يسافر ذلك الكاردينال الأرجنتيني إلى روما خصيصاً ليطلب إذن بابا الفاتيكان له بالتقاعد، ليفاجئه الأخير بخططه الخاصة بالتنحي عن منصبه الأعلى في الكنيسة الكاثوليكية ورفضه قبول طلب الكاردينال، ويبدآ سوياً جلسة من النقاش اللاهوتي، حيث يتجادل الرجلان حول مستقبل الدين خلال القرن الحادي والعشرين، في مشاهد اتسمت بالود والحميمية بين قائدين يحملان أيديولوجيات مختلفة.
نقل لنا الكاتب أنتوني مكارتن في فيلمه الصادر عام 2019 "الباباوان" حواراً متخيلاً للقاء جمع البابا الراحل بنديكتوس السادس عشر، الذي ودع عالمنا يوم السبت 31 ديسمبر (كانون الأول)، وجسد شخصيته أنتوني هوبكينز، ورئيس أساقفة بوينس أيريس خورخي بيرغوليو، الذي سيصبح البابا فرنسيس الأول ولعب دوره جوناثان برايس.
يجمع الرجلين نقاش حول الإصلاح والتجديد في الكنيسة، الحوار في بعض الأحيان بدا سجالاً وفي معظمه كان ودياً، لكنه تعامل مع مناقشات واقعية تتجاوز كثيراً محيط الفاتيكان، حيث تمس قرارات الكنيسة في شأن قضايا مثل الزواج ودور المرأة والعزوبة بين الكهنة حياة أكثر من مليار كاثوليكي في عالم متغير لا يمكن قياسه اليوم بما كانت عليه قوانين الكنيسة قبل عقود طويلة مضت.
تم تصوير بيرغوليو أو البابا فرنسيس، على أنه رجل تقدمي ربما ثائر قوي الإرادة يركز في العمل على مشاريع للفقراء أكثر من المشاركة في طقوس الفاتيكان البروتوكولية، وعلى الجانب الآخر ظهر البابا بنديكتوس كزعيم ديني صارم يرى أن العودة إلى المبادئ هي أفضل مسار للكنيسة التي تكافح مع قضايا القرن الـ21.
يوزيف راتزينغر الإصلاحي
في نهاية المطاف، فاجأ البابا بنديكتوس الكاثوليك حول العالم، بل ومؤسسات العالم الديني والسياسي بإعلان قرار تنحيه من منصبه في فبراير (شباط) عام 2013، في حدث وصفه البعض بالفلكي الذي لا يشهده العالم سوى مرة كل مئات السنين، إذ كانت استقالة البابا السابق هي الأولى من نوعها في الكرسي الرسولي منذ عام 1415، ليتولى بالفعل المنصب ذلك الزعيم الثوري أو الإصلاحي مثلما يصفه كثيرون.
فهل أراد بنديكتوس السادس عشر برحيله المبكر عن السدة البطرسية فتح الآفاق نحو تغيير جاد في الكنيسة؟ وهل كان وجوده يعني الجمود؟
ولد يوزيف راتزينغر (اسم البابا بنديكتوس قبل تقلد المنصب الكهنوتي) بألمانيا عام 1927، وكان طفلاً عندما استولى النازيون على السلطة في 1933، وفي سن الرابعة عشرة أجبر على الانضمام إلى جيش هتلر، على رغم أن عائلته كانت معارضة للنظام الفاشي.
بعد سنوات قليلة، أصبح راتزينغر أكاديمياً كاثوليكياً لعقود، حيث درّس العقيدة واللاهوت وكتابة المسارات اللاهوتية، وعمل مساعداً خبيراً في مجلس الفاتيكان الثاني في منتصف الستينيات، وعلى رغم أنه كان معروفاً بالتقدمي إلا أنه أصبح أكثر تحفظاً مع تقدمه في العمر.
وفي عام 1977، أصبح راتزينغر رئيس أساقفة ميونيخ وفريسينغ، وفي 1981 أصبح مراقباً لاهوتياً للفاتيكان تحت حكم البابا يوحنا بولس الثاني، حيث خدم لأكثر من عقدين وأصبح معروفاً بمواقفه الصارمة وذكائه، وفق موقع "فاتيكان نيوز"، فإن راتزينغر الشاب كان يحظى باحترام كعالم لاهوت يميل نحو الجناح الإصلاحي، ودعم الإصلاح الليتورجي.
وفي حديثه لـ"اندبندنت عربية"، قال الأب كيران هارنغينتون، المدير الوطني للجمعيات الرسولية البابوية في الولايات المتحدة، إن البابا بنديكتوس كان مهتماً بالإصلاح الجذري، الذي يتجاوز المؤسسات كثيراً، إذ بدا أكثر اهتماماً بأولئك الذين يسكنون المؤسسات نحو تغيير حياة الإنسان، وكان معنياً كثيراً بالحديث عن "حاجتنا كبشر للتوبة، وإصلاح حياة المرء".
الإصلاح الصامت
لكن على صعيد المؤسسة، يتحدث كثيرون عن تغير مواقف الفاتيكان حيال عديد من القضايا الشائكة منذ تولي البابا الحالي فرنسيس الأول الكرسي الرسولي، ليس أقلها موقفه من المثليين مدافعاً عن حق الأشخاص المثليين في تكوين أسرة، إذ يرفض فرنسيس طرد شخص من الكنيسة بسبب ميوله الجنسية، بل دعا إلى "صياغة قانون شراكة مدنية" يمنح المثليين الغطاء القانوني، وهو موقف يتناقض تماماً مع ما يؤمن به سلفه الراحل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد أطلق البابا الحالي قبل عام، حملة تستغرق عامين لمشاورات شاملة حول إصلاح الكنيسة الكاثوليكية في شأن مسائل تتعلق بالنساء والعاملين الرعويين وأعضاء الهيئات الاستشارية، وهو المسار الذي يأمل البعض أن يؤدي إلى تغيير على صعيد بعض القضايا، مثل رسامة المرأة (تعيينها قسيسة)، والقساوسة المتزوجين.
في حين يتحدث البابا فرنسيس علانية عن الإصلاح ويتخذ خطوات على أرض الواقع، فإن مراقبين يشيرون إلى أن سلفه الراحل لم يكن ذلك المنغلق أو الراديكالي مثلما أراد البعض تصويره، بل قام بإصلاح صامت.
ففي كتابه الصادر عام 2015 "بينيتو السادس عشر: أون بابا توتالي"، قال الصحافي الإيطالي ماركو مانشيني، إنه بينما اشتهر البابا الراحل باستقالته المفاجئة، فإن إرثه الحقيقي بدأ قبل ذلك كثيراً، مشيراً إلى أنه خلال ثماني سنوات من حبريته واجه كل القضايا وحالات الطوارئ التي عاشتها الكنيسة.
يقدم مانشيني نظرة عامة موجزة عن كيف أن بنديكتوس السادس عشر حارب ضد كثير من الفساد في الكنيسة والمجتمع، مثل الاستغلال الجنسي للأطفال، وزيادة العداء العالمي تجاه المسيحيين، وقضية التسريبات "فاتيليكس" الخاصة بكشف مخالفات مالية، والأزمة الاقتصادية.
كما سلط الضوء على الجهود العديدة التي بذلها البابا الراحل لصالح الحوار المسكوني، لا سيما مع الكنائس الأرثوذكسية والإنجيلية، إضافة إلى تأكيده على الاهتمام بالبيئة وتعزيز التنمية المستدامة وممارسات الأعمال.
وأشار مانشيني إلى أن بنديكتوس هو الشخص الذي بدأ العملية الحالية للإصلاح و"التنظيف" في الداخل، التي واصلها البابا فرنسيس، لا سيما في ما يتعلق بالمسائل المالية وتبسيط عملية فسخ الزواج والحوار مع المجتمع المسلم.
وقال الكاتب "الشفافية المالية والاستغلال الجنسي للأطفال هما ركيزتان أساسيتان في عملية الإصلاح التي أسسها بنديكتوس في الكنيسة، لقد بدأها".
وأضاف "لحسن الحظ، دفع خليفته عملية الإصلاح هذه إلى الأمام"، مشيراً إلى أنه أثناء عودته من جولة شملت دولاً عدة في أفريقيا في نوفمبر (تشرين الثاني)، قال البابا فرنسيس نفسه، إن بنديكتوس هو من بدأ الإصلاح ورفض الفساد داخل الكنيسة.
وذهب البابا بنديكتوس إلى حد القول، إن أخطر اضطهاد للكنيسة لا يأتي من أعداء خارجيين، بل من الخطيئة المرتكبة داخلها، ويشير مراقبون إلى إصلاح مهم آخر يتعلق بالشؤون المالية، إذ كان البابا الراحل هو الذي أدخل تشريعات مكافحة غسل الأموال في الفاتيكان.
وفي تعليقات سابقة لوكالة الأنباء القبرصية، أشار مانشيني إلى أنه بينما فعل بنديكتوس كثيراً في ما يتعلق ببدء عملية الإصلاح الحالية، لم يكن الأمر سهلاً، إذ واجه أيضاً مقاومة، كما هي حال فرنسيس اليوم.
وفي تعليقات صحافية سابقة، قال السكرتير الشخصي السابق للبابا الراحل، جورج غانسوين، ويشغل منصب رئيس أساقفة أوربس، إن "الإصلاح الصامت" الذي نفذه البابا يتمحور حول الطريقة التي أرشد بها الكنيسة وحكمها "بوضوح، لكن قبل كل شيء من خلال لاهوته".
وأضاف أن إرث بنديكتوس السادس عشر "لم يكتشف بعد"، لكن هذا الإرث المهم الذي يمكننا رؤيته الآن هو "الشهادة الشخصية واللاهوتية لرجل لاهوتي عظيم، قام بممارسة اللاهوت بطريقة متواضعة للغاية".
محاسبة التسلسل الهرمي الأكبر
بين جدلية الإصلاح الصامت والحاجة لاتخاذ قرارات علنية واضحة، ربما تكون استقالة بنديكتوس المحافظ قبل نحو 10 سنوات، محاولة لتسليم الأمر لشخص ثوري قادر على مواجهة الصخب.
ويقول الكاتب الأميركي أليخاندرو دي لا غارزا، إن قيادة البابا بنديكتوس واجهت اختبارات عدة، فمن اتهامات الاعتداء الجنسي على الأطفال التي تورط فيها عدد من الكهنة وحتى تسريبات الفاتيكان في شأن مخالفات مالية، كانت التحديات صعبة.
وفي حين واجه البابا الراحل اتهامات بالتقصير في التعامل مع هذه الفضائح، لكن يشير لا غارزا إلى أن بنديكتوس تحدث ضد سوء السلوك مراراً وتكراراً، وأمر بإجراء تحقيقات وأصدر قواعد جديدة في عام 2010 لتسهيل تأديب الكهنة المتورطين.
ومع ذلك، فإن عدم رغبته النسبية في محاسبة التسلسل الهرمي الكاثوليكي الأكبر، دفع كثيرين إلى الاعتقاد أنه لم يذهب بعيداً بما يكفي لاجتثاث هذا الخطر.