في الوقت الذي تواجه فيه منطقة القرن الأفريقي أسوأ موجة جفاف منذ نحو 40 عاماً يبدو أن الطبيعة انقلبت رأساً على عقب في كينيا.
فأنواع الحيوانات الصلبة العود والمقاومة للجفاف، كالحمير الوحشية والفيلة، تنفق بشكل جماعي. أما النسور التي أصبحت سمينة من شدة افتراسها للجيف، فباتت بالكاد تقوى على الطيران.
تمتد في جنوب كينيا التي تعد موطناً لبعض أكثر المراعي إنتاجية في العالم شجيرات خالية الأوراق على مدى أميال طويلة، فيما تصاب الحيوانات بالإنهاك وتنفق من الجوع، وسط الغبار الذي يغطي "متنزه أمبوسيلي الوطني".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه بعض من المشاهد المروعة التي التقطها مصور الحياة البرية تشارلي هاميلتون جيمس الذي توجه إلى المنطقة في وقت سابق من هذا الشهر مع الناشطة الكينية البارزة في مجال البيئة الدكتورة باولا كاهومبو، لتوثيق آثار الجفاف بدعم من "جمعية ناشيونال جيوغرافيك".
ويقول المصور لصحيفة "اندبندنت" في وصف مشاهداته، "لقد زال [اندثر] كل شيء. ليس هناك ما نأكله. إنها فعلاً صحراء قاحلة". ويتذكر رؤيته لحمار وحشي وهو يسقط نافقاً بعد تمكنه من الوصول بجهد جهيد إلى حفرة مائية.
ويضيف، "يمكن رؤية كثير من الحيوانات النافقة حول آبار الري. لا أدري ما الذي يحصل. فتلك الحيوانات تصل في نهاية المطاف إلى الماء وتشرب منه ثم تنهار وتنفق [تلفظ أنفاسها]".
هذه الحال ليست مجرد مأساة فقط بالنسبة إلى الحياة البرية والزراعة في المنطقة. فالجفاف ونفوق المواشي وتغير النظام البيئي، كلها عوامل مجتمعة تنعكس سلباً بشكل هائل على ثقافة المنطقة واقتصادها وشعبها. هذه الأزمة متعددة الجوانب، إنما تسلط الضوء على التداعيات التي يمكن أن يتسبب فيها تغير المناخ، لجهة تهديد الأنظمة البنيوية الحرجة أصلاً ودفعها إلى الانهيار.
وبلغة الأرقام، يواجه نحو 21 مليون شخص خطر المجاعة في كل من الصومال وإثيوبيا وكينيا، حيث تشهد المنطقة خامس موسم متتال من غياب الأمطار.
وكان الدكتور غوليد أرتان مدير مركز المناخ الإقليمي لشرق أفريقيا، التابع لـ"المنظمة العالمية للأرصاد الجوية" World Meteorological Organization، قد نبه في الصيف الأخير قائلاً، "نحن على شفير كارثة إنسانية غير مسبوقة".
وتسبب الجفاف في نفوق ما يقدر بنحو مليونين و500 ألف رأس ماشية، ويبدو أن آثار الأزمة تنتقل من الشمال الأكثر جفافاً، إلى الجنوب والأراضي العشبية الخصبة عادة في البلاد. وفي بعض المناطق الكينية، لم تشهد الأعوام الثلاثة الأخيرة هطول أمطار غزيرة.
واستناداً إلى الدكتورة كاهومبو التي تنتمي إلى فريق المستكشفين لدى "ناشيونال جيوغرافيك" والمديرة التنفيذية لمنظمة الحفاظ على الموارد البيئية "وايلد لايف دايريكت"، فإن جذور الأزمة القائمة هي أعمق من تغير المناخ وحده، إذ إن الرعي الجائر الذي تقوم به الماشية وغيرها من الحيوانات، أسهم في إتلاف التربة في أجزاء مختلفة من كينيا، مما أدى إلى إفقاد المراعي مرونتها، وتجريدها من التنوع البيولوجي، وإفساح المجال لتكاثر النباتات القاسية، وانتشار "الأنواع الغازية" للأراضي (تنتشر خارج نطاق التوزيع الطبيعي، وتهدد النظم البيئية) التي تتجنب الحيوانات استخدامها غذاءً لها.
وعندما يضرب الجفاف التاريخي، تصبح الماشية والحياة البرية على حد سواء، بلا طعام كاف للبقاء على قيد الحياة. وبخلاف معظم النباتات، ينمو العشب على مستوى الجذور بدلاً من الأطراف، ما يسمح له بأن يستعيد عافيته بسرعة، وبأن يواجه أشد تحديات النظام البيئي قساوة، لكن إفراط الماشية في الرعي بلغ حداً لم يعد يتبقى معه سوى القليل من العشب ليتمكن من التعافي.
وتقول الدكتورة كاهومبو، "صحيح أن النظام قد يتضرر أو يتدهور بسبب الرعي الجائر، لكن تغير المناخ يمكن أن يدفع به إلى ما بعد نقطة التحول، هذا ما نراه في شمال كينيا، وهذا ما بدأنا نراه في جنوبها، إذ لم يسبق أن لاحظنا ذلك في جنوب كينيا. ولم نشهد مطلقاً هذا المستوى من الانهيار الكارثي، بحيث عندما تستفيق في الصباح ترى من حولك حيوانات نافقة في كل مكان".
المسؤولون في البلاد تلقوا منذ فترة طويلة تنبيهات إلى أن المنطقة كانت مقبلة على مثل هذه الظروف، لكن الدكتورة كاهومبو تقول إن الخطر كان "غير مرئي" لأعوام، إما بسبب تفشي جائحة "كوفيد"، أو الانتخابات، أو اقتصار التداعيات الأولية على الحيوانات وعدم تسببها بعد بكثير من الوفيات البشرية أو المجاعات على نطاق واسع، لكن في الوقت الراهن، بدأت الانعكاسات على الناس تظهر للعيان. فالأطفال الذين كانت عائلاتهم تعتمد على ماشيتها لتأمين الغذاء أو تحقيق دخل لها، يرتادون المدارس وهم في حال من الجوع الشديد، أو يضطرون إلى ترك مقاعد الدراسة لأنهم لا يستطيعون تحمل رسوم التعليم، ما حدا بسكان الريف تالياً إلى الانتقال إلى المدن للعثور على عمل.
شعب الماساي الذي يتألف من مجموعات شبه رحل وتعرف بقطعان ماشيتها، يشهد تهديداً لجزء أساسي من ثقافته وتلاشي ثرواته في لحظة من الزمن. فالأبقار التي كانت تتمتع بصحة جيدة وكان الرأس منها تبلغ قيمته ألف دولار أميركي، بالكاد تباع الآن بـ10 دولارات، وهي هزيلة الشكل وفي حال مزرية، ما اضطر بعض الأفراد إلى بيع أراضيهم لمواصلة العيش.
ومن المرجح أن يتم تحويل هذه المراعي السابقة إلى مواقع زراعية، على رغم أن مزارعين في البلاد أفادوا بأن حيوانات جائعة تبحث عن محاصيل زراعية لتقتات منها، لأن الجفاف يهدد الإمدادات الغذائية العادية لتلك الكائنات.
وتقول الدكتورة كاهومبو إن "أناساً كانوا أثرياء ولديهم كثير من الماشية، باتوا فجأة فقراء للغاية، إلى حد أنهم أصبحوا عاجزين عن إعالة أسرهم ورعايتها".
مصور الحياة البرية تشارلي هاميلتون جيمس استذكر كيف قاد سيارته عبر مجتمعات الماساي خارج "متنزه أمبوسيلي الوطني"، وتحدث مع رجل تقلص قطيعه المكون من 390 بقرة إلى 43 فقط، وقد بدت منهكة وعلى الرمق الأخير من الحياة. ويقول، "ما شاهدته كان فقط أبقاراً نافقة جافة. أعني المئات منها. كانت الجيف تنتشر وسط الناس، والكلاب تنهشها. كانت لا تعد ولا تحصى، ولم يكن هناك من طريقة للتخلص منها".
الحكومة الكينية سارعت إلى تقديم إغاثة فورية للناس تشمل مساعدات غذائية وتبناً للمواشي، لكن المسؤولين لم يبادروا بعد إلى وضع استراتيجية محددة على المستوى الوطني لإدارة الأراضي بهدف معالجة الأزمة، وتلكأوا عن تطبيق القوانين المتعلقة بالحفاظ على البيئة. وتم دعم هذا التحرك من خلال بعض الجهود الخاصة المتفرقة التي استهدفت مساعدة ملاك الأراضي، والموارد الطبيعية بما فيها الحيوانات والنباتات البرية، وإن لم يكن هناك بعد تحرك يواكب حجم الأزمة حتى الآن.
وتوضح الدكتورة كاهومبو أنه "ما لم يقوموا به هو بلورة الاستجابة اللازمة للأزمة المتمثلة في تدهور الأراضي. ولم يتوصلوا إلى وضع سياسة في شأن بعض القضايا كاستعادة تلك المراعي".
وأضافت، "في حال لم يبادروا إلى اتخاذ الخطوات اللازمة، فسيتم سحب الماشية، وسيتم شراء مزيد من منها، ما أن يبدأ العشب في النمو مرة أخرى".
وتقول، "هذا ما نخشاه. فالحكومة لم تقدم أي حل من أجل معالجة الوضع على المدى الطويل، الذي يبدو داهماً على نطاق واسع. لا يمكن مقاربة المشكلة وفقاً لمبدأ العمل على المساحة الصغيرة الواحدة تلو الأخرى، بل يتعين معالجتها على مستوى وطني".
على الصعيد الدولي، لا تبدو الأمور أفضل بكثير. ففي الأسبوع الماضي قال ديفيد ميليباند رئيس "لجنة الإنقاذ الدولية" لصحيفة "اندبندنت"، إن "الولايات المتحدة التي تتعرض للانتقاد في كثير من الأوقات، ولسبب وجيه في بعض الأحيان، هي الدولة الوحيدة التي اتخذت مبادرة للتخفيف من وطأة أزمة الجوع هذه في شرق أفريقيا. فالأميركيون هم في طليعة المبادرين لتقديم المساعدة، لكن أحداً لا يسير على خطاهم".
© The Independent