مع مرور نحو ثمانية أشهر على دعوة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى إطلاق حوار وطني كجزء من تأسيس "الجمهورية الجديدة"، خلال حفل إفطار رمضاني في أبريل (نيسان) الماضي، ضم لأول مرة شخصيات معارضة بقيت بعيدة من الساحة طوال السنوات الأخيرة، لا تزال عملية الإعداد والتمهيد للحوار جارية، دون أفق واضح لبدء المناقشات الفعلية، في شأن محاوره الثلاثة الرئيسة (سياسي واقتصادي واجتماعي)، مما يثير الأصوات المشككة في "جدية الحالة" التي تشهدها البلاد لأول مرة في العقد الأخير بسبب "بطء سير الجلسات التمهيدية"، أمام ما يعتبره القائمون عليه أمراً جيداً على اعتبار أن "النتائج الجيدة تتطلب تحضيراً جيداً".
وعلى رغم الطموحات الكبيرة التي بدأت بها الدعوة إلى حوار يسعى المنخرطون فيه إلى الاتفاق على الأولويات الوطنية لمساعدة مصر على الانتقال إلى "دولة مدنية حديثة وديمقراطية تستوعب جميع أبنائها"، فضلاً عن إعادة تشكيل لجنة العفو الرئاسية للتوصية بإطلاق سراح السجناء، عقدت كثرة الموضوعات وعدد الأطراف المتحاورة مسار العملية التي فقدت كثيراً من زخمها في الشارع المصري، وفق البعض، أمام احتدام الأزمة الاقتصادية والمعيشية بشكل غير مسبوق في الأشهر الأخيرة.
ومنذ دعوة السيسي في 26 أبريل الماضي إلى إجراء "حوار وطني" حول مختلف القضايا "يضم جميع الفصائل السياسية باستثناء واحد"، في إشارة إلى تنظيم "الإخوان"، الذي تصنفه السلطات المصرية "إرهابياً"، لم ينجز القائمون عليه على مدار الأشهر الماضية سوى تشكيل مجلس أمناء، وتعيين منسق عام للحوار، والاتفاق على محاوره الأساسية، وتشكيل لجانه الفرعية، فيما يترقب الجميع مرحلة الاتفاق على أسماء المشاركين في جلساته، وإعلان جدول محدد التواريخ تمهيداً لبدء المناقشات الفعلية، "خلال أيام معدودة"، بحسب تأكيدات مصدر مطلع.
علامات استفهام
في بلد تخيم عليه أزمة اقتصادية ومعيشية غير مسبوقة فاقمها ارتفاع الأسعار وتدني سعر العملة، يثير مسار الحوار الوطني في مصر قليلاً من التفاعل والاهتمام في الشارع المصري، فيما يحتدم النقاش بين أوساط النخب، لا سيما السياسية منها، في شأن أهداف السلطة القائمة في مصر من الحوار الوطني ومستقبله، ومدى انخراط القوى المعارضة المتخوفة من "الغرق في التفاصيل الإجرائية"، دون الوصول إلى صلب ما يعتبرونه "حلحلة تداعيات تجمد المشهد السياسي وأولويات المرحلة لتجاوز التحديات التي تشهدها الدولة".
في 13 ديسمبر (كانون الأول) نشرت صفحة الحوار الوطني على "فيسبوك" أنها في حالة انعقاد دائم، "وذلك لوضع اللمسات النهائية لخطط عمل لجان المحاور الثلاثة وترشيحات أسماء المشاركين والممثلين لبعض الجهات والمؤسسات من مقدمي المقترحات ومن المتخصصين المعنيين، وجداول الأعمال استعداداً للبدء الفعلي للجلسات النقاشية للحوار". ووفق ما أوضحه مصدر مطلع لـ"اندبندنت عربية"، فإن مجلس الأمناء "أقر قبول جميع الأسماء التي تقدمت بها الحركة المدنية للمشاركة في الجلسات الفعلية المترقبة، وأن العمل جارٍ الآن لاستكمال باقي الأسماء المرشحة من قبل بعض الكيانات والأحزاب المتبقية لإنهاء تلك المرحلة تمهيداً لإطلاق الحوار الوطني خلال الأيام المقبلة".
وأمام تقاذف اتهامات "البطء في الإعداد والغرق في التفاصيل" بين أطراف المعارضة والمحسوبين على السلطة في مجلس الأمناء، منذ أشهر، يثير "التأخير" وفق البعض، أسئلة حول "جدية الدعوة من الأساس والنتائج المنتظرة أمام فقدان الحالة لزخمها قبل أن تنطلق"، إلا أنه وبحسب ما أعلنه ضياء رشوان، المنسق العام للحوار، مساء الجمعة، في تصريحات عبر برنامجه التلفزيوني بإحدى القنوات المصرية، فإن "الحوار يسير في مساره الطبيعي، وسيتم الانتهاء من الإعداد الدقيق لجميع جلساته خلال أيام قليلة، وكذلك الإعلان عن جميع ما يتعلق بجلساته والمتحدثين فيها للرأي العام، عبر جدول واضح"، مشدداً على أن "الحوار يتسع للجميع، وسيشهد حديثاً موسعاً من المشاركين، وبكل حرية، ولا يوجد خط أحمر على أي موضوع أو شخص، مما ستتم مناقشته خلال الجلسات".
وفي شأن أسباب عدم انطلاق الحوار حتى الآن، قالت ريهام باهي، أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعضو مجلس أمناء الحوار الوطني، إن "هناك حرصاً على إدارة الحوار الوطني بشكل متوازن يتم من خلاله تمثيل جميع أطراف الحوار"، موضحة في حديثها لـ"اندبندنت عربية"، أن هناك "رغبة لإعداد الحوار بشكل جيد حتى نصل إلى مخرجات جادة وقابلة للتطبيق"، مشيرة في الوقت ذاته، إلى "نقاشات موسعة وثرية وتبادل لوجهات النظر بشكل كامل، شهدتها الجلسات التحضيرية خلال الفترة الأخيرة".
وبحسب باهي، فإن طول الفترة بشكل رئيس تكمن في حرص القائمين على الحوار لإعداده جيداً، موضحة أن عملية التنسيق بين قوى المعارضة والموالاة استغرقت فترة زمنية كبيرة، وهي مهمة لتنسيق الأعمال فيما بينهم، مشيرة في الوقت ذاته إلى أحداث كبيرة شهدتها البلاد خلال الأشهر الأخيرة، كانعقاد المؤتمر الاقتصادي واستضافة مصر قمة المناخ "كوب 27"، فضلاً عن زخم كأس العالم، وهو ما انعكس على وتيرة الإعداد للحوار الوطني.
من جهته، يقول نجاد البرعي، المحامي الحقوقي، وعضو مجلس أمناء الحوار الوطني، في حديثه لـ"اندبندنت عربية"، "بالفعل مدة الإعداد للحوار طويلة، وكان يمكن اختصارها"، مرجحاً أنه وبسبب "كثرة المواضيع المطروحة للنقاش، وأيضاً كثرة الراغبين بالمشاركة في فعالياته، فإن المناقشات قد تستمر وقتاً أطول".
وبحسب القائمين على الحوار، فإن دعوة السيسي بالأساس كانت تستهدف استعادة "لحمة" تحالف "30 يونيو (حزيران)"، وهو تحالف تشكل من قوى سياسية ومدنية في عام 2013، لإطاحة حكم تنظيم "الإخوان" الذي تصنفه السلطات المصرية حالياً "إرهابياً"، وهي الدعوة التي صاحبتها عودة لجنة العفو الرئاسي للعمل، مع الإفراج عن العشرات من مسجوني الرأي والسياسيين، كإحدى مبادرات السلطة لتهيئة الجو العام للحوار، لكن في المقابل لا تزال قوى الحركة المدنية متململة من بطء الإجراءات، وترى في الإفراجات التي تمت، وهي أحد شروط انخراطها في الحوار، "غير كافية بعد لإظهار السلطة لحسن نيتها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقبل نحو أسبوعين، أعلنت الحركة المدنية (تضم 12 حزباً، وتعد أكبر كيان معارض داخل مصر) عن مشروعها للإصلاح السياسي وتقديمه إلى "الحوار الوطني"، والذي تمثل في "إصلاحات تشريعية وإطلاق سراح المعتقلين وفتح المجال أمام حرية الإعلام، فضلاً عن وقف الاستدانة الخارجية". ودعا حمدين صباحي القيادي في الحركة والمرشح الرئاسي الأسبق، المصريين إلى الالتفاف حول الحركة حتى تمثلهم في الحوار مع السلطة.
كذلك ذكر صباحي أن "مشاركة المعارضة إلى جانب الحكومة في الحوار الوطني إنجاز في حد ذاته"، لكنه رهن مشاركة الحركة المدنية في جلسات الحوار بـ"توافر عدد من الضمانات على رأسها خروج عدد معتبر من سجناء الرأي"، على حد وصفه، ليوضح بعدها آخرون في الحركة المدنية أن "الإفراج عن السجناء مطلب أساسي، لكنه أمر قابل للحوار والنقاش، وأن الحركة ستناقش هذه المسألة خلال الفترة المقبلة، لتحدد موقفها النهائي من المشاركة في مناقشات الحوار الوطني".
ماذا ننتظر من الحوار؟
على وقع الترقب الذي يخيم على المشهد السياسي في مصر، للانطلاق الفعلي لجلسات الحوار الوطني، يبقى الرهان وفق المؤيدين والمعارضين، ممن تحدثت معهم "اندبندنت عربية"، مرتبطاً بشكل كبير بـ"النتائج المتوقعة وتطبيقها على أرض الواقع"، حتى وإن "تراجع زخم الحالة" التي تشهدها مصر لأول مرة منذ سنوات عديدة، بحسب البعض.
يقول الأديب والروائي المصري يوسف القعيد إن "انطلاق حوار وطني شامل في مصر حدث سياسي غير مسبوق، أصبحنا نشاهده على أرض الواقع بعد أن كان حلماً"، مضيفاً، "تعكس طول المدة في التحضير والإعداد جدية القائمين عليه والسعي إلى تحقيق أهدافه في تأسيس مرحلة جديدة، تكون لها ما بعدها، عبر إشراك جميع الفئات وتحقيق أكبر قدر من التوافق".
ومع تشديد القعيد على "ضرورة التركيز على الجوهر لا الشكليات" على حد وصفه، يضيف، "ننتظر أن يضع الحوار الوطني في توصياته الأساس القوي والمتين لبناء مصر الجديدة وتجاوز المعوقات، وهذا هو المطلب الحقيقي للمصريين، في الوقت الراهن، وعليه يتوجب علينا عدم استعجال النتائج أو التسرع في الحكم قبل الوصول إلى نتائج حقيقية"، معتبراً أن "النقاشات التي شهدتها الجلسات التمهيدية للتحضير للحوار عكست الجدية والموضوعية في تقبل الرؤى والأفكار بين أبناء الوطن الواحد".
لكن في المقابل، تبقى "متاهة التفاصيل وتشعب الموضوعات" عنصراً مؤرقاً لمشاركة المعارضة في الحكم. ويقول محمد سعد عبدالحفيظ، عضو مجلس نقابة الصحافيين المصرية، "بعد انطلاق دعوة الرئيس السيسي للحوار، كنا نتوقع أن نشاهد الجلسات الفعلية له خلال أسابيع قليلة، بشكل رئيس بين المهتمين بالعمل العام والسياسي في الدولة، لكن بالعكس دخلنا في تفصيل حوار سياسي واقتصادي ومجتمعي، وكأننا نتحرك باتجاه تأسيس مجلس شعب موازٍ أو سلطة موازية".
ويتابع عبدالحفيظ، "طول المدة دون الانطلاق، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية والمعيشية المستحكمة، قادا إلى تراجع الزخم حول الحالة التي تشكلت بعد أبريل الماضي"، معرباً عن أمله في الانتهاء من "مرحلة التحضير نحو الوصول إلى النقاشات الجادة وبلورة الأفكار والرؤى".
وبحسب عبدالحفيظ، فإن "التأخير" يعود بالأساس إلى سببين، "الأول له علاقة بالتوافقات والتوازنات والمواءمات لاختيار مجلس الأمناء ومقرري اللجان بين المؤيدين والمعارضة، والآخر متعلق بإغراق مسار الإعداد نفسه في كثير من التفاصيل"، معتبراً أن "الموضوع أسهل مما صعبه مجلس أمناء الحوار على نفسه أو الجهات التي تديره". وذكر أن كل ما تسعى إليه الحركة المدنية وقوى المعارضة، هو باختصار "المطالبة بفتح المجال العام وتأكيد الحريات الإعلامية والصحافية والحقوق والمساءلة كحل رئيس لجميع التحديات التي تواجه الدولة، وأنه لو انحصر الأمر على ذلك لكان انتهى الحوار وصدرت التوصيات، وحينها كانت ستقف السلطة في موضع اختبار في شأن تنفيذ التوصيات من عدمه".
ومع توافقه مع عبدالحفيظ، في أن "كثرة التفاصيل قد تفضي لإخراج الحوار من مضمونه"، أوضح جمال فهمي، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان الأسبق، أن "الغرق في العناوين حتى وإن كان مسؤولية جميع المشاركين في الجلسات التمهيدية، جعل الدعوة للحوار وكأنها تهدف لملء الفراغ العام في مصر". وتابع، "التحدي الأكبر مرتبط بالسياسة والحريات والحقوق، وكل الأزمات الأخرى متفرعة منها كالتحديات الاجتماعية والاقتصادية الراهنة، والحوار في شأن السياسة هو ما يمكن من خلاله تغيير الواقع الاقتصادي والمعيشي في البلاد"، مؤكداً في الوقت ذاته أنه "لا يمكن التقليل من أن الحوار مكسب مهم، وعلى الجميع المشاركة فيه والبناء عليه، مهما كانت النتائج أو التوقعات، لا سيما أن المعارضة المصرية في وضع ضعيف لا يمكنها الوصول إلى أبعد من ذلك".
وأمام هذا الجدل، ترى النائبة أميرة صابر، عضوة مجلس أمناء الحوار الوطني، أنه "بعيداً من التفاصيل الكثيرة في الحوار المرتقب، إلا أنه يبقى فرصة حقيقية أمام قوى الحركة المدنية لتقديم رؤاهم وأفكارهم واقتناص مساحة فيما يتعلق بالملف السياسي". وتتابع، "يعد ذلك الملف هو الأكثر قابلية لتحقيق هذه القوى تقدمات ملموسة خلاله، من خلال النتائج والتوصيات المرتقب خروجها في نهاية الحوار الوطني"، مرجحة أن يشهد البلد "مزيداً من الزخم والتفاعل في الفترة المقبلة مع الانطلاق الفعلي لجلسات الحوار".
والأسبوع الماضي، كان مجلس أمناء الحوار الوطني (يضم 19 شخصية بينهم محسوبون على المعارضة ومستقلون) قد عقد الجلسة التمهيدية الـ17، والتي ركزت بالأساس على بحث ودراسة الأسماء المرشحة للمشاركة في الجلسات النقاشية. وفي سبتمبر (أيلول) الماضي، كان المجلس قد اختار 44 مرشحاً لإدارة لجان محاوره الثلاثة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية واللجان الفرعية التابعة لها.