"أن تكون سجيناً في زنزانة ضيقة أهون ألف مرة من أن تكون مجهولاً في فضاء غير معروف ولا حدود له"، هذا ما عبر عنه والد أحد المغييبن قسراً من منطقة جرف الصخر، الذي تم اعتقاله من قبل الميليشيات بعد تحرير المنطقة من سيطرة تنظيم "داعش" في عام 2014. وقال الأب الذي تزدحم مخيلته بالمخاوف عن ابنه الذي لا يعلم مصيره، "بدأت أخشى من سماع أي خبر يتعلق بالكشف عن مقبرة جماعية لعلني أجد بقايا ابني فيها ويضيع أملي ببقائه حياً".
يتشبث أهالي المغيبين قسراً بأمل العثور على أبنائهم على رغم إدراك كثيرين منهم أنها أمنية شبه مستحيلة التحقق بعد مرور أكثر من ثماني سنوات على تغيبهم وعدم معرفة مصيرهم. وبات ذوو المغيبين قسراً يقولون "إن الكل نسي أو بدأ بتناسي قضية المغيبين، فلا توجد جهود حكومية جادة لمعرفة مصيرهم".
"لا وجود لمغيبين بل مغدورون"
ولعل الأمل الذي يتمسك به أهالي المغيبين يتصدع وينهار تحت وقع تصريحات رسمية متلفزة لرئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي لإحدى القنوات العراقية، قائلاً إنه "لا وجود لمغيبين بل مغدورون"، مشيراً إلى عمليات إعدام عشرات آلاف المختفين قسرياً في العراق بعد عام 2014.
وبعد تصريحات الحلبوسي طالب "مركز جنيف الدولي للعدالة" بتشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة للكشف عن المختفين قسرياً في العراق.
وأوضح المركز في بيان أن "تصريحات الحلبوسي تعكس محاولة النظام التخلص من أعباء هذا الملف من خلال تحويل المعالجة إلى مجرد تعويضات مالية تقدم إلى العائلات مقابل التوقف عن المطالبة بالكشف عن مصير أبنائها". وأشار البيان أيضاً إلى أن "الهدف من هذه التصريحات هو دفع عائلات المختفين قسراً إلى اليأس وتحويل الموضوع من المطالبة بمعرفة مصير أبنائها والكشف عن الجناة ومحاسبتهم إلى الترضية بمبالغ مالية، بخاصة أن هذه العائلات هي بأمس الحاجة بسبب عدم وجود مورد مالي لها، وسيعني ذلك عدم محاسبة الجهات التي ارتكبت جريمة الاختفاء القسري، بالتالي استمرار سياسة الإفلات من العقاب في العراق التي تقود إلى استمرار تفاقم الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان".
لجنة الأمم المتحدة المعنية بحالات الاختفاء القسري
تصريحات الحلبوسي جاءت بعد أسابيع قليلة من زيارة لجنة الأمم المتحدة المعنية بحالات الاختفاء القسري بالعراق من 12 إلى 24 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إذ زارت اللجنة بغداد والأنبار وأربيل والموصل والتقت عائلات الضحايا ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية، فضلاً عن المؤسسات الوطنية والحقوقية للوصول إلى وضع إجراءات عاجلة لمعالجة حالات الاختفاء القسري.
وأشارت اللجنة في بيان بعد ختام جولتها في العراق إلى "ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لإدراج الاختفاء القسري كجريمة مستقلة في التشريع الوطني". وحثت اللجنة العراق على "إنشاء سجل مركزي ومترابط لتمكين التعرف إلى حالات الاختفاء القسري بشكل موثوق والوصول الفعال إلى المعلومات من قبل كل المؤسسات المسؤولة عن البحث عن المفقودين والتحقيق في حالات الاختفاء المدعاة". وأكدت اللجنة ضرورة معالجة معاناة الضحايا اليومية. وحسب الاتفاقية فإن ضحية الاختفاء القسري ليس فقط الشخص المختفي فحسب بل كل الذين يتأثرون بهذا الاختفاء وفي مقدمتهم عائلته.
ودعت اللجنة إلى فتح تحقيق تجريه لجنة محايدة ومستقلة يمكن أن تجمع خبراء وطنيين ودوليين. ويمكن لهذه اللجنة أن تنشئ بعثة لتقصي الحقائق للتحقق من وجود أماكن احتجاز سرية في المناطق التي يزعم وجودها فيها، باستخدام كل الوسائل التقنية ذات الصلة، مثل صور الأقمار الاصطناعية والطائرات من دون طيار.
أكثر من 20 ألف مغيب منذ عام 2014
وتقدر جهات حكومية ومنظمات مجتمع مدني أن عدد المختفين قسرياً في محافظة الأنبار يتجاوز ستة آلاف مغيب، معظمهم اختفوا بعد فرارهم من قبضة "داعش" في مارس (آذار) 2015، بينهم 2200 عند بحيرة الرزازة وألفان على جسر بزيبز، وحسب المصادر ذاتها فإنه قد جرى اقتيادهم من الميليشيات واختفى أثرهم.
التقرير سيصدر في مارس 2023
في السياق، أشار المدير التنفيذي لـ"مركز جنيف الدولي للعدالة" ناجي حرج إلى أن زيارة لجنة الأمم المتحدة المعنية بحالات الاختفاء القسري تعد "تاريخية بمضامينها"، كما أن "الهدف منها لا يتعلق بإبداء النصح في قضايا الاختفاء القسري وإنما إنهاء هذه الحالات". وأوضح أن "اللجنة دعت إلى تشكيل لجنة مستقلة حيادية بين العراق وفريق دولي لغرض التحقيق في قضايا الاختفاء القسري والسجون السرية وهي فكرة تتطابق مع ما قامت به الحكومة العراقية ومجلس الأمن من تشكيل فريق دولي وعراقي للتحقيق في جرائم داعش".
ويذكر أن اللجنة التي اطلعت على حالات الاختفاء القسري ستواصل متابعتها حول هذا الموضوع حتى موعد إصدار تقريرها في مارس (آذار) 2023، وسيقدم التقرير النهائي إلى مجلس حقوق الإنسان ثم إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة وعليه فإن قضية المغيبين ستتخذ أبعاداً دولية خلال الفترة المقبلة.
كما تواصل لجان أخرى في الأمم المتحدة متابعتها قضايا الاختفاء القسري في العراق، ومنها "لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب" و"لجنة حقوق الإنسان"، المسؤولتين عن متابعة تنفيذ الدول تعهداتها الدولية بموجب اتفاقيات حقوق الإنسان. وفي هذا السياق، طلبت هذه اللجان من العراق في توصياتها الصادرة خلال العام الحالي بوضع قاعدة معلومات واضحة، سهلة الوصول، تتضمن كل من يتم اعتقاله مع بيان الأسباب والإجراءات المتخذة بشأنه وكذلك سجلات لكل المودعين في السجون والسماح لمنظمات حقوق الإنسان بإجراء زيارات مفاجئة من دون الحاجة إلى موافقات مسبقة من السلطات.
مغيبون بسبب تشابه الأسماء
ووصل عدد المغيبين الذين تم تسجيلهم في محافظة صلاح الدين إلى 4000 مغيب، لكنه قد يصل إلى 8000 مغيب، لأن كثيراً من العائلات تتخوف من اللجوء إلى المحاكم المدنية أو تقديم الشكاوى خوفاً من المطاردة وعمليات القمع.
كما أن "كثيرين من المغيبين قسراً وقعوا ضحية تشابه الأسماء مع مطلوبين للقضاء"، حسبما أوضح رئيس "مجلس شباب تكريت التطوعي" نصير طارق، الذي أضاف أن "تشابه الأسماء مشكلة قديمة لم يتم وضع حلول جادة لها، فلا توجد محاسبة مركزية كما لا توجد معلومات وافية عن المطلوبين، إذ يتم تدوين أسمائهم الثلاثية فقط، والأسماء الثلاثية تتشابه عند كثير من السكان فيتم اعتقال الشخص وتطبق عليه شروط الإرهاب ويقبع بالسجن إلى أن تثبت براءته". ورأى طارق "ضرورة أن تكون المعلومات المقدمة للقضاء حول المطلوبين أكثر شمولية ودقة لتتضمن الاسم الرباعي واللقب وتاريخ الميلاد واسم الأم وعنوان السكن، لكي يتم تلافي حالات الاعتقال الذي قد يؤدي إلى التغييب بسبب عدم دقة المعلومات".
لا أحياء ولا أموات
وعانت المناطق التي احتلها "داعش" من سلسلة متكررة من حالات التغييب القسري ضد أبناء هذه المحافظات لا سيما من هم ضمن سلك الشرطة والجيش، لتأتي بعدها عمليات تغييب أخرى قامت بها الميليشيات ضد الأهالي أثناء عمليات التحرير بدوافع انتقامية وطائفية. ولم يعرف مصير المغيبين جراء عمليات "داعش" من جهة والميليشيات من جهة أخرى ولم يتم التحقيق بها ومحاسبة الجناة.
ويمتنع الناجون من عمليات الاختفاء التي تمت على يد الميليشيات عن الحديث عن الجهات التي اقتادتهم إلى أماكن بعيدة عن قراهم لغرض تصفيتهم، كما حدث في الصقلاوية التي تقع شمال الفلوجة، فبعد عمليات التحرير من "داعش" شهدت تلك المنطقة عمليات تغييب لأكثر من 700 شخص من قرية البوعكاش بعد هروبهم ولجوئهم إلى أقرب نقطة عسكرية ترفع العلم العراقي، لكن الناجين منهم يروون كيف أنهم فوجئوا بأنها تعود إلى الميليشيات التي باشرت بتعذيبهم وقتل المئات منهم في حين اختفى الباقون.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قرية العباءات السوداء
في هذا السياق، أوضح عمر محمد، رئيس "منظمة رحمة" أن قرية البوعكاش شهدت تغييب 700 رجل بينهم أطفال في عمر 13 سنة ورجال بعمر 80 سنة. وتابع محمد أن "تلك القرية بات يطلق عليها اسم قرية العباءات السوداء، فأغلب رجالها مغيبون وتعيش النساء فيها بانتظار مصير رجالهن". وأشار محمد إلى أن "الأهالي يعانون الفقر وضيق اليد بسبب غياب المعيل، كما أن بعضهم موظفون في الدولة انقطعت رواتبهم بسبب غيابهم، فلا بد من اللجوء إلى الإقرار بوفاة المغيَّب قضائياً لكي يحصلوا على مستحقاتهم المالية وهذا ما تمتنع عنه العائلات لأن ذلك يعني تنازلهم عن الأمل بالعثور عليه".
مقترح لتعديل قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا
من جهة أخرى، خصص قانون "المحكمة الجنائية العراقية العليا" رقم 10 لعام 2005 للجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب المرتكبة من تاريخ 17 يوليو (تموز) 1968 ولغاية 1 مايو (أيار) 2003، وفي هذا السياق يوضح المحامي علي أمين، أنه من الضروي تعديل القانون وتوسيعه على أن لا يتم تحديد الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية بفترة زمنية محددة كما هو موجود في نص القانون حالياً. وسيسهم تعديل التشريع الموجود حالياً في شمول جميع جرائم الإبادة التي حصلت بعد عام 2003، ومنها التي ارتكبتها القوات الأميركية وكذلك كل الانتهاكات التي قامت بها الميليشيات المسلحة.
فرق وطنية للكشف عن المقابر الجماعية
يتعدد ضحايا ملف المغيبين في العراق، إذ هم المغيب وعائلته، فعائلات المغيبين تخشى من التعرض لعمليات انتقامية بحال تقديمهم الشكاوى للمحاكم المدنية، وهذا ما أكدته لجنة الأمم المتحدة المعنية بحالات الاختفاء القسري، إذ أعربت اللجنة عن قلقها البالغ إزاء الادعاءات العديدة بارتكاب أعمال انتقامية ضد أسر وأقارب وممثلي المختفين، وكذلك ضد الجهات الفاعلة التي تشارك في عمليات البحث والتحقيق.
ويبقى العراق بحاجة إلى فرق وطنية تختص بفتح المقابر الجماعية المعروفة لدى الأهالي قبل أن يتم العبث بها أو إضاعة معالمها، فالعراق يمتلك فريقاً وطنياً واحداً فقط مدرباً على الكشف عن المقابر وهو غير كاف للكشف عن كل المقابر التي اتسع مداها في العراق بسبب "داعش" والميليشيات. كما لا يمتلك العراق إلا مختبراً مركزياً واحداً لإجراء فحوصات الحمض النووي (DNA) لغرض التعرف إلى هوية الضحايا، وبالتالي لا يكفي للكشف عن كل الحالات التي يعمل عليها حالياً، وهم ضحايا "سبايكر" والموصل وجرف الصخر والحويجة وتفجير الكرادة وضحايا العنف الطائفي للسنوات 2006-2008.
الحكومة توفر الحماية لمرتكبي الانتهاكات
وعلى رغم إعلان رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني تعيين مستشار خاص له لقضايا حقوق الإنسان ونشره بريداً إلكترونياً لتلقي الشكاوى، فإن المدير التنفيذي لمركز جنيف الدولي للعدالة ناجي حرج يشكك في هذه الخطوة، مبيناً "أنها لا تختلف عن إعلانات سابقة كثيرة لرؤساء وزراء سابقين لكنهم لم يتخذوا أي إجراء للحد من الانتهاكات بل وفروا الحماية لمرتكبي الانتهاكات ومارسوا الضغط ضد كل من يحاول فضح انتهاكاتهم وجرائمهم. كما أن الجهة المختصة بحسب القانون للنظر في قضايا حقوق الإنسان هي المفوضية العليا المستقلة لحقوق الإنسان، وليس مكتب رئيس الوزراء الذي تقع عليه مهمة اتخاذ القرارات وليس تسلم الشكاوى".