أكثر من 111 ألف دعوى قضائية راكمتها الأعوام السابقة أمام المحاكم النظامية في غزة وتنتظر الفصل فيها وفق القانون، الأمر الذي خلق ظاهرة جديدة في القطاع تسمى "اختناق القضايا".
وشكل تكدس نزاعات المتخاصمين لسنوات أمام المحاكم أزمة متنامية عاماً بعد عام، تضاف إلى سجلات الأزمات السياسية والاقتصادية التي يعيشها سكان غزة وعملت هذه المشكلة على زعزعة الثقة بالقضاء الفلسطيني.
"اختناق القضايا"
تتمثل ظاهرة "اختناق القضايا" في عدم تمكن قضاة غزة من الفصل في الدعاوى المرفوعة خلال جلسات المحاكم على مدى العام الفائت، والاضطرار إلى ترحيلها لسنوات أخرى وهو ما يعرف بـ"طول أمد التقاضي"، وتشمل هذه الظاهرة الخلافات النظامية والشرعية، مما أدى إلى ازدحام ملفات نزاعات المتخاصمين أمام الهيئات القضائية، وانعكس ذلك سلباً على المواطنين الذين فضلوا القانون على أخذ الحق باليد أو الحل بالطريقة العشائرية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتبع النظام القانوني في فلسطين السلطة القضائية وينقسم إلى القضاء النظامي الذي يختص بأحوال القانون وفق الدستور وما يصدر عن المجلس التشريعي، والقضاء الشرعي الذي يتعلق بالزواج والطلاق والميراث وفق أصول الدين الإسلامي، وأخيراً القضاء العسكري الذي ينظر في القضايا الأمنية لذا يتبع وزارة الداخلية وليس السلطة القضائية.
ووفقاً للمجلس الأعلى للقضاء في غزة، فإن المحاكم النظامية استقبلت خلال العام ما يزيد على 64 ألف دعوى قضائية وجزائية، وتمكن القضاة من الفصل في معظمها إلى جانب بت عدد من القضايا المدورة لتفادي زيادة عدد الملفات المرحلة إلى العام المقبل.
الحق في العدالة
بحسب بيانات مركز الإحصاء الفلسطيني (مؤسسة حكومية) فإن عدد القضايا المكدسة والمدورة منذ سنوات من دون الفصل فيها داخل المحاكم النظامية في غزة بلغ 111424 ملفاً منها نحو 44 ألف قضية عام 2021 وحده.
وخلق ترحيل الدعاوى القضائية عاماً بعد عام اعتقاداً لدى المراكز الحقوقية بأن هذا الأمر يعرقل الحق في الوصول إلى العدالة، ويعتبر الحقوقي سمير المناعمة الذي يعمل في مركز الميزان لحقوق الإنسان (مؤسسة تراقب الوضع القانوني والحقوقي في فلسطين) أن طول أمد التقاضي يخلق حالاً من عدم الثقة بين المواطنين والمحاكم.
ويقول إن جميع المؤشرات والمعطيات من منظور المحامين والمتقاضين تدلل على طول أمد التقاضي وهذا من شأنه أن يعرقل الحق في الوصول إلى العدالة، مبيناً أن ذلك قد يدفع المواطنين إلى تفضيل الحل العشائري عن الفصل القانوني الذي يعد ركيزة تحقيق العدالة في المجتمع.
أسباب عدة تقف وراء ظاهرة "اختناق القضايا" في غزة. يوضح مسؤول التواصل في السلطة القضائية المستشار إيهاب عرفات أن "المحاكم النظامية تتولى الفصل في المنازعات المدنية والتجارية والضريبية والجنائية وحتى النزاعات بين الحكومة والأفراد، وهذا يتسبب في وجود عدد ضخم من الملفات أمام القضاة".
ويضيف "لدينا 82 قاضياً فقط يسيرون أمور 2.3 مليون مواطن، وهو أمر مستحيل في دول عدة، فمن المفروض بحسب المعيار العالمي أن يكون هناك قاض لكل 5 آلاف فرد، وفي غزة هناك قاض واحد لكل 25 ألفاً".
يشرح عرفات أن القاضي عادة ينظر في خمس قضايا يومياً، بينما ينظر القاضي في غزة إلى أكثر من 35 قضية، معتبراً أن النقص في عدد القضاة سبب رئيس في طول الإجراءات.
قضاة نادرون ومحاكم قليلة
إلى جانب الـ82 قاضياً، هناك في الواقع 29 آخرين لكنهم يتبعون السلطة القضائية الفلسطينية في الضفة الغربية ولا يمارسون عملهم منذ عام 2007 في قطاع غزة، وهنا يشير عرفات إلى أن "ذلك أسهم في تكدس القضايا وعرقلة سير العدالة".
ويوضح عرفات "في غزة 13 محكمة فقط تقع عليها مسؤولية إنهاء جميع الدعاوى المرفوعة وهذا الأمر مستحيل، فبسبب الضغط وقلة المحاكم تعقد المحكمة العليا بثلاث صفات هي المحكمة الدستورية ومحكمة العدل العليا ومحكمة النقض".
من بين الأسباب الأخرى التي أدت إلى تكدس القضايا، ذكر مدير عام الشؤون القانونية في المجلس التشريعي المستشار أمجد الأغا أن القضاة ليسوا على المستوى نفسه من الفاعلية والخبرة والكفاءة، ما من شأنه زيادة أمد التقاضي.
معايير الكفاءة
ويقول الأغا "حين يتبوأ القضاة مناصبهم لدى محكمة الصلح أو محكمة البداية، فإنهم يبلون بلاء حسناً في إدارتهم للجلسة، بحيث تكون إدارتهم منهجية ويستطيعون حصر نقاط الخلاف بين المتخاصمين، لكن في حال نقل القاضي فإن الذي يأتي بعده يصعب عليه استكمال الملف ويعود من نقطة الصفر، لذلك تتراكم لديه القضايا".
ويلفت إلى أن "كثرة التأجيلات الإدارية الناتجة من عدم اكتمال النصاب في المحكمة، أو تغيب أحد المحامين بسبب التسويف والمماطلة يعد عاملاً مهماً في ترحيل الدعاوى القضائية إلى السنوات المقبلة"، مشيراً إلى أن القوانين في غزة قديمة وتحتاج إلى تعديلات حتى تسرع عملية الفصل في الدعاوى.
في نقابة المحامين يؤكد النقيب صافي الدحدوح ضعف كفاءة القضاة، مما يعرقل الوصول إلى العدالة الناجزة ويزيد من أمد التقاضي، لذلك يرى أنه يجب وضع خطة استراتيجية لتعيين القضاة أساسها الكفاءة المهنية.
لكن عرفات يرد على ذلك بأنهم يعملون على تأهيل القضاة بشكل مستمر من خلال تدريبهم وتطوير قدراتهم القانونية بالتعاون مع المعهد العالمي للقضاء الذي بات يشرف على دورات قانونية لزيادة أداء وتسريع عمل الجهاز القضائي في غزة.
وعلى صعيد ثقة المحامين والمواطنين بالقضاء، يرى النقيب الدحدوح أنها "ضعيفة جداً"، لكن الأغا يقول إن "هذه المسألة نسبية ولا يمكن التعميم فيها لأنها تعتمد على مدى الاستفادة من الأداء القضائي".