تقول الأسطورة اليونانية، إن البشر في بداية الخلق لم يكونوا منقسمين إلى ذكر وأنثى، ولأنهم كانوا بالغي القوة، فقد تحدوا الآلهة القديمة، لهذا قرر زيوس أن يصيبهم جميعاً بالضعف، فقسم كل واحد منهم إلى جزئين (رجل وامرأة) ... ومن ذلك الحين واصل كل طرف منهما البحث عن شريكه أو نصفه الآخر كي يكتمل.
في معرضه القاهري الذي يستضيفه غاليري آزاد تحت عنوان "حين لقاء" يعيد الفنان المصري طاهر حمودة صوغ هذه العلاقة بين الطرفين مدفوعاً بشعوره ورؤيته لهذه الأسطورة، وفي هذه الأعمال يلفت الفنان أنظارنا كذلك إلى أن هذه العلاقة التكاملية بين الرجل والمرأة تبدو على نحو ما انعكاساً للمعادلة الكونية الأكبر، هذه المعادلة التي يتشاطر عناصرها دائماً طرفان متقابلان، فهنا الأرض والسماء، والشمس والقمر، والبحر واليابسة، والمادة ونقيضها.. كأن توازن الكون واكتماله مرهون دائماً بحضور طرفين متقابلين ومتمايزين كي يكمل كل منهما الآخر.
في هذا المعرض المستمر حتى السادس من يناير (كانون الثاني) المقبل يتخذ الفنان من هذه الرؤية دافعاً للبناء البصري، فهو هنا يعتمد على طرفي الحضور الإنساني ليحلق نحو رؤية أكثر شمولاً. ولعل هذه الطبيعة الصرحية المقصودة التي يتسم بها أسلوبه في تشكيل عناصره تؤكد على هذا المنحى، هنا تختزل العناصر في جسدين مهيبين يتخذان من مركز اللوحة بداية لطوافهما في أرجاء المساحة، وهما مصحوبان دائماً بغلالة من الجلال تحيط بالمشهد.
مختصر وجودي
في هذه الأعمال يختزل الفنان الوجود بأكمله في جسدي الرجل والمرأة، كما يختزل مفرداته وتأثيراته اللونية قدر الإمكان، محتفظاً بهذا البناء الشامخ للعناصر في لوحاته، وهو بناء راسخ وممتد وسط فراغ لا نهائي، هي تكوينات صريحة ومستقرة تستعير من النحت ثقل الكتلة ورسوخها ومن التصوير رهافة اللون وشفافيته.
المشهد التصويري في أعمال الفنان طاهر حمودة مسكون بالحركة الداخلية للعناصر وهي حركة هادئة، على رغم هذا الانفعال البادي على تفاصيل المفردات، تلعب الأجواء الليلية المخيمة على المشهد دوراً في تأكيد هذا الهدوء المخيم، يدعمها توظيفه للدرجات اللونية التي تتدفق بانسياب وعذوبة، تتأكد الأجواء الليلية هنا بحضور القمر وضوئه الفضي المخيم على التفاصيل كافة، فهو حاضر على نحو مباشر كدائرة مضيئة معلقة في فراغ اللوحة، تتحرك دائرة القمر كغيرها من المفردات الأخرى التي يوظفها الفنان لضبط التوازن البصري للتكوين، غير أن حضوره لا يقتصر فقط على ضبط الإيقاع البصري للتكوين الرئيس، فالقمر هنا مصدر للضوء ومسوغ كذلك للأجواء الليلية المسيطرة على المشهد، وهو باعث صريح ومقبول لهذا التوظيف اللافت لدرجات اللون المشرقة والصافية، يمكننا القول إن القمر يخيم بظلاله على العناصر كافة بحضوره المباشر أو غير المباشر أحياناً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الفنان طاهر حمودة يستهل بهذا المعرض مرحلة جديدة من ممارسته التصويرية الحية، هذه الممارسة التي تتشكل معالمها مع الوقت في تمهل لافت.
وتمثل الأعمال المعروضة هنا جانباً من تأملاته الشخصية المدفوعة بالرغبة في الاكتشاف، وفي هذه الأعمال يعيد الفنان طرح عناصر سابقة مضيفاً إليها أو منحياً لبعضها، ومحتفظاً في الوقت نفسه بهذه الأجواء الحالمة والأسطورية التي ميزت أعماله السابقة.
تخرج الفنان طاهر حمودة في قسم الـ"غرافيك" في كلية الفنون الجميلة، جامعة الإسكندرية عام 2009 ، وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراه، وهو يعمل حالياً في تدريس مادة الـ"غرافيك" في الكلية نفسها.