برز الكثير من الاعتداد بـ "بريطانيا العالمية" بعد خروج المملكة المتّحدة من الاتّحاد الأوروبي. ففي أول خطابٍ رئيسي لوزير الخارجية والكومنولث والتنمية جيمس كليفرلي عن السياسة العامّة للبلاد، وسط العظمة الإمبراطورية الفيكتورية لوزارة الخارجية، لم يبدُ وكأنه شعر بهذه العبارة المتغطرسة لمرّةٍ واحدة، ولم تكن هناك أيّ إشارةٍ إلى الطموح المنمّق لمعلّمه القديم بوريس جونسون، ولا إلى ليز تراس وخطاباتها المتشدّدة والطنّانة عن الحرية.
لم يكن هناك أيضاً الكثير من الإشارات إلى البعد "الأخلاقي" للسياسة الخارجية البريطانية الذي أربك السنوات الأولى من حكم حزب "العمّال" الجديد، قبل أن يُدفن في رمال العراق. وقد ولّت منذ فترةٍ طويلة بطبيعة الحال، المساعي الرامية إلى تحقيق "عصرٍ ذهبي" من التجارة مع الصين، الذي استثمر فيه رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون الكثير من رأس المال السياسي، بما في ذلك شراؤه للرئيس الصيني شين جين بينغ نصف ليتر من البيرة الداكنة في الحانة المحلية القريبة من مقرّ السكن الصيفي لرئيس الوزراء الذي يُطلق عليه اسم "تشيكرز"، (وعلى الرغم من أن تحسّن العلاقات مع الصين يبدو أكثر ترجيحاً الآن، إلا أنه لم يرد ذكر هونغ كونغ في كلمة الوزير كليفرلي على سبيل المثال).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بدلاً من ذلك، يشرح كليفرلي كيف أن بريطانيا تسعى الآن إلى اكتساب أصدقاء جدد، وإحياء تحالفاتٍ قديمة بالقول: "لا يجوز أن نتمسّك بالغطاء المريح الذي يوفّره لنا أصدقاؤنا وتحالفاتنا القائمة في السابق، فنحن بحاجة للنمو وإجراء محادثات مع دولٍ متنوّعة تنتمي إلى فلسفاتٍ مختلفة".
بعدما نأت المملكة المتّحدة بنفسها عن الاتّحاد الأوروبي، وفي ظلّ الفتور الذي يطغى على علاقاتها مع الولايات المتّحدة - وهي قوى عالمية تتشارك على الأقل قيمها البريطانية التقليدية - فإنها بدلاً من ذلك تختار مَن تعتبرهم "الرابحين في المستقبل"، بصرف النظر تقريباً عن موقفهم تجاه حقوق الإنسان أو تغيّر المناخ على سبيل المثال. أما مستويات المعايير التي يتعيّن عليك الامتثال لها كي تصبح جزءاً من لفيف أصدقاء بريطانيا فقد تدنّت، بحيث أن "المبدأ الأساسي" الوحيد الذي أتى على ذكره وزير الخارجية كليفرلي يكمن في "حقّ جميع الدول بتقرير مصيرها وتحديد مسارها المستقبلي من دون أن يتمّ غزوها أو تقطيع أوصالها".
في هذا الإطار، قيل إن نحو 20 دولة تمّ تحديدها على أنها ستكون قوى إقليمية في المستقبل وقوى صناعية ناشئة - بما فيها الهند وإثيوبيا والبرازيل (حتى بعد الرئيس السابق جايير بولسونارو) وإندونيسيا وجنوب إفريقيا وفييتنام، مع ذكر بولندا ورومانيا أيضا. ويعترف جيمس كليفرلي بأنه لن يتمّ تحقيق الكثير لسنواتٍ عدّة، إلا أنه يأمل في أن تؤتي الجهود الديبلوماسية التي تبذلها المملكة المتّحدة لتطوير علاقاتها ثمارها في غضون ربع قرنٍ أو أكثر.
بطبيعة الحال ستطرأ بعض المشاكل في هذا الصدد، حتى لو سعى جميع الوزراء الذين سيخلفونه في المنصب إلى اتّباع هذه السياسة حتى قرابة سنة 2050. أولا، تحتاج المملكة المتّحدة لدفع اقتصادي فوري من خلال التجارة والاستثمار، للمساعدة في تعويض خسارتها أسواقاً في مرحلة مغادرتها الاتّحاد الأوروبي. وليس هناك سوى إبرام صفقة تجارية مع الهند مع استيفاء شروط خاصّة بمنح تأشيراتٍ سخية خادعة سياسيا، ما قد يشكّل حاجة ملّحة لدى الاقتصادات الأكبر حجما. ومن خلال الأخذ في الاعتبار تقلّبات أسعار الصرف في المستقبل، فإن اقتصاد الهند هو بالفعل أكبر من اقتصاد بريطانيا، كما هي حال إندونيسيا والبرازيل، وفي السنوات ما بعد 2030، قد تتجاوز دول مثل المكسيك وتركيا وكوريا الجنوبية المملكة المتّحدة من حيث الدخل القومي (وإن لم يكن على مستوى نصيب الفرد في هذا الدخل). وكلّ هذا يطرح السؤال حول مَن سيكون الشريك الأكبر لبريطانيا في أيّ علاقةٍ مستقبلية.
ثانيًا، لا تستطيع المملكة المتّحدة ذات الاقتصاد المتواضع الحجم (الذي يبدو أنه مهيّأ لدخول بضع سنواتٍ من الركود)، أن تنافس على النفوذ والتأثير مع التكتّلات الاقتصادية الثلاثة الأكبر في العالم - الولايات المتّحدة والصين والاتّحاد الأوروبي. فقد عملت الصين على وجه الخصوص، على بناء شبكةٍ دولية من الدول الناشئة والنامية المترابطة اقتصاديا، بدءاً من سريلانكا إلى بيرو عبر "مبادرة الحزام والطريق" التي غالباً ما يتمّ انتقادها ووصفها بأنها استعمارٌ جديد.
في الواقع، ليس من الواضح - باستثناء الاعتماد فقط على نوع من الفطنة والكلمات الدافئة والتبادلات الثقافية - ما ستكون عليه الميّزة التنافسية التي ستتّسم بها المملكة المتّحدة في شراكاتها التجارية أو الأمنية والتي ستتيح لها أن تتقدّم على هذه القوى الاقتصادية العظمى. قد يكون الرهان الأفضل هو الدفع قدماً بمصالحنا مع الصين، وقد نأى رئيس الوزراء ريشي سوناك بنفسه عن السياسة التي تصنّف الصين على أنها تشكّل تهديدا، معتبراً إياها مجرّد "منافس يهوى التحدّي". وفيما تجد البريطانيّين منجذبين إلى الدول التي تمتلك إمكانات اقتصادية، تراها تنفر من جهةٍ أخرى من الوقائع السياسية لديها. وبعبارةٍ أخرى، هم مرتبكون وفي حيرة من أمرهم.
من هنا انطلق المفهوم الذي يقضي بضرورة البحث عن أصدقاء. وبكلماتٍ قالها وزير الخارجية جيمس كليفرلي نفسه، فإن دولاً مثل إندونيسيا وجنوب إفريقيا "غالباً ما تصف نفسها بأنها" غير منحازة، "وهي تتفادى الوقوف إلى جانب أي طرف ما لمجرّد أن دولاً أخرى تريدها القيام بذلك. وهذا ما ينبغي في الواقع أن يكون عليه الأمر".
ويضيف أن "مهمّتنا تتمثّل في عرض طروحاتنا وكسب دعم الدول، والاستثمار في علاقاتٍ تقوم على ديبلوماسية تتحلى بالصبر، ومبادىء الاحترام، والتضامن، والاستعداد للإصغاء ... واليوم، يتحتّم علينا أن نمتلك قدرةً استراتيجية على التحمّل، وإرادة في الالتزام بالعلاقات لعقودٍ مقبلة من الزمن".
يبدو أن "عقيدة كليفرلي" تناسب تماماً اقتصاداً متوسّط الحجم يتباطأ في إحراز تقدّم، ولا سيما بعد تورّطه الأخير في طلاقٍ حرج، وها هو يبحث الآن عن شركاء جدد في مختلف أنحاء العالم. إنها تفتقد للوضوح، لكنها قد تكون وسيلةً مجدية للتعامل مع الظروف التي يمرّ بها العالم. إلا أن المشكلة تكمن في أن الاستثمار مع فييتنام أو إثيوبيا يمكن أن يصبح عديم القيمة في اللحظة التي تبدو فيها بكين أو بروكسل على استعدادٍ لضخ أموال نقدية في الأسواق.
© The Independent