دخلت فرنسا على خطّ المعارك الأميركية في التجارة الدولية، بعد أن مرّرت باريس بشكل نهائي، أمس، قانوناً جديداً يقضي بفرض ضرائب على عمالقة الإنترنت، مثل "غوغل" و"أمازون" و"فيسبوك".
وكانت الولايات المتحدة هدّدت فرنسا بعدم فتح باب الضرائب على الشركات الأميركية، معتبرة أن ذلك "غير عادل للتجارة البينية"، لكن مضيّ البرلمان الفرنسي في هذا التصويت دفع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى الإعلان في ساعة متأخرة من مساء الأربعاء عن فتح تحقيق في الضرائب بموجب مادة استخدمت العام الماضي للتحقيق في سياسات التكنولوجيا الصينية، ما أدى إلى فرض رسوم على واردات صينية بقيمة 250 مليار دولار.
وأثار هذا الأمر مخاوف جديدة في الأسواق، لأنه يعني إمكانية فتح جبهة تجارية أميركية- فرنسية، في وقت لم تهدأ الحرب التجارية التي بدأتها واشنطن قبل شهرين ضد بكين، وأدت إلى زيادة الرسوم الجمركية بنسبة 25%، وما زالت تداعياتها حاضرة حتى الآن.
ضربة باريسية
ومع أن الضربات كانت تأتي دائما من البيت الأبيض ضد الشركاء التجاريين، إذ بدأت حرب واشنطن التجارية مع الصين أولا، ثم لاحقا ضد المكسيك (رغم التراجع عنها سريعا)، إلا أن هذه المرة أتت المفاجأة من الحليف الفرنسي الذي فرض ضرائب على الشركات الأميركية، التي تعتبر حاليا رمز الثورة التكنولوجية الحديثة، ومحركة أساسية للاقتصاد الأميركي.
ومن شأن ضريبة الخدمات الرقمية التي أقرّتها باريس، أن تفرض رسوماً سنوية بنسبة 3% على إيرادات الشركات الرقمية التي تتجاوز مبيعاتها السنوية على مستوى العالم 750 مليون يورو، وفي فرنسا 25 مليون يورو. ومن المحتمل أن تتأثر 30 شركة من هذا القرار، وقد تكون "مايكروسوفت" من بينها. وتشير تقديرات مجلس الشيوخ الفرنسي إلى أن الضريبة الجديدة قد تجلب 400 مليون يورو هذا العام، و650 مليوناً العام المقبل.
الردّ الأميركي المتوقع
ومن المتوقع أن يكون الرد الأميركي بمضاعفة الضرائب على المواطنين والشركات الفرنسية في الولايات المتحدة الأميركية، بحسب "بلومبيرغ". كما قد يكون هناك تهديد أوسع للتجارة الأميركية مع أوروبا عموما، فقد كانت الإدارة الأميركية فتحت النار في وقت سابق على الاتحاد الأوروبي عندما رفعت الرسوم الجمركية على صادرات السيارات بنسبة 25%، مهدّدة أهم مورد لألمانيا، أكبر اقتصاد أوروبي. لكن ألمانيا تعمل على قيادة محادثات جديدة مع الجانب الأميركي لبحث ملف رسوم صادرات السيارات، غير أن الصفعة الجديدة التي وجهتها فرنسا للشركات التكنولوجية الأميركية العابرة للقارات، قد تعرقل هذه المحادثات.
معارك كلامية
وفُتحت معركة كلامية أمس بين البيت الأبيض والمسؤولين الفرنسيين، إذ قال وزير المالية الفرنسي، برونو لو مير، إن "فرنسا دولة ذات سيادة وتقرّ قواعدها الضريبية الخاصة. إن الحلفاء بحاجة إلى فرض ضرائب عادلة وتسوية الخلافات بدون استخدام التهديدات".
وردّ الممثل التجاري الأميركي، روبرت لايتيزر، بأن "الولايات المتحدة قلقة للغاية من أن ضريبة الخدمات الرقمية تستهدف الشركات الأميركية بشكل غير عادل".
وأضاف "أوعز الرئيس إلى التحقيق في آثار هذا التشريع الفرنسي وتحديد ما إذا كان هناك تمييز ضد الشركات الأميركية، أو تقييد تجارة الولايات المتحدة".
وأيّدت "أمازون" إدارة ترمب، ووصفت الضريبة الفرنسية بأنها "غير متينة" و"تمييزية".
وقالت الشركة في بيان، نقلته "الاندبندنت"، إننا "نحيّي إدارة ترمب لاتخاذها إجراءات حاسمة ضد فرنسا، وبعثها برسالة إلى جميع الشركاء التجاريين لأميركا بأن الحكومة الأميركية لن تقبل سياسات الضرائب والتجارة التي تميّز ضد الشركات الأميركية".
مشكلة أميركية أولا
والمشكلة التي وقعت فيها واشنطن الآن، أنها هي نفسها فتحت باباً للتحقيق في مدى خرق الشركات التكنولوجية الأميركية العملاقة قوانين المنافسة العادلة الأميركية المعروفة باسم Antitrust Laws .
فقبل شهر، وبينما كانت عناوين الحرب التجارية الأميركية مع الصين تتصدر الأخبار، أعلنت لجنة التجارة الاتحادية ووزارة العدل الأميركية عن بدء تحقيقات بشأن مدى خرق عمالقة التكنولوجيا "غوغل" و"فيسبوك" و"أمازون" و"أبل" قوانين المنافسة العادلة، ما يمنع ظهور منافسين من الشركات الأصغر حجماً ويضرّ بالمستخدمين.
جدل أميركي لتفكيك عمالقة التكنولوجيا
وهناك جدل كبير في الساحة الأميركية حاليا بشأن ما إذا كان من مصلحة الولايات المتحدة تفكيك الشركات الكبرى في حال تبين أنها تنتهك قوانين المنافسة العادلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والفريق المؤيد لتفكيك هذه الشركات، يعتبر أنها أصبحت كـ"الصندوق الأسود"، كما يقول السيناتور الجمهوري، جوش هولي "تستطيع السيطرة على المجتمعات وتوجيه الرأي"، وهي الاتهامات التي يكيلها أيضا ترمب لـ"غوغل"، الذي يقول إنها تتحكم في آليات البحث، بحيث تُظهر بدايةً الآراء المعارضة لسياساته.
لكن الفريق المعارض يقول إن تفكيك هذه الشركات يعني فتح مجال للشركات الأجنبية، وعلى رأسها الصينية، للتحكم بأسواق التكنولوجيا، خصوصا أن الحكومة الصينية تدعمها، كما هي الحال في "هواوي".
إعادة النظر بشركات التكنولوجيا
وهناك وجهات نظر أخرى تحاول أن تقرأ الأمر بشكل اقتصادي بحت، إذ تطالب بضرورة إعادة النظر في "هذه الشركات على اعتبار أنها شركات خدمات، وليس شركات تكنولوجيا محتكرة"، كما يقول عيد الشهري، مدير عام شركة "الأجيال القادمة"، وهو محلل ومستثمر كويتي في الولايات المتحدة.
ويوضح الشهري أن "شركات الخدمات مثل شركات الكهرباء أو الغاز والماء والإنترنت، تفتح مجالا لشركات أصغر بالحصول على رخص خاصة في مجال معين بحيث لا تتحكم فيها شركة واحدة كبيرة، وهو ما يفترض أن يُبدأ تنفيذه على الشركات التكنولوجية لأن أصبحت تتحكم في أكثر من قطاع كالإعلانات والتجارة الرقمية وسوق التجزئة الإلكترونية ومحتوى الآراء والمنصات الإخبارية وسوق التطبيقات وغيرها".
باريس استغلت الفجوة
وبسبب سيطرة الشركات الأميركية الأربع على هذه القطاعات في أكثر من سوق وتحصيلها لإيرادات بمليارات الدولارات، اتّجهت فرنسا إلى فرض ضريبتها التي تنظر لها باريس على أنها عادلة باعتبار أن الشركات التكنولوجية العابرة للقارات، تستغل انتشارها بلغات وأسواق عدة لأخذ حصص من السوق الفرنسية، في وقت من الصعب نشوء شركات محلية منافسة أصغر.
واتخذت فرنسا إجراءاتها الضريبية بعد فشل الجهود الدولية في التوصل لاتفاق حول الضرائب المفروضة على الشركات متعددة الجنسيات، وبخاصة شركات التكنولوجيا.
وتجري الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مباحثات بشأن فرض ضريبة على هذه الشركات، لكن لم يتم التوصل إلى توافق في الآراء بعد أن رفضت أيرلندا وجمهورية التشيك والسويد وفنلندا المقترحات.
مشكلة ضريبية
ويقول جورج تيرنر، مدير Tax Watch UK، إن الخطوة الفرنسية "نشأت بسبب الإحباط من عدم وجود تحرّك على المستوى الدولي"، ويضيف "الجميع يقرّ بأن هناك مشكلة في تجنب ضرائب الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات، لكن فرنسا اتخذت الخطوة بمفردها الآن".
لكن تيريز حذر من أن "فرض ضريبة على الإيرادات، بدلاً من الأرباح الصافية (أي صافي الربح بعد خصم الإيرادات من المصروفات)، يمثّل مشكلة كبيرة لأن الشركات التي تتكبد خسارة ستظل مطالبة بدفعها".
ومن المعروف أن كثيرا من شركات التكنولوجيا تتكبد خسائر لفترات طويلة من حياتها، وفرض ضريبة على الإيرادات، يعني أنه سيفاقم الخسائر، وربما ينهي حياة الشركات.
ويفترض تيريز أن "الحل الأطول أجلاً هو في النظر في كيفية تخصيص حجم الأرباح لمختلف البلدان (التي تعمل فيها الشركات التكنولوجية)".
حالياً، تحوّل العديد من الشركات الكبيرة الأرباح إلى دول ذات ضرائب منخفضة، المعروفة بـ"الملاذات الضريبية"، لكي تتجنب مئات المليارات من الدولارات من الضرائب على الأرباح الصافية.
وقال تيرنر إن "جميع عائدات (غوغل) خارج الولايات المتحدة تذهب إلى برمودا، وهذا أمر سخيف بكل وضوح". وبرمودا هي ملاذ ضريبي.
واقترحت "Tax Watch" أيضاً بدائل مثل فرض ضرائب على تدفقات الأموال التي تسمح للشركات بتحويل الأرباح في جميع أنحاء العالم.