرامية، فلا يمكن الحديث عن دولة مستقرة".
على رغم أن التعويل كثيراً على حكومة السوداني كي تحقق كل آمال الشعب يعد ضرباً من الخيال، فلا بد من التذكير بأنها نتاج التوافق السياسي بين المكونات والقوى المتقاطعة في المصالح والمتهمة بالفساد، أو تحوم حولها شبهات فساد، مؤشرها امتلاء خزائن لجان النزاهة بملفات لم يفتح غالبها.
ومن جانب آخر كانت وراء تأسيس عهد الميليشيات، وانتشار السلاح خارج إطار الدولة، ويزيد الطين بلة عدم قناعة الجمهور بعديد ممن فرضوا على السوداني في مجلس الوزراء، الذين تنقصهم المؤهلات والكفاءات، وبعضهم تنقصه النزاهة.
البعد الآخر
يرى مدير معهد "غالوب" للأبحاث منقذ داغر أن هناك بعداً آخر للأزمة العراقية يتعدى سلطة هذه الحكومة ونياتها. وقال إن "أزمة النظام السياسي تتعلق بأزمة ثقة بين الجمهور وهذا النظام، وبين لاعبي النظام بعضهم بعضاً، لذلك لا يمكن أن تحل هذه الأزمة ما لم تجر عملية بناء جسور للثقة، سواءً بالاتجاه الأول بين النظام والشعب، وفي الاتجاه الثاني بين اللاعبين أنفسهم، وهذه العملية لا تبدو الآن ممكنة في ظل الأوضاع الحالية، وتغانم السلطة وفي ظل الارتياح العام لما يجري من محاصصة سياسية".
وأضاف داغر لـ"اندبندنت عربية"، "كان هناك أمل أن يجري التغيير من داخل التيار الصدري، لكن لا يبدو أنهم قادرون على مثل هذا التغيير لأسباب داخلية أو خارجية، إلا أن مشروعهم قد توقف فجأة، وتبدو بارقة أمل أن يعيد التيار تصالحه مع الجمهور العراقي العريض، ويقدم نفسه ليس بصيغة تيار ديني عقائدي وإنما بصيغة حركة سياسية أو ائتلاف سياسي كبير، من مستقلين وحركات تشرين والتيار لغرض إجراء عملية التغيير المطلوبة، مع هذا لا بد من شرط رئيس هو نزع السلاح من أيدي الميليشيات ولا يمكن بأي حال من الأحوال إصلاح النظام السياسي في العراق".
ويصف إحسان الشمري رئيس مركز التفكير السياسي العراقي المنهاج الذي يسير عليه السوداني قائلاً "البرنامج الذي يعتمده بصفته رئيس الحكومة نتاج لجنة شكلها مازج فيها بين أفكاره وتوجهات الإطار التنسيقي، في النهاية أتصور أن هناك دخولاً على البرنامج من قبل الإطار، وحتى القسم الخاص بالاتفاق السياسي حالياً هو تنفيذي وتشريعي مكتوب بناءً على اتفاقات القوى السياسية".
هذه قد تحد من فاعلية الإجراءات التي قد يضطر إلى اتخاذها رئيس الحكومة حين يجابه قوى متحالفة مع تحالفه السياسي، وتتناقض ومهمته الإصلاحية، وقد تدفعه إلى أن يغض النظر عن بعض الملفات التي تورط بها الإطار، وهي من دون شك كثيرة.