في وقت توقف قتل المتظاهرين في السودان قرابة شهر على رغم تواصل الاحتجاجات في العاصمة السودانية الخرطوم أسبوعياً للمطالبة بالحكم المدني وعودة الجيش إلى ثكناته، لكن سرعان ما تفاجأ السودانيون بمقتل متظاهرين اثنين في تظاهرات 23 و24 نوفمبر (تشرين الثاني) ليصل عدد القتلى منذ وقوع انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 وحتى اللحظة إلى 121 قتيلاً، بيد أن كثيرين استبشروا خيراً بالتفاهمات السياسية الجارية بين المكون العسكري وتحالف "قوى الحرية والتغيير" (المجلس المركزي) والتي وصلت إلى مراحل متقدمة لتحقيق التحول الديمقراطي، ما يستوجب الابتعاد عن عمليات العنف المفرط لتهيئة المناخ العام للوصول للهدف المنشود.
فما تفسير تجدد عمليات القتل في هذا التوقيت؟ وهل المقصود بها تعطيل عملية التسوية بين العسكريين والمدنيين التي شارفت على نهاياتها أم ماذا؟
انحناء للعاصفة
وقال الكاتب السوداني الجميل الفاضل "بكل تأكيد، انحسار موجة قتل المتظاهرين لفترة من الزمن وعودتها له علاقة بما يجري من تسوية سياسية، فهناك جهات تريد إجهاضها لأنها ستضر بمصالحها التي عادت إليها بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، وفي اعتقادي أن قائد الجيش عبد الفتاح البرهان تم ترويضه من قبل جنرالات المؤسسة العسكرية (من رتبة عميد فما فوق)، التي تسيطر عليها الحركة الإسلامية، خلال اجتماعه بهم أخيراً، ما جعله يغير مواقفه ونبرته المتشددة ضد الإسلاميين، وقوله إنه لا يوجد اتفاق ثنائي لتسوية سياسية ولم يتم التوقيع على اتفاق إطاري في هذا الخصوص، ومعلوم أن البرهان سرعان ما ينحني لأي عواصف تأتيه من الداخل أو الخارج، إذ أصبحت مواقفه مضطربة للغاية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أضاف الفاضل "واضح أن استخدام الرصاص من جديد ووقوع إصابات بالغة وسط المتظاهرين السلميين يراد به إحراج قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) التي وصلت إلى مراحل متقدمة من التفاهمات في شأن التسوية السياسية مع العسكريين، وهو أمر يؤكد في الوقت نفسه أن المؤسسة العسكرية غير جادة في المضي قدماً في هذه العملية، والسؤال الذي يفرض نفسه هل البرهان فقد السيطرة على الأجهزة الأمنية باستمرارها في عمليات القتل، وهذا ما أشار إليه قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) الأحد 27 نوفمبر خلال مخاطبته ملتقى الإدارات الأهلية للتعايش السلمي بقوله إن هناك متظاهرين تحميهم الأجهزة الأمنية وآخرين تقوم بقتلهم، بالتالي أصبح الملعب السياسي في البلاد مشدوداً عسكرياً ومدنياً".
عرقلة وإرباك
وتابع الكاتب السوداني "في تصوري أن المسرح السوداني يعجّ الآن بكثير من التناقضات والمواجهات المباشرة وغير المباشرة، وأرى أن مسألة عودة عمليات قتل المتظاهرين وتزايد حجم الإصابات جزء من سيناريو عرقلة العملية السياسية وإحراج الأطراف الدولية، فهناك طرف إقليمي يسعى لإحداث مزيد من الإرباك في المشهد السوداني، وما عودة زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي وطائفة الختمية محمد عثمان الميرغني للبلاد في هذا التوقيت بعد بقائه 10 سنوات في منفاه الاختياري بالقاهرة، وكذلك تنصيب ابنه جعفر الميرغني على رأس الكتلة الديمقراطية (تحالف جديد يضم أحزاباً سياسية وحركات مسلحة)، إلا تعقيداً للمشهد الداخلي ورسالة للآلية الثلاثية (بعثة الأمم المتحدة بالخرطوم، والاتحاد الأفريقي، ومنظمة إيقاد) التي ترعى عملية التسوية السياسية". ولفت إلى أن "قوى الحرية والتغيير" وضعت في زاوية ضيقة للغاية بخاصة إذا استمرت في عملية التسوية في ظل تواصل عمليات القتل ضد المتظاهرين، وهو السيناريو نفسه الذي حدث مع رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك حينما وقع اتفاقاً ثنائياً مع قائد الانقلاب عبد الفتاح البرهان في 21 نوفمبر 2021 يتضمن عودة الأول لمنصبه واستكمال المسار الديمقراطي، لكن لم يدم الاتفاق طويلاً إذ تقدم حمدوك باستقالته احتجاجاً على استمرار الأجهزة الأمنية في قتل المتظاهرين العزل.
انتهاكات واسعة
في السياق، قال الأمين العام لحزب المؤتمر السوداني محمد يوسف أحمد "في الحقيقة العنف في البلاد لم يتوقف من قبل الأجهزة الأمنية ضد المتظاهرين السلميين في الخرطوم، فكل المواكب التي تسيّرها لجان المقاومة تتعرض لانتهاكات واسعة من قتل وإصابات مختلفة وكل أشكال وصور العنف الممنهج، لكن مؤكد أن هناك جهات كثيرة تعمل بكامل ما في وسعها لتعطيل العملية السياسية وتشويهها لأنها مستفيدة من الوضع الحالي بخاصة أن هناك جهوداً حثيثة جارية لتحقيق العملية السياسية في ظل ترحيب كل الأطراف بها"، وتابع أحمد "جدية العسكريين تجاه ما يجري من عملية سياسية تحددها موافقتهم على الاتفاق الإطاري بالتوقيع عليه، وهو المؤشر الحقيقي للاختبار، لكن بشكل عام نصوص هذا الاتفاق تتضمن معظم مطالب الشارع الثوري ولا سيما تكوين حكومة مدنية كاملة وتحقيق العدالة والإصلاح الأمني والعسكري وهي قضايا أساسية تم التوافق عليها بشكل كبير، وبالتأكيد، الاختلافات حول بعض التفاصيل ستظل موجودة طول الفترة الانتقالية".
الكيل بمكيالين
من جانبه، دان حزب "الأمة القومي" استمرار الانتهاكات ضد المتظاهرين، وحذر من مغبّة التوجه نحو وضع العراقيل باتجاه الحل السياسي الذي تسعى إليه القوى السياسية الوطنية، مؤكداً أن استمرار العنف والاعتقالات وتقييد الحريات وسياسة الكيل بمكيالين سيدفع الحزب حتماً لمراجعة موقفه من العملية السياسية برمتها لأن ما تقوم به الأجهزة الأمنية يناقض شروط تهيئة المناخ لعملية سياسية ذات مصداقية "وهي الشرط الجوهري لحزبنا للمضي قدماً فيها أو نفض اليد عنها حال استمرار الطرف الانقلابي في المراوغة والاستهانة بحرمة الدم".
وشدد "حزب الأمة" في بيان على تمسكه الصارم بتحقيق أهداف الثورة السودانية كاملة غير منقوصة، منوهاً إلى أنه سيبذل كل جهوده لإنقاذ الوطن "لن يمضي الحزب في عملية لا تحقق المطالب المشروعة وتحقق العدالة للشهداء". ولفت بيان الحزب إلى تزايد حالات العنف المفرط ضد المتظاهرين السلميين في كل من مدن العاصمة الثلاث خلال مواكبي 23 و24 نوفمبر، "ما أدى لارتقاء شهيدين هما محمد عمر ومحمد نادر إضافة إلى وقوع إصابات بليغة وسط الثوار والثائرات"، وأضاف "مواصلة العنف الممنهج ضد أبناء شعبنا يؤكد بوضوح أن السلطة الانقلابية ما زالت مستمرة في انتهاكاتها، وأيضاً جلاء زيف وأكاذيب قيادة الانقلاب بعزمها التوجه نحو الحل السياسي الذي قابلته القوى السياسية بالترحاب واجتهدت في هندسة الحل المفضي إلى إنهاء الانقلاب واستعادة الحكم المدني وتحقيق مطالب الشعب".
إدانة دولية
كما دانت الآلية الثلاثية الاستخدام المستمر للقوة المفرطة ضد المتظاهرين، وقالت في بيان "إن لكل فرد الحق في التجمع السلمي وحرية التعبير، وندعو السلطات السودانية إلى التحقيق في هذه الحوادث وتقديم المسؤولين عنها بسرعة إلى العدالة"، وأضاف البيان "يواصل مبعوثو الاتحاد الأفريقي وإيقاد والأمم المتحدة العمل من أجل استعادة فترة انتقالية مستدامة تسمح بتشكيل حكومة مدنية وديمقراطية خاضعة للمساءلة ذات مصداقية لتحقيق السلام والتنمية في البلاد".