لا أحد من عشاق السينما ينسى الفيلم الأميركي "صوت الموسيقى"، الذي أخرجه وأنتجه روبرت وايز، عام 1965، بطولة جولي آندروز وكريستوفر بلامر، ورشح لعشر جوائز أوسكار حصل على خمس منها.
الفيلم مبني أساساً على مسرحية غنائية تحمل الاسم نفسه، أما القصة فهي مبنية على كتاب السيرة الذاتية للكاتبة النمساوية ماريا فون تراب (1987-1905)، ويروي قصة الراهبة النمساوية التي تركت الدير لتصبح مربية لسبعة أطفال والدهم ضابط بحري أرمل، يعامل أطفاله بقسوة وصرامة، ولا يسمح لأحد منهم بعصيان الأوامر، محولاً بيته إلى ثكنة عسكرية، حتى تأتي هذه المربية فتقلب الأمور على عاقبها.
وإذا كانت فرقة "ثلاثي أضواء المسرح" قدمت هذه المسرحية عام 1971 بشكل كوميدي من بطولة سمير غانم وصفاء أبو السعود وجورج سيدهم وعدد من الأطفال، فإن المخرج شادي سرور عاد لتقديمها، بنص مختلف نسبياً، مع طلاب جامعة عين شمس، وبطريقة غنائية استعراضية، لا تخلو بالطبع من الكوميديا، لكنها الكوميديا الخفيفة، التي تتوارى خلف الأداء الغنائي والاستعراضي للممثلين.
اختيار صعب
اختيار الشكل الغنائي الاستعراضي لعرض يقوم به طلاب جامعة، كان صعباً بالتأكيد، بخاصة أننا أمام هواة لا محترفين يمكنهم بسهولة أداء هذا النوع من المسرح، لكنّ خبرات المخرج مكنته من الخروج سالماً بالعرض، حيث أمضى وقتاً طويلاً في تدريب الطلاب مستعيناً بفريق عمل جيد. الموسيقى وضعها ملحن صاحب خبرة في العمل المسرحي هو أحمد الناصر، أما الكتابة والأشعار فكانت لطارق علي، الذي أعاد صياغة النص الأصلي وأدخل عليه بعض التعديلات الطفيفة ليأتي في نكهة مصرية، وفي روح شبابية. في الديكور أحمد حبيب، والأداء الحركي عبد الرحمن بودا، والأزياء خلود أبو العينين، والإضاءة محمود حسين.
حملت المسرحية اسم "كتيبة نغم"، فبيت هذا الضابط البحري تحول إلى ما يشبه الكتيبة العسكرية، كل شيء فيه صارم وبحساب دقيق، حتى الملابس موحدة، ولا مجال لعصيان الأوامر. هذا في وجود الأب، أما في غيابه فكل يفعل ما بدا له، حتى تأتي تلك المربية نغم، التي تصادف أنها ابنة موسيقي راحل وتعشق الموسيقى وتجيد عزفها. تُواجه في البداية برفض الأولاد لها ومحاولاتهم المستمرة إخراجها من البيت، لكنها تبدأ في التقرب إليهم والتعرف إلى مشكلاتهم، وتسعى لتوظيف طاقاتهم المهدرة، وتعليمهم العزف والغناء، ليتحول البيت كله إلى "كتيبة نغم"، نسبة إلى اسمها، بديلاً من تلك الكتيبة العسكرية التي أنشأها الأب. كل ذلك من دون علم رب البيت، وعندما يعلم يرفض الأمر تماماً، إلا أن المربية تواصل عملها بعد أن تآلف معها الأطفال واعتبروها أماً بديلة، وبدأ الأب هو الآخر يميل ناحيتها، وفي النهاية يشاركون في مسابقة غنائية لكنهم لا يحققون الفوز.
الرحلة أهم
أنقذ كاتب النص والأشعار طارق علي، العرض من الوقوع في فخ السهولة، وكسر أفق توقع المشاهدين، بعدم فوز هذه الكتيبة في المسابقة الغنائية، هو أراد القول إن عدم الفوز ليس نهاية المطاف. وهو ما أوضحته أغنية النهاية، وأن المحاولة، أو بمعنى أدق الرحلة، في حد ذاتها هي الأهم. وقد أحدثت تغيراً كبيراً، ليس في سلوك الأولاد فحسب، وإنما أيضاً في طريقة تفكير الأب وكيفية الإصغاء إلى مطالب أبنائه الطبيعية.
وفضلاً عن رسالة العرض الاجتماعية البسيطة، فإن أهم ما يلفت النظر فيه هو الوسائل الجمالية الناعمة التي تم بها توصيل هذه الرسالة، من ديكور وموسيقى واستعراض وغناء وأداء تمثيلي. تضافرت كل هذه العناصر معاً، لتقديم مسرح درامي غنائي، ندر تقديمه، لكلفته المالية العالية من ناحية، ولعدم توافر عناصر يمكن أن تشكل معاً فريقاً متكاملاً يستطيع أن ينهض بعرض كهذا.
في أغلب عروض المسرح الغنائي، على الأقل في منطقتنا العربية، تكون الحبكة بسيطة وكذلك الرسالة. فلا خطوط فرعية أو متشابكة، ولا أسئلة عميقة. وإذا كان المسرح الغنائي، في أوروبا وأميركا، شهد تطورات مذهلة على مستوى الشكل، وكذلك القضايا المطروحة، ومنها السياسي والديني والفلسفي، وأصبحت هناك عناصر إبهار غير مسبوقة، كأن نشاهد معارك في البحر، أو طائرات تحلق في سماء المسرح، وغيرها من عناصر الإبهار، فإن الكلفة المالية التي قد تصل أحياناً إلى عشرين مليون دولار لإنتاج عرض واحد من هذه النوعية، تجعلنا نعذر مسرحيينا إذا هم اكتفوا بأدواتهم البسيطة وإمكاناتهم المادية المحدودة، باستعادة شكل مسرحي كاد يغيب تماماً.
متعة بصرية
في "كتيبة نغم" ليست استعادة هذا الشكل فقط هي المحمودة، فالعرض يكتسب أهميته من قدرته على الإمتاع البصري والتسلية، وتقديمه رسالة اجتماعية، تتعلق بأساليب التربية وطرق تعامل الآباء مع الأبناء. فضلاً عن رسالة أخرى تتعلق بدور الفن وأهميته في تشكيل شخصية الشباب. وهي هنا تناسب مجتمع الطلاب تماماً، أي تعرف طبيعة المشاهدين الذين تتوجه إليهم وتخاطبهم بما يناسبهم. صحيح هناك بعض الهفوات الدرامية، بخاصة في التحول الذي يطرأ على شخصية الأب، والذي لم يتم التمهيد له بشكل يبرر هذا التحول، لكنها هفوات بسيطة لا تؤثر في بنية العرض الكلية التي جاءت متماسكة ومنضبطة الإيقاع.
ديكور العرض (صممه أحمد حبيب) عبارة عن بهو منزل، وفي العمق درجات سلم تؤدي إلى مستوى أعلى يمثل حجرات الأطفال، وتم توظيف هذه الدرجات باعتبارها السلم الموسيقي. وكذلك توزيع الكتل على خشبة المسرح بشكل جيد يسمح بحرية الحركة للممثلين. وقد شكل الديكور مع الإضاءة (صممها محمود حسين) عنصراً مهماً من عناصر الصورة المسرحية أضفت الكثير من البهجة على العرض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الممثلون الذين استعان بهم المخرج أغلبهم يقف على خشبة المسرح للمرة الأولى، وبعضهم له تجارب عدة سابقة، لكنهم جميعاً شكلوا فريق عمل متفاهماً، استوعبوا طبيعة العرض الغنائية الاستعراضية، وطبيعة الشخصيات كذلك، وأتقنوا فكرة الحوار المنغم، والأداء الغنائي الحي.
هذا العرض الذي قدمه ممثلون هواة على مسرح الطليعة في وسط القاهرة، بعد أن نال جائزة أفضل عرض غنائي استعراضي في مسابقة "إبداع" لشباب الجامعات، يبشر بعودة المسرح الغنائي، حتى في شكله البسيط، بقوة. ويؤكد أن بإمكان هذا النوع من المسرح تقديم عروض ناجحة وجماهيرية بكلفة مادية معقولة، ليبطل إحجام صناع المسرح المحترفين الذين يبتعدون عن تقديمه بحجة حاجته إلى ميزانيات إنتاجية ضخمة. أما عناصر الإبهار التي يقدمها المسرح الأميركي والأوروبي، فلا طاقة لنا بها، الآن على الأقل، وكل ميسر لما خلق له.