عادت الأزمة الأوكرانية إلى سابق عهدها من التشابك والتعقيدات التي ثمة من يعزوها في موسكو إلى ارتباك السياسات والمواقف لدى الأوساط ذات الصلة، سواء بالداخل الأوكراني من جانب، أو على الصعيد الغربي ودوائر "الناتو" من جانب آخر.
فبينما تتواصل في كييف خلافات رفاق الأمس التي تتزايد حدتها يوماً بعد يوم، تعود الدوائر الغربية لسابق انشقاقاتها تجاه مسألة مواصلة دعم أوكرانيا وإمدادها بمزيد من المساعدة اقتصادياً وعسكرياً، فضلاً عن انحسار الآمال بقرار "استثنائي" حول التعجيل بقرار انضمامها إلى كل من "الناتو" والاتحاد الأوروبي.
كانت الأشهر القليلة الماضية شهدت بداية انشقاق تمثل في استقالة رئيس البرلمان الأوكراني دميتري رازومكوف الذي لطالما كان محسوباً على الرئيس فولوديمير زيلينسكي والرئيس السابق لحزبه الحاكم "خادم الشعب" وتحوله إلى صفوف المعارضة استعداداً للانتخابات الرئاسية المقبلة.
على رغم كل ما جرى ويجري من محاولات للتستر على هذه الانشقاقات والتركيز على ما حققته القوات الأوكرانية من تقدم على صعيد استعادة بعض الأراضي التي كانت القوات الروسية استولت عليها خلال الأسابيع الأولى من "عمليتها العسكرية الخاصة"، عادت الأيام القليلة الماضية لتكشف عما يدور من خلافات "شخصية" في معظمها بين زيلينسكي وعدد من رفاقه ومنهم فيتالي كليتشكو عمدة العاصمة كييف وبطل العالم السابق في الملاكمة.
تدهور الأوضاع الأمنية والمعيشية
تلك الخلافات تتصاعد حدتها بقدر تفاقم مشكلات العاصمة نتيجة تدهور الأوضاع الأمنية والمعيشية لسكان المدينة، مما يدفع كثيرين منهم إلى هجرانها بسبب انقطاع الكهرباء والمياه وعدم توافر التدفئة.
وعلى رغم وعود كثير من البلدان الغربية بتأمين الإمدادات وتوفير مستلزمات الحياة، فإن وعوداً عدة تظل قيد القول من دون الفعل، في وقت لم تحمل الأنباء الواردة من بوخارست ما يهدئ روع الملايين من الأوكرانيين ممن يواصلون التعلق بأهداب الأمل في الانضمام إلى "الناتو".
من اللافت أن كل هذه التطورات "المزعجة" في جوهرها جاءت بعد فترة لم تستمر طويلاً، شهدت المبالغة في احتفالات القيادة الأوكرانية والأوساط الغربية باستعادة بعض المناطق وفي الصدارة منها مدينة خيرسون التي اعترف زيلينسكي بقصفها خلال الأيام الأخيرة 258 مرة، مما قد يبدو سبباً لتراجعه عن قبول مبادرة الجلوس إلى المفاوضات مع الجانب الروسي وتعمده طرح الأقصى في قائمة ما كانت كييف تصبو إليه من أهداف تعيد لها كثيراً من ماء الوجه وهي التي قبلت في مارس (آذار) الماضي خلال محادثات إسطنبول التي جرت تحت رعاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فكرة التراجع عن آمال الانضمام إلى "الناتو" وتعهدت بعدم نشر القوات الاستراتيجية في أراضيها.
عاد زيلينسكي ليطرح شروطاً يعلم مسبقاً أن موسكو لن تقبل حتى مجرد التفكير فيها بما أعلنه حول أن كييف لن تقبل إلا بالانسحاب الكامل من كل أراضيها والاعتراف بوحدتها وسيادتها داخل حدود 1991، بما يعني ضمناً ضرورة استعادة القرم ودونباس، فضلاً عن إلزام روسيا إعادة إعمار أوكرانيا ومحاكمة "المتورطين" بالحرب وغير ذلك من الشروط التي تناولتها "اندبندنت عربية" بكل التفاصيل في أكثر من تقرير لها من موسكو.
انشقاقات غربية
على أن تفاقم الأوضاع وارتباكها لم يقتصر على الداخل الأوكراني بحيث يشهد المجتمع الدولي تراجعاً وانشقاقات في صفوف الشركاء بالدوائر الغربية، بل حتى داخل الأوساط الحاكمة في الولايات المتحدة التي يدور معظمها حول تراجع الرغبة في مواصلة تقديم الدعم لأوكرانيا وتعالي شكوى كثير من البلدان الأوروبية من نفاد مخزونها من الأسلحة والذخيرة التي تطالب أوكرانيا بها، بما في ذلك منظومات الدفاع الجوي ومنظومات الصواريخ متوسطة وبعيدة المدى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بل هناك بين صفوف الجمهوريين في الولايات المتحدة من يطالب بتقصي الحقائق ومراجعة كشوف ما جرى تقديمه من معونات مادية وعسكرية، نظراً إلى وجود ما وصف بالفساد بين أعضاء النسق الأعلى للسلطة، وذلك في وقت لا تخلو البرامج الإعلامية الروسية من "انتقادات" غير مباشرة، لما وصفه بعض المعلقين بخطأ التوقعات وعدم الأخذ في الاعتبار ما نجحت الدوائر الغربية في التجهيز له وإعداد القوات الأوكرانية وإمدادها بأحدث الأسلحة والعتاد العسكري خلال الأعوام الثمانية الماضية منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية في 2014.
وذلك في توقيت مواكب لما جنحت إليه كبرى الدول الأوروبية بإيعاز من الولايات المتحدة من توجهات تؤكد ضرورة جلوس الجانب الأوكراني إلى مائدة المحادثات التي قالت موسكو إنها تطرحها من دون شروط مسبقة.
وكان الرئيس الأميركي جو بايدن ومعه آخرون من الاتحاد الأوروبي عادوا عن مواقفهم التي لطالما أعلنوها حول ضرورة حسم النزاع في ساحات المعركة وبالقوة المسلحة، فضلاً عن موقفهم تجاه رفض ما يصر عليه زيلينسكي في شأن عدم صلة أوكرانيا بالصاروخ الذي سقط داخل الأراضي البولندية.
أمر مغاير
غير أن الواقع الراهن يعود ليكشف اليوم عن أمر مغاير يتمثل في ما كشفت عنه اجتماعات "الناتو" في بوخارست حول ضرورة "توسيع الدعم لكييف وتنفيذ المفهوم الاستراتيجي الجديد لحلف الناتو الذي تم تبنيه خلال قمة الحلف في يونيو (حزيران) الماضي بمدريد".
وكان الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ أعلن أيضاً أن "باب الناتو مفتوح"، إلى جانب ما أضافه حول أن روسيا ليس لها الحق في استخدام حق النقض ضد انضمام دول أخرى وإشارته إلى مثال مقدونيا الشمالية والجبل الأسود اللتين انضمتا إلى التحالف.
وعلى رغم ذلك كشف الاجتماع الأخير لوزراء خارجية بلدان "الناتو" عن كثير من الانشقاقات "الداخلية" التي حالت حتى دون مشاركة وزير خارجية أوكرانيا دميتري كوليبا في الاجتماعات العامة.
وكانت المجر أول من بادرت بالإفصاح صراحة عن اعتراضها على مشاركة كوليبا في هذه الاجتماعات وهي التي تعارض منذ عام 2017 فكرة قبول انضمام أوكرانيا إلى "الناتو" لأسباب منها ما يعود لمعاملتها "العنصرية" وانتهاكها لحقوق ذوي القومية المجرية ممن يعيشون في منطقة ما وراء الكاربات، وهي المناطق المجرية الأصل التي جرى ضمها إلى أوكرانيا بموجب نتائج الحرب العالمية الثانية.
المجر اعترضت في وقت سابق ضد ما أقرته السلطات الأوكرانية من قوانين تحظر نشاط المدارس المجرية وفرض تحويل التعليم بالمدارس والمؤسسات التعليمية إلى اللغة الأوكرانية وغير ذلك، مما أثار في حينه سكان مناطق جنوب شرقي أوكرانيا وكان في صدارة أسباب ما أعلنته "مقاطعتا" دونيتسك ولوغانسك عن انفصالهما من جانب واحد عن أوكرانيا عام 2014.
لم تقتصر معارضة المجر على انتهاك حقوق أبنائها من مواطني الدولة الأوكرانية، بل مضت إلى سابق عهدها من معارضة كثير من مقررات الاتحاد الأوروبي و"الناتو" حول العقوبات المفروضة ضد روسيا، وأعاد وزير خارجيتها بيتر سيارتو إلى الأذهان ما سبق وأعلنه رئيس الحكومة فيكتور أوربان حول خطورة التمادي في هذا السياق، وذلك موقف يتفق في جوهره مع ما سبق وكشف عنه وزير الخارجية الأميركي والمستشار الأسبق لشؤون الأمن القومي الأميركي هنري كيسنجر خلال خطابه الذي ألقاه بمنتدى "دافوس" الاقتصادي في مايو (أيار) الماضي حول أن "استمرار الحرب ومحاولات تركيع روسيا بمثابة أمر خارج عن القانون ويخلق اضطرابات شديدة بالعلاقات بين روسيا وأوروبا ستصعب السيطرة عليها في وقت لاحق".
محاولة هزيمة روسيا
وخلص آخرون إلى "ضرورة توقف الغرب عن محاولة هزيمة روسيا على يد الجيش الأوكراني لتجنب كارثة في أوروبا"، وذلك ما يتذكره مراقبون كثيرون داخل روسيا وخارجها في توقيت مواكب لما قاله رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأميركية الجنرال مارك ميلي "إنه على الأرجح لن يكون هناك نصر عسكري واضح في أوكرانيا" وإن الأطراف "بحاجة للجوء إلى وسائل أخرى" ومنها ما ذكره حول أن "الشتاء المقبل يفتح فرصة لبدء المفاوضات بين أوكرانيا وروسيا".
وفي صدد الشتاء يتوقف كثيرون عند ما يقال حول "تعمد" السلطات الأوكرانية استغلال الكارثة الإنسانية التي تواجهها البلاد واستخدامها كسلاح إعلامي ضد موسكو بعد نجاح الضربات الصاروخية الروسية في تدمير نسبة كبيرة من البنية التحتية في كييف والمدن الأوكرانية الكبرى، منها محطات الكهرباء وشبكات المياه والسكك الحديدية ومخازن الذخيرة والأسلحة.
وكانت القيادة الأوكرانية سارعت إلى إقامة نقاط أطلقت عليها "نقاط الصمود" في خيام انتشرت بأنحاء متفرقة من كييف، زودتها بأجهزة التدفئة والكهرباء المحمولة لإيواء سكان المساكن المجاورة بغية مواجهة الأوضاع الإنسانية البائسة، في وقت اعتبر مراقبون روس أنها تستهدف ضمناً تجييش المشاعر المضادة لموسكو لدى المواطنين الأوكرانيين من جانب، والرأي العام الأوروبي من جانب آخر.
وذلك ما تحاول وسائل الإعلام الروسية تفنيده بما تكشف عنه من "معلومات" حول فساد أعضاء النسق الأعلى للسلطات الأوكرانية وما ينفردون به من أنماط حياة مغايرة بعد أن قاموا بترحيل عائلاتهم إلى الخارج "للاستمتاع" بما يمتلكونه من عقارات وسيارات وأموال وخلافه، على حد قول المصادر الروسية.
وذلك واقع يرى مراقبون في موسكو أن الساسة الأوروبيين والأميركيين يتحملون أوزاره في محاولة لدفع ما يتوقعون تحميل موسكو مسؤوليته من كوارث إنسانية في سبيلها إلى مداهمة الملايين من الأوكرانيين مع اشتداد وطأة الشتاء وهطول الثلوج في ظل نقص الطاقة وانقطاع الكهرباء بكل تبعات ذلك على الحياة الطبيعية.