عاد التوتر ليشوب العلاقات الجزائرية- الفرنسية مرة أخرى بعد تصريحات السفير الفرنسي السابق لدى الجزائر كزافييه دريانكور الذي قال في مساهمة له نشرتها جريدة "لو فيغارو" الفرنسية إن "الجزائر ستنهار وتسقط معها فرنسا".
ولم تنتظر السلطات الجزائرية كثيراً للرد على دريانكور الذي تطرق أيضاً إلى الوضع في الجزائر ونظام الحكم فيها وغيرهما من المواضيع التي أثارت حفيظة الجزائريين على المستويين الرسمي والشعبي.
يرى رئيس مجلس الأمة صالح قوجيل أن "اللجوء إلى شخصيات في فرنسا والاستعانة بالأشخاص الذين لديهم تجربة في الجزائر لاستغلالهم بشكل سيئ ودفعهم إلى الإدلاء بتصريحات تصل إلى حد التنديد بالوضع في الجزائر، إنما هي نوع من أنواع المناورات الجديدة التي تستعمل للطعن في إنجازات البلاد وما حققته على أكثر من صعيد".
ودعا "القوى الحية على كل المستويات الإعلامية والثقافية إلى التجند لمواجهة أشكال الاستعمار الجديد التي تحاول التشكيك بالإنجازات التي حققتها الجزائر منذ ثلاثة أعوام"، وشدد على أن "الجزائر الجديدة وجدت لخدمة الشعب الجزائري وإعلاء مصالح الوطن في المحافل الدولية"، مضيفاً أن "جزائر اليوم تحرص على قول الحقيقة من دون مركب نقص وهذا فخر لنا".
واعتبر قوجيل تصريحات السفير دريانكور "ترجمة لحال القلق والإحباط التي أصابت أعداء بلاده في الداخل والخارج"، مردفاً أن "التشاؤم الكبير حول مستقبل الجزائر الذي توقعه الدبلوماسي الفرنسي السابق هو نوع من أنواع مخلفات الاستعمار التي لا تزال موجودة في أذهان بعض المتشبعين بالأفكار الاستعمارية الذين تسري في عقولهم فكرة أن الجزائر لا بد من أن تبقى تحت الوصاية"، وختم أن "الجزائر أسهمت بفخر في تحرير نفسها ودعم تحرير شعوب عدة، وهي تعمل اليوم على مناهضة كل أشكال الاستعمار، كما هو الشأن بالنسبة إلى دعمها لقضيتي فلسطين والصحراء الغربية، وفاء لعهدها ولرسالتها الإنسانية".
تصريحات فرنسية من دون مقدمات
وجاء في مقالة دريانكور أن "الجزائر الجديدة، بحسب الصيغة الشائعة هناك، تنهار أمام أعيننا وتجر معها فرنسا بوتيرة أكثر دراماتيكية من تلك التي وقعت عام 1958"، في إشارة إلى سقوط الجمهورية الرابعة تحت تأثير ثورة الاستقلال الجزائرية، وأضاف "في باريس نغمض أعيننا عن الواقع الجزائري، نتظاهر بالاعتقاد بأن السلطة الجزائرية شرعية حتى إن لم تكن ديمقراطية وبأن الخطاب المعادي للفرنسيين شر ضروري، لكنه عابر وبأن الديمقراطية هي تدريب مهني يستغرق وقتاً". وزاد أن "واقع الجزائر أسوأ بكثير مما يعتقده المراقبون، أو قلة من الصحافيين، فهناك 45 مليون جزائري لديهم هاجس واحد فقط وهو المغادرة والفرار. الذهاب إلى أين إن لم يكن إلى فرنسا حيث يملك كل جزائري عائلة، واليوم يتقدم عدد لا يحصى من الأشخاص للحصول على تأشيرة لغرض وحيد وهو القيام برحلة في اتجاه واحد، أي البقاء بطريقة أو بأخرى في فرنسا".
وأردف دريانكور أن "جميع المراقبين الموضوعيين يلاحظون أنه منذ عام 2020، ربما بعد أسابيع قليلة من الأمل، أظهر النظام الجزائري وجهه الحقيقي، فهو نظام عسكري مدرب على أساليب الاتحاد السوفياتي السابق بواجهة مدنية فاسدة مثل سابقه الذي أسقطه الحراك، مهووس بالحفاظ على امتيازاته وريعها وغير مبال بمحنة الشعب الجزائري"، منتقداً سياسة بلاده تجاه الجزائر ومعتبراً أنها "إنكار للواقع واستسلام أمام النظام الجزائري". وأضاف أن "هناك خطاباً معادياً للفرنسيين في الجزائر تصاعد بعهد الرئيس عبدالمجيد تبون"، وقال في خصوص سياسة بلاده إن "الاعتقاد بأن الذهاب إلى الجزائر والرضوخ للجزائريين في ما يتعلق بملفات كالذاكرة والتأشيرات، سيكسب فرنسا نقاطاً دبلوماسية ويجر الجزائر نحو مزيد من التعاون، مجرد وهم وأكذوبة"، محذراً من أن "الجزائر ستبقى مشكلة بالنسبة إلى فرنسا، فهل تستسلم الجمهورية الفرنسية الخامسة بسبب الجزائر؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أسباب عدة
من جهة أخرى وتعليقاً على ما سبق، اعتبر الرئيس التنفيذي للمركز الأوروبي لدراسات الشرق الأوسط ستار جبار رحمن أن "التوتر الفرنسي - الجزائري يعود لأسباب عدة في مقدمتها سياسة باريس الساعية إلى إبقاء مناطق مستعمراتها القديمة سائرة ضمن فلكها وتابعة سياسياً واقتصادياً لها"، وقال إن "طموح الجزائر المستمر للعب الدور المحوري والمؤثر في شمال أفريقيا يؤجج مشاعر التوجس الفرنسي تجاهها"، مشيراً إلى "أطراف لا تريد أن يكون للجزائر هذا الدور وتعمل على تصعيد التوتر الجزائري- الفرنسي".
تعبير عن حال اليأس
من جانبها ترى أستاذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية نجوى عابر أن "تصريحات دريانكور مجرد تعبير عن حال اليأس التي تعيشها باريس التي تيقنت أن العلاقات الفرنسية- الجزائرية اتخذت طريقاً مخالفاً للمرحلة السابقة"، مضيفة أن "التوازنات الجديدة فرضت على فرنسا موقعاً لا يسمح لها بالاستفادة من الأفضلية التي كانت تتمتع بها سابقاً"، وأبرزت أن "السفير يمثل حكومته، لذلك لا شك في أن سلوكاً كهذا سيكون له الأثر السلبي في العلاقات الثنائية التي عرفت أخيراً تقارباً مقبولاً".
وتابعت عابر أن "الانهيار الحقيقي تعيشه فرنسا التي تشهد حالاً من العجز المالي تهدد شركاتها بالإفلاس"، موضحة أن "بعد تبخر آمالها في الحصول على حصص غاز مؤجلة الدفع، يبدو أن الانكماش المالي والاحتقان السياسي باتا المستجد الغالب على المشهد الفرنسي الذي يعيش صدمة السقوط الحر، بخاصة بعد الانسحاب المذل من الساحل الأفريقي وخسارة احتكار ثروات المنطقة ومقدراتها المنجمية والطاقوية".
صمت فرنسي رسمي
وفي ظل الصمت الرسمي الفرنسي، تتجه التأويلات إلى الحديث عن "صراع" داخل البيت الفرنسي بين مرحب ومنتقد لسياسة الجزائر الخارجية، لا سيما تجاه باريس، ولعل تصريحات تبون خلال لقائه الدوري مع الصحافة المحلية بأنه "يجب على فرنسا أن تحرر نفسها من عقدة المستعمر وأن تحرر الجزائر نفسها من عقدة المستعمر"، أنتجت نوعاً من الارتباك لدى أوساط فرنسية لا تزال تتحدث باستعلاء كلما تعلق الأمر بالمستعمرات السابقة وحركت مخاوف من "ندية" جزائرية تستهدف العلاقات مع باريس. فهل تستعجل "فرنسا ماكرون" تصحيح "الزلة" الدبلوماسية واحتواء الوضع؟
يذكر أن كزافييه دريانكور تولى تمثيل بلاده مرتين في الجزائر، الأولى بين عامي 2008 و2012، ثم من 2017 إلى 2020، وله كتاب عن الجزائر بعنوان "اللغز الجزائري" صدر في مارس (آذار) 2022.
ولا يبدو في الأفق ما يمكن أن يهدئ العلاقات الثنائية قريباً بعدما سار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في نفس اتجاه سفيره السابق بالقول "لست مضطراً إلى طلب الصفح، ليس هذا هو الموضوع، من شأن الاقتصار على هذه الكلمة أن يقطع كل الروابط" مع الجزائر. وأوضح ماكرون في مقابلة مطولة أجراها معه الكاتب الجزائري كامل داوود ونشرتها أسبوعية "لو بوان" الفرنسية أن "أسوأ ما يمكن أن يحدث هو أن نقول: نحن نعتذر وكل منا يذهب في سبيله"، مشدداً على أن "عمل الذاكرة والتاريخ ليس جرداً للمستحقات، إنه عكس ذلك تماماً" ومضيفاً أن "عمل الذاكرة والتاريخ يعني الاعتراف بأن في طيات ذلك أموراً لا توصف، أموراً لا تفهم، أموراً لا تحسم، وأمورً ربما لا تغتفر".