دورة ثانية من مهرجان البحر الأحمر السينمائي (1-10 الجاري) انطلقت، مساء الخميس الماضي، في جدة الواقعة على الشاطئ الشرقي للبحر الأحمر، تحمل معها إلى الجمهور عشرات الأفلام الجديدة في زمن انفتاح السعودية على السينما. افتتح المهرجان بـ"ما علاقة الحب بذلك؟"، كوميديا رومنطيقية للمخرج الهندي شيخار كابور، وتزامن الافتتاح مع عرض في الهواء الطلق لــ"سيأخذ ديلويل العروس"، فيلم بوليوودي لأديتيا شوبرا. بعض التغييرات اللافتة طرأت على الدورة الحالية، أبرزها انتقال المهرجان من حضن إلى حضن. فبدلاً من جدة التاريخية التي احتضنت الحدث السنة الماضية، أصبح فندق الريتز كارلتون الضخم مركزاً للمهرجان والعروض والسجادة الحمراء والسوق ومعظم النشاطات الموازية.
كان هناك رأيان في هذا الشأن داخل الإدارة. ثمة من يريد إبقاءه في مكانه، ومن كان له رأي مغاير في هذا الصدد، علماً أن العودة إلى "جدة البلد" غير مستبعدة لاحقاً، كما يتردد في أروقة المهرجان. في أي حال، تراجع التماس بالمكان السعودي بشكل واضح مع انتقال المهرجان إلى الريتز، فالأحياء الضيقة وأكشاك الطعام والمباني ذات الطابع التراثي وحفلات الموسيقى في الشارع أعطت السنة الماضية طابعاً مثيراً وخصوصية يأمل كثر أن تعود في السنوات المقبلة. أما كأس العالم ففرضت نفسها على الحدث. بعد ساعات من وصولنا إلى جدة، كان المنتخب السعودي يخوض آخر مبارياته (ضد المكسيك)، وكانت الحماسة على أشدها، والجمهور الداعم لفريق بلاده متأهب للفوز، لكن لا أمان مع الكرة التي تتسرب بين الأقدام، والاحتفالية التي كانت منتظرة انتهت بهدوء.
بين المونديال والسينما
على الرغم من الخسارة، يبقى اهتمام كثيرين بالكرة كبيراً، سواء الذين يأتون من الخارج أو السعوديين أنفسهم، لكن ليس لدرجة أن يغطي الحدث الرياضي على الفني والثقافي، فعروض كثيرة غصت فيها الصالات، حتى تلك التي تتزامن مع المباريات، هذا لا يعني أن كل العروض كانت حافلة بالجمهور، بل على العكس. فالمهرجان وليد، ولا يزال يبحث عن جمهور، لا بل العثور عليه أحد أكبر تحدياته، في بلاد كانت السينما فيها غائبة طوال سنوات، على الرغم من وجود أعداد غير قليلة من هواة السينما الشباب، كانوا يشاهدون الأفلام عبر الأقراص أو يتوجهون إلى البحرين. لذلك، على المهرجان التحلي بنفس طويل، كي يربي جمهوراً متعطشاً لمشاهدة الأفلام داخل الصالات، وهذا يحتاج إلى وقت، وطول أناة. فالمشاريع الثقافية الكبيرة لا تأتي بمردود بين ليلة وضحاها ولا تسقط نتائجها علينا بالمظلة.
في مقابل الجهد الذي يحتاج إليه المهرجان لإرساء تقاليد المشاهدة المهرجانية في السعودية، هناك اهتمام منذ دورة عام 2020 التي ألغيت بسبب جائحة كورونا لوضع البلاد على خريطة السينما الدولية، خصوصاً أنه بات وحيداً بلا منافس خليجي بعد إلغاء مهرجانات دبي وأبوظبي والدوحة، والأخيرة بات مهرجانها الوحيد عبارة عن حدث هامشي للأطفال في نوفمبر (تشرين الثاني). يعلم الجميع أن تشكيلة الأفلام مهما كانت غنية ومتشعبة، فلا يمكن للمهرجان أن يحقق حضوراً دولياً، من دون ضيوف بمستوى رفيع يسهمون في الترويج له. مجرد صورة لأحد النجوم على السجادة الحمراء مع شعار المهرجان في الخلف، ترفع من نسبة التغطية الإعلامية للحدث وتفتح باب التعليقات. فالوسيلة الأبرز للترويج باتت اليوم وسائط التواصل الاجتماعي وروادها الذين يتناقلون الأخبار والصور ويصنعون ما بات يعرف بالـ"ترند". سواء أحببنا أم لا، هذا هو العالم الجديد ومن ليس بداخله يعطي الانطباع بأنه غير موجود. من هذا المنطلق، وربما من منطلقات أخرى أيضاً، استضاف المهرجان عدداً من الأسماء البارزة كانوا حاضرين في ليلة الافتتاح، ثلاثة منها تم تكريمها: الممثل الهندي شاه روخ خان والممثلة المصرية يسرا والمخرج البريطاني غاي ريتشي الذين أسندت إليهم جائزة اليسر الذهبي الفخرية عن مجمل أعمالهم. هؤلاء لم يكونوا النجوم الوحيدين خلال الافتتاح، إذ حضر أيضاً جمع من الفنانين الكبار مثل شارون ستون وجوسيبي تورناتوري وميشال رودريغيز وغاسبار نويه وأندرو دومينيك وروسي دي بالما وغاسبار نويه وغيرهم.
حوارات مفتوحة
بعض المهرجانات العربية تأتي بالمشاهير ليقوموا باستعراض على السجادة الحمراء. لم يكن هذا ما أقدم عليه مهرجان "البحر الأحمر". فغداة الافتتاح، شهد مركز البحر الأحمر التجاري أربع جلسات حوارية مع أربعة أسماء مهمة (شارون ستون وأندي غارسيا وغاي ريتشي ولوكا غوادانينو) في توظيف جيد لحضورهم. كانت حوارات غنية، على الرغم من أن تعاقبها بهذا الشكل المتتالي، ضمن مسافة زمنية ضيقة، بدا غير مبرر. هناك مزيد من الجلسات المماثلة في الأيام المقبلة، مع أسماء مهمة كسبايك لي الذي ترأس لجنة تحكيم الدورة ما قبل الماضية من مهرجان "كان"، وأندرو دومينيك الذي أحدث فيلمه "شقراء" عن حياة ماريلين مونرو كثيراً من الجدل، إضافة إلى أنتونيو بانديراس الذي فاز عن آخر فيلم مثل فيه تحت إدارة بدرو ألمودوفار كثيراً من الثناء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شارون ستون، النجمة السينمائية التي باتت في الـ64 وما زالت متألقة تلفت الانتباه أينما حلت، خطفت الأضواء في إطلالاتها. ببدلة زهرية لافتة يستريح عليها الريش، حضرت ستون التي طار صيتها قبل ربع قرن مع فيلم "غريزة أساسية" لبول فرهوفن، إلى جلسة الحوار حيث كان ينتظرها الحضور، فأعلنت أن أصحابها وأقاربها، سألوها قبل أن تحط في السعودية: "ألست على خشية؟"، فكان ردها أنها تخشى من ألا تعلم. أضافت، "سأذهب من ثم سأقول لكم إن كنت خشيت أو لا (…). أنا طفلة من بنسيلفانيا، نشأت مع جماعة الأميش، لم أكن لأتخيل أنني سأحط هنا في السعودية في يوم من الأيام، هذا حدث كبير لي". وكشفت ستون أن الشهرة دمرت حياتها ودمرت طريقة نظر الناس إليها، وجعلتها تفقد حضانة طفلها لأن القاضي قرر يومها، أنها تمثل في أفلام ذات طابع جنسي، وكان الناس يتوقعون منها أن تكون شبيهة بالشخصيات التي تلعبها وأن تكشف الأجزاء الحميمية من جسدها في السوبرماركت، وهذا كله جعلها تعيش في حالة تروما لفترة طويلة. تذكرت أيضاً أنها عندما نادوا عليها أثناء فوزها بجائزة "غولدن غلوب"، ضحك كثر في الصالة، ولم يصفقوا لها إلا بعد 20 عاماً عندما حملت قضية حقوق المرأة. وبكثير من التأثر الذي بدا واضحاً على وجهها، حكت عن السكتة الدماغية التي ألمت بها قبل عقدين، لكنها نجت منها على الرغم من أن فرصة النجاة لم تتعد الواحد في المئة، ما عزز صلتها بالروحانيات.
بيد أن اللحظة الأهم بالنسبة لي في أول أيام المهرجان كان حضور المخرج الإيطالي لوكا غوادانينو الذي تحدث طوال نحو ساعة عن تجربته السينمائية المديدة التي وصلت إلى ذروتها مع "نادني باسمك" في عام 2017. في نهاية الجلسة، عرض فيلم غوادانينو الأحدث، "عظام وكل شيء"، الذي يتضمن مشاهد جريئة لأكل لحوم البشر. عرض الفيلم كاملاً بلا أي حذف، مع منعه لمن هم دون الـ18. واختتم يوم مهرجاني طويل بفيلم "نهاية أسبوع غزاوي" للمخرج الفلسطيني البريطاني باسل خليل، وهو كوميديا طريفة تجري فصولها في غزة. نعم، كوميديا في غزة المحاصرة المنكوبة. تأكيد إضافي أن كل شيء ممكن في هذه الدورة من مهرجان البحر الأحمر!