كان ذلك أوائل عام 2012 حيث كانت عشرة أيام شديدة الغنى والتنوع أمضاها كاتب هذه السطور في صحبة الفيلسوف الفرنسي إدغار موران في مدينة طنجة المغربية. وكنا قد وصلناها بالطائرة من باريس للمشاركة تحت رئاسته في لجنة تحكيم المهرجان الوطني للسينما المغربية مع رفاق آخرين من فرنسا والمغرب. وكانت في صحبته زوجته المغربية التي تصغره بثلاثة عقود، وكانا عائدين معاً من رحلة شهر العسل. وكانت مفاجأتي الأولى له بعدما تعرفت إليه من ابتسامته الودودة وملامحه الوديعة أن رحت أطرح أسئلة حول بعض كتاباته التي كانت في الحقيقة تشغل بالي منذ زمن بعيد، أي منذ تعرّفت إلى تلك الكتابات في سبعينيات القرن العشرين وشرعت في ترجمة عدد من نصوصه السوسيولوجية.
رفيقا سفر شريكان عن بعد
في المطار، حين كنا في انتظار سيارة تقلّنا إلى الفندق المخصص لنا في المدينة، كانت المفاجأة الثانية حين أخبرته أنني أنا الذي نقلت إلى العربية كتابه الأشهر "النجوم". كان عالماً بأمر الترجمة من خلال دار النشر الفرنسية، لكنه لم يكن يتصوّر أن رفيقه في السفر هو المترجم...! ومنذ تلك اللحظة زال كلّ تكلف بيننا إلى درجة أنه في السيارة طلب مني ضاحكاً أن أتحدث إلى زوجته بالعربية التي تُتقنها: "أريد أن أسمع رنّة العربية على لسانها" قال... والمدهش أنه سرعان ما راح يشاركنا العبارات العربية التي تبادلناها وقد فهمها وساهم بإجابات فرنسية. خلال الأيام العشرة التالية تحدثنا كثيراً، عن إسرائيل والفلسطينيين وبخاصة عن المعارك التي شنّها أنصار الصهيونية ضده في فرنسا، عن البوذية التي يعتنقها تقريباً، عن كمال جنبلاط الزعيم اللبناني الراحل الذي يعرفه ويقدّره كثيراً، عن الحياة الثقافية الفرنسية وعن المسألة الأرمنية، وبخاصة عن مدينة سالونيك التي كانت مسقط رأس أبيه أيام السلطنة العثمانية... لكننا تحدثنا أكثر من أي شيء آخر، عن السينما وطبعاً عن نجوم السينما. وكان واضحاً أن تركيز موران على السينما في أحاديثنا المتبادلة طوال أكثر من أسبوع له ثلاثة دوافع: أولها كوني ناقداً سينمائياً ومترجماً لكتابه السينمائي الأجمل. ثانيها أننا كنا، تحت رئاسته، منهمكين في مشاهدة عدد كبير من الأفلام السينمائية للحكم عليها... ثم ثالثاً وبخاصة – وهذا أمر لم يقله بوضوح أبداً – أن عدداً من الصحافيين المغاربة المعارضين للمهرجان السينمائي كانوا منذ ما قبل افتتاح المهرجان بأيام قد تساءلوا عن جدوى "الإتيان بعالم اجتماع وفيلسوف لا علاقة له بالسينما لترؤس لجنة التحكيم".
السينما في تجلياتها
ومن الواضح أن هؤلاء كانوا يجهلون أن لموران بالسينما علاقات تتجاوز حتى اشتغاله على النجوم ونظام النجوم في هذا الكتاب. فهو كان قبله قد أصدر كتاباً غاية في الأهمية عن "السينما والإنسان المتخيّل" يعتبر منذ ذلك الحين من المراجع الأساسية في نظرية الفيلم. كما أنه دأب طوال سنوات على نشر دراسات نقدية حول السينما وسوسيولوجيتها ونجومها... وربما كتتويج لهذا كله، لا بد أيضاً من ذكر مشاركته المخرج التسجيلي الراحل جان روش في تحقيق فيلمه الكبير "مدونات صيف" الذي عرض في إحدى دورات مهرجان "كان". كل هذا كان، كما يبدو، غير معروف للذين هاجموه – أو هاجموا مهرجان طنجة من خلاله. أما هو فإنه، ومن دون الردّ المباشر عليهم، عبّر طوال أيام المهرجان عن اهتمام بالسينما لا بد من أن يعترف أيّ منصف بأنه كان نادراً من جانب عالم اجتماع وفيلسوف من طينته. وقد تجلى هذا بخاصة في المحاضرة الافتتاحية للمهرجان حين استعرض موران طوال ما يقرب من ساعة تاريخ الفن السابع وتياراته ونظرياته النقدية بسلاسة وحصافة جعلتا سينمائية فرنسية جالسة إلى جواري تقول: لو كانت لديّ آلة تسجيل لطلعت من هذه المحاضرة المرتجلة بكتاب عميق!
نظام لن يعود
مهما يكن، فإن الساعات الأكثر غنى خلال تلك الرفقة كانت مخصصة، تقريباً، للحديث عن النجوم ونظامهم... وذلك بالتحديد لأن عدداً ممّن شاركونا الجلسات سألوا موران لماذا لم يُحدث تطويراً وتجديداً في كتابه منذ صدور طبعته الأخيرة – التي يتضمن هذا الكتاب المنقول إلى العربية ترجمتها - في عام 1972. وموران حين سمع هذا السؤال التفت إليّ وابتسم قائلاً: "من يقرأ الكتاب سيكون عنده الجواب بالتأكيد"، ومن الواضح أن موران كان يشير في هذا إلى أن جوهر الكتاب نفسه يفسّر كيف أن عقد الستينيات كان آخر عقود زمن النجوم بالمعنى الذي خلقته هوليوود منذ أواسط سنوات العشرين من القرن الفائت حين اكتشفت مفاهيم مثل "الحلم الأميركي" و"النهايات السعيدة" و"لعبة التماهي بين الجمهور والنجوم بوصفها الأساس في تلك الحالة الاستثنائية التي خُلقت في عالم السينما جاعلة من النجوم أنصاف آلهة"، وهو بالتحديد موضوع هذا الكتاب. "اليوم، قال موران، لم يعد نجوم السينما ما كانوا عليه. وليس فقط لأن نجوم الرياضة والتلفزيون وعارضات الأزياء... وسيدات المجتمع، صاروا جميعهم نجوماً تضاهي آلهة السينما والغناء، بل كذلك لأننا، إذا أخذنا بقول آندي وارهول، سنجد أن التلفزة تحوّل كل فرد في أيامنا نجماً ولو لربع ساعة من حياته...". وأردف قائلاً إن السينما نفسها تغيّرت كما تغيّر جذرياً مفهوم البطولة والنجومية.
التوغل في عالم النجوم
كان من الواضح أن ما يقوله موران على ذلك النحو إنما كان مبرّراً لاعتبار الطبعة الأخيرة من كتابه مسك الختام في هذا الموضوع الذي كان اشتغل عليه بالتزامن مع اشتغال رولان بارت على "الأساطير" وجان بودريار على تفاصيل الحياة اليومية (وهذا كله كان خلال النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين) -، ومع هذا، ما إن انتهى موران من توضيح فكرته حتى ابتسمت بنوع من الاعتذار وقلت له: "لكنني يا صديقي سمحت لنفسي بأن أضيف إلى الكتاب". فنظر إليّ مندهشاً في تساؤل واضح لأسارع بالاستطراد: "لا تقلق... فقط أضفت بضعة فصول تحاكي فصولك عن مارلين وجيمس دين وآفا غاردنر في آخر الكتاب وفي سياق أسلوبك نفسه". فابتسم موران هنا وقال: "أجل... يخيّل إليّ أن هذه هي الطريقة المثلى للإضافة إلى هذا الكتاب". ثم التفت ناحية السيدة زوجته قائلاً لي: "وأرجو يا صديقي أن تبعث إليّ نسخة من الكتاب، الذي صار كتابنا معاً الآن، كي تقرأها زوجتي لي بالفرنسية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
درس في أخلاقيات الفن
ولمناسبة هذه الاستعادة لذلك اللقاء طوال عشرة أيام مع واحد من كبار مفكري فرنسا وعلماء اجتماعها في الزمن الراهن، لا بد من التوقف عند درس ثمين قدمه لنا موران في ذلك الحين. فيومها همس مسؤول المهرجان المغربي بضرورة "الضغط" الناعم على موران بصفته رئيساً للجنة التحكيم، لإقناعه بإعطاء جائزة ما لفيلم شارك في المسابقة "يتعرض مخرجه لضغوط من متطرفي البلد ما يجعله بحاجة إلى ذلك الدعم الفني". نقلت الرسالة إلى المفكر الكبير فوعدني خيراً مؤكداً مع ذلك بأنه لا يمكنه الجزم إلا بعد أن نشاهد الفيلم. وبالفعل شاهدناه معاً وحين خرجنا من العرض التفت موران إليّ مبتسماً ودمدم متسائلاً عن مهنته في الحياة العامة. أجبته أنه بالطبع أستاذ جامعي في علم الاجتماع. فقال بلهجة صارمة: "فهل تعتقد أنني سأشرّف علم الاجتماع إن أنا ساندت فيلماً يتحدث عن امرأة عاشقة تغرم برب عملها في الشركة التي يعملان بها وتعبر عن ذلك الغرام بصوغ خطة لتسوية أوضاع الشركة تقوم على صرف ثلث موظفي الشركة وعمالها من عملهم لمجرد أن يرضى عنها حبيبها ورئيسها المدير؟. قل لصديقنا المشترك إن إدغار موران لا يمكنه مساندته في دعم فيلم يتوخى حل مشكلة شركة والترويج لحكاية حب من خلال حرمان الناس من أرزاقهم!". والحقيقة أن موقف موران كان إنسانياً، وبالتالي قدم لنا ذلك المفكر – العالم درساً ثميناً في أخلاقيات الفن. درساً لا يمكن نسيانه! وكان من أجمل الدروس التي تعلمناها من تلك الرفقة الطيبة.