بات عدد لا يستهان به من العائلات الجزائرية لا يجد فوق مائدته طبقاً من أحد أنواع السمك الذي لم يعد في متناول كثيرين، بخاصة الطبقات ذات الدخل الضعيف، بما فيها الطبقة المتوسطة، حيث يتراوح ثمن السردين أحياناً بين 800 وألف دينار (أربعة إلى خمسة دولارات) للكيلو غرام الواحد.
ويرسم موسى صورة درامية عن استهلاك الجزائريين للسمك والمنتجات البحرية بسبب غلاء الأسعار التي تجعل هذه المنتجات تغيب عن قائمة غذاء السواد الأعظم من المواطنين.
يقول موسى الموظف في القطاع الخاص لـ"اندبندنت عربية"، "لا نتناول كثيراً المنتجات البحرية بسبب غلاء أسعارها على الرغم من وفرة الثروة السمكية التي تزخر بها بلادنا وطول سواحلها التي تمتد لأزيد من 1200 كيلومتر".
ويضيف المتحدث، "في العادة، نتناول نوعاً واحداً من السمك وهو (السردين) مرة أو مرتين في الشهر فقط، كما نتناول نوعاً آخر وهو سمك التونة وذلك أثناء موسم الصيد حيث يكون بوفرة وثمنه مقبول نسبياً".
ويقول زميله عزوز صالح "عاداتنا في استهلاك المنتجات البحرية، ليست كالعادات الأخرى في الاستهلاك، وذلك لاعتبارات عدة، سواء من حيث التقاليد في الاستهلاك أو في أولويات الأطعمة المتوفرة، وهي حال ربما كل العائلات الجزائرية، حيث لا يمكن أن تتوفر هذه المنتجات كل يوم إن لم نقل كل أسبوع، وكذا الأسعار المرتفعة الذي تباع بها هذه المنتجات".
ويشير صالح إلى أنه يشتري السمك مرتين أو ثلاثاً في الأسبوع، بحكم عائلته الصغيرة وهو ما لا يتوفر لدى العائلات كثيرة الأفراد خصوصاً في ظل ارتفاع الأسعار التي مهما انخفضت، بحسبه، تبقى مرتفعة بالنسبة إلى العائلات ذات الدخل المتوسط والضعيف.
أسعار ملتهبة
وعادة ما ترتفع أسعار الأسماك في الأيام والأسابيع التي تشهد تقلبات جوية خلال فصل الشتاء خصوصاً، غير أن الأسعار هذه السنة تأبى التراجع على الرغم من استقرار الأحوال الجوية، حيث يتراوح سعر السردين مثلاً في أسواق السمك في العاصمة بين 800 دينار وألف دينار للكيلوغرام بينما يصل سعره إلى 400 دينار للكيلوغرام في الصيف.
أما الجمبري فيتراوح سعره في هذه الفترة من العام ما بين ثلاثة آلاف دينار (15 دولاراً) وأربعة آلاف دينار (20 دولاراً) للكيلوغرام، في المقابل يكون سعره في الصيف ما بين 1500 دينار (7.5 دولار) إلى ألفي دينار (10 دولارات).
وغالباً ما تشغل أسعار السمك في الجزائر اهتمام الشارع وسرعان ما تنتقل إلى منصات التواصل الاجتماعي، ثم إلى طاولة الحكومة التي أمرها الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون سابقاً، برفع تقرير مفصل له، يرصد أسباب القفزات في الأسعار، مع وضع حلول عاجلة لرفع العرض وكبح المضاربة.
وبحسب الإحصائيات الرسمية يبلغ إنتاج الجزائر من السمك أقل من 116 ألف طن سنوياً، على الرغم من امتداد الشريط الساحلي الجزائري على طول 1200 كيلومتر، ما جعل الجزائر تستنجد باستيراد الأسماك المجمدة من فيتنام والصين، غير أنه منذ بداية السنة لم يدخل الجزائر أي أسماك مجمدة بعد أن جاءت في قائمة المواد الممنوعة من الاستيراد، ما أسهم في ارتفاع الأسعار.
فوضى عارمة
يقول رئيس المنظمة الجزائرية لحماية وترشيد المستهلك مصطفى زبدي في حديث لـ"اندبندنت عربية"، إن قطاع الصيد البحري في الجزائر غير منظم ويعرف عديداً من المشكلات أسهمت بشكل مباشر في تذبذب الأسعار وارتفاعها غير المبرر في أغلب الأوقات، مشيراً إلى أن متوسط الاستهلاك الجزائري للسمك ما زال بعيداً من المرجو منه، ما يتطلب العمل لوضع حد للفوضى والمساهمة ولو تدريجاً في بلوغ معدل استهلاكي مقبول للسمك.
يوضح زبدي أن التضاريس المشكلة للشريط الساحلي للجزائر تسهم في عدم استقرار السوق وهذا ما يجعل الإنتاج منخفضاً بعض الشيء مقارنة بدول أخرى، مشيراً إلى أن استقرار الأسعار يتطلب ضرورة وجود وفرة في الثروة السمكية، وهذا الأمر غير متوفر إلى الآن على الرغم من الجهود المبذولة من قبل السلطات لضبط السوق وجعل الأسعار في متناول المواطنين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن بين الأسباب أيضاً، النقص الفادح في وسائل الصيد المتطورة، حيث يؤكد زبدي ضرورة مراقبة عمليات الصيد بشكل أكبر بعد تسجيل تجاوزات وإقدام بعض الصيادين على صيد الأسماك في أوقات ممنوعة، داعياً إلى ضبط السوق من خلال تنظيمه وتحديد جميع المتدخلين في القطاع.
وأضاف أن الجزائر تشهد تقدماً ملحوظاً في مجال تربية المائيات ما يبشر بحدوث استقرار في أسعار المنتجات البحرية وتوفر عروض قوية في الأسواق تنهي التقلبات في أسعار السمك التي حرمت الطبقة المتوسطة والمعوزة من هذه المواد، مشيراً إلى أن مثل هذه المبادرات تستهدف خفض الأسعار، حيث يمكن للصياد أن يبيع منتجه مباشرة وعليه تتقلص السلسلة الاستهلاكية لكي تعود بالفائدة على الصياد وعلى المستهلك على حد سواء.
أسباب متشابكة
من جهته يرى رئيس الجمعية الوطنية للتجار والحرفيين الجزائريين الحاج الطاهر بولنوار، أن عوامل كثيرة أسهمت في فوضى سوق السمك، وعلى رأسها ضعف الإنتاج الذي يبقى دون حجم الطلب المتزايد كل سنة على السمك بأنواعه.
ويقول بولنوار لـ"اندبندنت عربية"، إن من بين الأسباب قدم أسطول الصيد البحري وعدم تحديثه بمعدات وتكنولوجيا جديدة، وكذا ضعف تدريب الصيادين على التقنيات الجديدة المستعملة في الصيد، إضافة إلى وجود موانئ لا تزال تشتغل بوسائل تقليدية.
وأشار المتحدث إلى ظاهرة الصيد العشوائي من طرف الصيادين دون مراعاة الأوقات التي يمنع فيها الصيد احتراماً لفترة الراحة التي تسمح بتجدد الثروة السمكية، وعدم وجود أسواق خاصة بالأسماك وفق المعايير الدولية المعمول بها.
يقول بولنوار، إن كل هذه العوامل أسهمت في نفور الشباب من الاستثمار في نشاط الصيد، مشيراً إلى وجود مشاريع استثمارية قليلة لا تلبي حجم الطلب الداخلي، وهو ما يؤدي بالوسطاء إلى رفع الأسعار.
ودعا المتحدث إلى إعادة النظر في القوانين التي تنظم قطاع الصيد البحري والاستفادة من الخبرات الأجنبية في مجال التدريب، وكذا الاستثمار في تجديد أسطول الصيد وتوفير المواد الأولية لصناعة السفن ودعم الصناعة التحويلية للسمك لاستغلال فائض الإنتاج.
خطة استعجالية
وسعياً لتدارك العجز المسجل، عمدت السلطات الجزائرية إلى استحداث آلية لضبط سوق السمك، على رأسها إنشاء تعاونيات وتنظيم أسواق مباشرة من المنتج إلى المستهلك إلى جانب توسيع الموانئ، وتعزيز الجهود المبذولة في مجال بناء السفن والأعمال الجارية قصد ترقية الصيد في أعالي البحار.
وأعلن وزير الصيد البحري والمنتجات الصيدية هشام سفيان صلواتشي، أخيراً، إنشاء نحو 500 تعاونية في مجال الصيد البحري وتربية المائيات، تهدف إلى تنظيم أفضل للقطاع وتحسين الوضعية الاجتماعية والاقتصادية للمهنيين، من خلال تخفيض كلفة المنتجات أو الخدمات الخاصة بنشاطات الصيد البحري أو تربية المائيات لفائدة أعضاء التعاونيات.
وتشترط التعاونيات لإنشائها خمسة أشخاص طبيعيين أو معنويين يمارسون نشاطاً في مجالات الصيد البحري وتربية المائيات لتوحيد نشاطهم، حيث أوضح المرسوم التنفيذي المنشئ لهذه التعاونيات أن من شأنها ترقية روح التعاون في ما بين الناشطين في القطاع وتخفيض كلفة المنتجات.
وعمدت السلطات الجزائرية إلى آلية مستحدثة لزيادة وفرة الأسماك من جهة، وتخفيض أسعارها من جهة ثانية، عن طريق إنشاء آلية لضبط السوق تتمثل في البيع المباشر من المنتج إلى المستهلك، حيث تراوحت أسعار الدوراد (القاجوج) 990 ديناراً للكيلوغرام والتيلابيا (البلطي الأحمر)، بسعر 550 ديناراً، وشملت العملية 15 محافظة، بهدف السماح للمواطن بشراء هذه المنتجات بأسعار مناسبة والعمل على وضع حد للاحتكار.
كما أعلنت وزارة الصيد البحري زيادة حصة الجزائر من صيد التونة الحمراء إلى 2.023 طناً خلال حملة السنة المقبلة، مقابل 1.617 طناً هذه السنة، معربة عن تفاؤلها في هذا المجال.