هل جربت يوماً ما أن تغمض عينيك وتنتقل من غرفة لأخرى إلا وتعثرت؟ هل جربت أن تلمس وجوه من تحب لتشعر بتفاصيلها عن قرب؟ هل ذهبت يوماً ما إلى حديقة وأغمضت عينيك واستمتعت فقط برائحة الزهور وزقزقة العصافير من دون معرفة ألوانها وشكلها؟ هل حاولت قطع الشارع من دون حاسة البصر؟
نعم هناك من جرّب، إنهم المكفوفون أبناء النور في حلكة الظلام، فهل صادفت أحدهم سابقاً أو لاحظت وجودهم؟ فإن عبروا أمامك مرة ربما تشفق عليهم للحظة، وإن حصل وسألك أحد عنهم تنكر أنك تعرف أحداً أو رأيته، فذاكرتك لم تسجل وجودهم.
فبينما يشتكي العالم حاجته الملحة للوقود بهدف التشغيل والإنارة، يسعى المكفوفون في الأرض لإتمام مهامهم اليومية على أكمل وجه تقريباً، وفي كل الظروف بما فيها في بلد كسوريا عاش زمن حرب جعل متطلبات الحياة فيه شاقة أكثر على المبصر فكيف بالمكفوف، الذي ربما من النعم عليه أنه عاش هذه الحرب من دون أن يرى الدمار والدماء.
من الظلام لنور العلم
لم يكن وسام يريد إتمام صفوفه الدراسية قبل بداية الحرب في سوريا، فالتحق بالجيش ومارس مهامه فيه خلال السنوات الماضية إلى أن أصيب وفقد بصره، وبعد فترة من إصابته التي أطفأت نور عينيه، إلا أنها حثته على السعي لإضاءة نور العلم في حياته.
فقد تواصل مع "مبادرة ضوء" وهي إحدى المبادرات التي تعنى بتوصيل العلم للمكفوفين في سوريا وطلب إتمام تعليمه، بخاصة أنه لم يتمم الصف السادس الابتدائي، فعملت المبادرة على سبر معلوماته بالتعاون مع جهات تعليمية رسمية، وقدم امتحان الصف السادس ونجح فيه، وبهذا استحق الانتقال لتقديم امتحان الصف التاسع وكذلك نجح فيه، وبناء عليه انتقل إلى الدراسة لتقديم امتحان البكالوريا ونجح أيضاً.
أما محمد جطل وهو طالب مكفوف في كلية الحقوق بجامعة حلب، فقد تعرض في منتصف سنته الدراسية الأخيرة لحادث أثناء تنقله بوسائل النقل العامة، وعلقت قدمه بمكان ما في الحافلة أثناء ترجله منها، فسقط وارتطم رأسه بالرصيف ما أفقده ذاكرته لمدة ليست بقصيرة، ولكن عندما استعادها في السنة ذاتها عاد لدراسته وقدم 13 مادة في الفصل الأخير ونجح بها كلها.
نظرة المجتمع مصابة بالعمى
ويعاني المكفوفون في سوريا من تهميش يصل أحياناً حدّ التنمر المؤذي، فرؤية مكفوف في الشارع أو مصادفته في مكان ما أو الإنصات لكلام يتحدث عنه، كمن رأى أو سمع شخصية موجودة فقط في القصص والروايات، ويعاب على جزء من المجتمع عدم معرفته بوجودهم والأهم التعامل معهم بطريقة لبقة وتقدمة المساعدة لهم، وهذا ما عبرت عنه بشرى سعد وهي مهندسة طاقة كهربائية، وكانت تعمل في متحف مدينة اللاذقية عندما أصبحت مكفوفة بعمر 45 سنة، وقالت سعد "أتمنى أن يأخذ الكفيف حقه في المجتمع ويعامل بطريقة أفضل، فغالبية الناس لديها تصور مسبق عن الكفيف أنه فاقد القدرة على الحياة أو فعل أي شيء، والأهم أن هناك نظرة توصمه بالخلل العقلي وأنه غير قادر على المحاكمة العقلية".
وفي سياق متصل، قال عبد الرحمن البلدي وهو مكفوف ومدرس في مدرسة للمكفوفين بضاحية قدسيا في دمشق "ولدت ومعي مرض وراثي وإخوتي الثلاثة ايضاً، وهو اعتلال الشبكية الصباغي، وطبيعة هذا المرض أن العين تأتي بدرجة حدة بصر عالية، ومع العمر تصاب بالتلف ولا تستطيع تجديد ذاتها، لذلك، ففي عمر الثامنة عشر، فقدت بصري إلا بعض الخيالات التي أحاول جاهداً رؤيتها". وأضاف "نظرة المجتمع وبخاصة في المناطق الريفية كان أصعب عليها تفهم حالة شخص كفيف، ففي الريف يكثر التنمر على الكفيف، وقد كان لدي صديق مقرب ينتفض ليدافع عني عندما أتعرض لبعض المضايقات، في وقت كنت أميل لعدم افتعال المشاكل والاحتكام إلى المناقشة العقلية، ولكن في مرات نادرة كنت أضطر خوض عراك لأدافع عن نفسي".
ضوء ينير درب المكفوف العلمي
هذا على صعيد الحياة الاجتماعية، أما على الصعيدين العلمي والعملي، فيظهر أن الوضع أكثر صعوبة لولا بعض المبادرات التي تعمل على المساهمة في مساعدة الكفيف على تحصيله العلمي الذي يساعده في إدماجه بالمجتمع والعمل والاعتماد على نفسه، ومن أكثر المبادرات التي تركت بصمة واضحة وتأثيراً كبيراً على مجتمع المكفوفين وذويهم كانت "مبادرة ضوء" التي أسستها فتاتان سوريتان استطاعتا ملاحظة أن الجهود التي تبذل لمساعدة المكفوفين ينقصها ما سموه "جودة المخرجات" والاستمرارية في العمل. وقالت هيا عقاد، وهي إحدى المؤسسات المبادرة "رؤيتنا دعم المكفوفين وضعاف البصر في متابعة تعليمهم المدرسي والجامعي والدراسات العليا، من خلال تقديم مجموعة من الخدمات أهمها التسجيل الصوتي للمحتوى العلمي، وإعداد المحتوى وتهيئته لطباعته بطريقة برايل، كما سعينا لتوفير أرشيف صوتي ذي جودة عالية مرفوع على الإنترنت، مجاني ومتاح للجميع يشمل تسجيلات الكتب المدرسية والجامعية والمراجع المطلوبة لتسهيل الدراسة لجميع المكفوفين المتابعين لتحصيلهم العلمي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبدأت المبادرة عام 2019 بملاحظة أنه لم يكن للطالب الكفيف كتاب مخصص له في المنهاج السوري للتعليم، فكان الأهل يضطرون دائماً لمرافقة أبنائهم بالتسجيل والكتابة. وتابعت عقاد "لكن ليس كل الأهل على المستوى العلمي نفسه، فهناك أهل غير متعلمين أو لم يتخطوا إلا مراحل متوسطة في الدراسة، لذلك قمنا باستقطاب المتطوعين، وفي ما بعد، يطلب منهم اجتياز اختبار صوتي بأن يقرأوا مقطعاً محدداً للتأكد من سلامة القراءة والتشكيل ومخارج الحروف، إضافة إلى الطلب من المتطوع أن تكون لديه قدرة على صنع مونتاج للمقطع المسجل لتسريع العمل على المحتوى وتأمينه للمكفوفين".
طريقة "برايل" بين الحاجة والندرة
وقالت المتطوعة شذى نجيب، عن هذا العمل، وهي طالبة ماجستير في "الجامعة الافتراضية السورية"، "على رغم أن لدي عملاً من الصباح حتى العصر، إضافة لدراستي التي تحتاج وقتاً وتركيزاً، إلا أنني شعرت بسعادة كبيرة عندما ساهمت بتمرير العلم لشخص آخر، فالأمر يحتاج منا فقط بعض الجهد لنساعد شخصاً آخر لديه إعاقة ما ليشعر بأنه يستطيع أن يقوم بمهامه بطريقة سهلة ومتاحة"، وتابعت "التحقت بفريق تفريغ المحتوى الذي يعمل على المواءمة عبر أخذ الكتاب المخصص للطالب السوري المبصر في المنهاج الرسمي على أن تحوّل أي فكرة إلى نواة يستطيع أن يفهمها الطالب الكفيف، وهي المرحلة التي تسبق الكتابة بطريقة البرايل مع مراعاة أن هذه الكتابة لها أصول معينة".
ويعاني المكفوفون في سوريا من ندرة الكتب المطبوعة بطريقة "البرايل"، وهذا ما يؤخر كثيرين من المكفوفين الذين يسعون لأن يكونوا فاعلين ومنتجين في المجتمع، وهو ما تسعى له "مبادرة ضوء" بالتعاون مع جهات رسمية وعلمية عدة في سوريا وعلى رأسها "الجامعة الافتراضية السورية" التي أعطت مساحة من موقعها الإلكتروني للمبادرة، وكذلك "معهد التربية الخاصة للمكفوفين" في دمشق وغيرهما.
إنجازات وغياب الدعم
وعلى رغم قلة الدعم، إلا أن إنجازات هؤلاء الأشخاص أكثر من أن تحصى، فقد عمدت المهندسة بشرى إلى تقديم دورات للمكفوفين عبر تطبيق "واتساب"، أما عبد الرحمن فقد تخرّج من قسم التاريخ في "جامعة دمشق" بدرجة تفوّق، واستطاعت لينا شوبك أن تصنع سلال القش بطريقة متقنة ومميزة، كما أنها تعمل موظفة مقسّم بمستشفى الجامعة في حلب وتقوم بتحويل المكالمات لمختلف المقاسم في المستشفى، واللافت أن شوبك حافظة أكثر من 1000 رقم، لذلك لا يستطيعون الاستغناء عنها في المستشفى لموهبتها وسرعتها في إتمام مهامها.
ومن الأشخاص الذين يصنعون فارقاً في الحياة اليومية فتاة تدعى زهراء سلو تقوم بالمهام اليومية في المنزل من تنظيف وطبخ، وهي طالبة شريعة متفوقة في السنة الرابعة في "جامعة حلب"، وأتمت حفظ جزء كبير من القرآن الكريم. أما آية خليل، فقد حصلت السنة الماضية على درجة الماجستير في الدراسات اللغوية بتقدير ممتاز من "جامعة حلب" أيضاً.
التكنولوجيا عين المكفوف
لقد ساهمت التكنولوجيا في تسهيل وتيسير حياة المكفوف بطريقة ملحوظة وملموسة، ومن تلك الأدوات الهاتف المحمول أو الذكي وبعض تطبيقاته، ويعتمد الكفيف في استخدام الهاتف الذكي على لمس الشاشة وسماع كل ما يلمسه عليها، عن طريق خاصية قارئ الشاشة المتوفر في الهواتف والأجهزة اللوحية الذكية، وهي خدمة مدمجة تأتي مع نظام التشغيل، تقوم بتوجيه فاقدي البصر عند استخدامهم الجهاز ونطق ما يُلمس على الشاشة.
والخدمة تتمثل بقارئ الشاشة الناطق "Voice over" لأجهزة Apple وTalkBack لأجهزةAndroid ، وتدعى هذه التقنيات بـ "إمكانية الوصول Accessibility، وهناك تقصير كبير عند مطوري التطبيقات العرب في دعم تصميم التطبيقات لتتلاءم مع التقنية. ولولا هذه الخاصية وغيرها لما كانت المهندسة بشرى قادرة على أداء مهامها وعملها، فعندما نصحها بها أحد المكفوفين شعرت أنها عادت للحياة مرة أخرى.
وفي هذا السياق، قال عبد الرحمن، "الموبايل هو حياة المكفوف، لا نستطيع أن نقوم بأي شيء من دونه، وكلما كان حديثاً كلما كان أفضل للمكفوف، وقد قمت بشراء الصوت الناطق باللغة العربية، كما أن تطبيق فيسبوك لديه ميزة لدعم المكفوفين أستخدمها لتقرأ لي المنشورات، والأهم أنها تقرأ في بعض الأحيان الصور، وتقول ربما تحتوي الصورة على فلان".
وكان تطبيق "فيسبوك" أعلن، عام 2016، عن إطلاق ميزة "النص البديل التلقائي" التي تعتمد على تقنية الذكاء الصناعي لإنشاء وصف لكل صورة تنشر عبر الشبكة الاجتماعية، وذلك بغية مساعدة تطبيقات "قراءة الشاشة" التي يستعملها المكفوفون لقراءة محتوى الصور الظاهرة على الشاشة.
كما أن "تويتر" سبق "فيسبوك" في هذا المجال، وأعلن أنه أصبح بإمكان مستخدمي تطبيقه على نظامي "أندرويد" و"آي أو إس" إضافة وصف إلى الصور التي يرفعونها إلى الخدمة، بغية الوصول إلى جمهور أكبر بمن فيهم أولئك الذين يعانون من ضعف البصر.