تتباهى المؤسسات الإعلامية الغربية بمهنيتها المستمدة من استقلالها عن هيمنة السلطات السياسية. وهذا صحيح من الناحية التنظيمية نظرياً، ولكن الواقع أثبت أن السلطة تظل سلطة في النهاية. وأن مدى رضوخ المؤسسات الإعلامية، التي هي عبارة عن مجموعة من البشر في آخر المطاف، للتأثير المباشر وغير المباشر للسلطة السياسية، هو أمر واقع بل قابل للقياس إذا قمنا بدراسة دقيقة لذلك. ولكن بعيداً من هذه النظرية التي أفنى المفكر نعوم تشومسكي سنواتٍ طويلة في محاولة إثباتها، فإن المؤسسات الإعلامية الغربية مهما نفت عن نفسها تهمة الانحياز المفروض عليها من قبل سلطة سياسية فإنها لا تستطيع أن تنفي عن نفسها تهمة الانحياز المفروض عليها من قبل السلطة المالية. فأغلب هذه المؤسسات الإعلامية مؤسسات هادفة للربح. ومن أجل هذا التعارض بين النموذج الربحي والمهنية الإعلامية يتم الفصل عادة بين مدير المؤسسة الإعلامية من الناحية التجارية، ومديرها من الناحية الإعلامية. الأول رئيس الشركة مثلاً، والثاني رئيس التحرير. وتوضع مجموعة من الإجراءات التي تحدد العلاقة بينهما وتحدّ من تأثير سلطة أحدها في الآخر. ولكن هذه في آخر المطاف مجرد تنظيمات وإجراءات. والأموال الطائلة التي أنفقها ملّاك المؤسسة الإعلامية من أجل إنشائها وتشغيلها وإنمائها ليست تبرعاً، بل لابد من استعادة هذه الأموال بأي طريقة كانت.
التحديات المالية
المعادلة الصعبة التي تقف في وسطها المؤسسة الإعلامية الغربية إذن هي كيف تستطيع أن تحقق الأهداف الربحية التي وضعها لها ملّاكها من دون التنازل عن المهنية الإعلامية التي تمنح المؤسسة صدقيتها وقبولها. هذه المعادلة تعرضت للشدّ والجذب والتنظير والتطبيق والتحوير والتدوير منذ أنشئت أولى المؤسسات الإعلامية ربحية في التاريخ وحتى اليوم. ثمة نماذج ناجحة، ولكن عددها يقلّ تدريجاً مع احتدام المنافسة. ففي الزمن الذي لم تكن سوى وسيلة إعلامية واحدة في الدولة بسبب ضعف التقنية وأسباب أخرى، كان بوسع المؤسسة الإعلامية أن تتمتع بمهنيتها الكاملة من دون أن تخشى ضعف المبيعات أو قلة المشاهدات أو عزوف المتلقين بما أنهم لا يملكون الخيار للالتفات إلى مؤسسة إعلامية أخرى. وصلت هذه المعادلة مع مرور الزمن إلى مرحلة الاستحالة. بمعنى أن تحقيق المهنية القصوى والأرباح العظمى معاً يعدّ تحدياً لا يقدر عليه لا مديرو المؤسسات ولا رؤساء التحرير. من الذي صنع هذه الاستحالة؟ عوامل عدة يمكن أن نجمعها كلها تحت مظلة البيئة المحيطة بالمؤسسة الإعلامية كمجتمع وسلطة وقانون وعرض وطلب ومؤثرين ومتأثرين. هذه البيئة لن تترك المؤسسة الإعلامية تعمل مستقلة بهدوء، بل ستنفعل بها وتتفاعل معها من أجل تحقيق المآرب والأهداف والأغراض المتنوعة والمتضاربة والمتداخلة دائماً. ما يعني صعوبة أن تنفرد المؤسسة الإعلامية بتحديد مسارها وحدها.
الإنحياز
في ظل هذه الاستحالة التي تفرض نفسها واقعاً يوماً بعد يوم، تبحث المؤسسات الإعلامية عن مخارج ممكنة لها. أحد هذه المخارج هو أن تتنازل عن الحياد الذي هو أحد أعمدة المهنية الإعلامية. فالواقع يقول إن المؤسسة الإعلامية التي تنحاز بشكل واضح إلى أيديولوجيا ما أكثر ربحاً وقبولاً ومتابعة وتأثيراً من تلك التي تحاول أن تحايد فلم ترضِ هذا ولا ذاك، باستثناء عدد قليل من المتلقين الموضوعيين الذين يملكون الوعي الكافي للحكم على المؤسسة بأنها محايدة فعلاً، ولكنهم بكل تأكيد أقل من أن يؤثروا في مسار المؤسسة ربحياً. المعادلة الجديدة تقول: أن تكون المؤسسة الإعلامية صوتاً عالياً منحازاً إلى فئة أفضل من أن تكون صوتاً خفيضاً محايداً. وكلما عظمت الفئة التي تنحاز إليها أصبح صوتك أعلى، وكلما ضؤلت أصبح صوتك أخفض. وكلما مزّقت صوتك بين فئتين بدعوى الحياد لم يسمعك أحد!