أعلن مهرجان سوسة الدّوليّ، ضمن ندوة صحفيّة بالمسرح البلديّ بالمدينة، عن برنامجه الرّسميّ. وحضر هذه النّدوة من أجل التّفاعل مع أسئلة الصّحافيّين عدد قليل من الفنّانين الذين سيشاركون في فعاليّات دورته الحادية والسّتين، لعلّ من أبرزهم الفنّان التّشكيليّ والمخرج المسرحيّ مروان الرّياحي. وبخصوص عرضه "نوريا" الذي يقدّمه بالشّراكة مع الموسيقيّ وعازف الكمان مهدي تفيفحة، أجرت معه "اندبندنت عربيّة" هذا اللّقاء.
تعود جذور مروان الرّياحيّ إلى عائلة فنّيّة من الشّمال الغربيّ التّونسيّ. فوالده هو الخطّاط والنّحّات التّونسيّ الصّادق الرّياحيّ. كما أنّ مجمل أعمامه وإخوته نشؤوا على العمل في مجال الفنّ التّشكيليّ والخطّ العربيّ. وهذا ما رسم بالنّسبة إلى المخرج الشّابّ، على حدّ عبارته، مسلكه الأوّل. يقول: "وجدتُ نفسي أنتقل شيئا فشيئا من الشّغف الفنّيّ الذي أُحطت به في طفولتي إلى دراسة الفنون التّطبيقيّة بالقيروان ومن ثمّ التّصميم بالمعهد العالي للفنون الجميلة بسوسة، حيث أعددت رسالة الماجستير حول البعد التّفاعليّ والفرجويّ في الممارسة التّشكيليّة للفنّان الأمريكيّ المعاصر جوناس جيرار. وانتقلت الآن للاشتغال في رسالة الدّكتورة على إشكاليّة الصّورة في المسرح المعاصر. ولكن على المستوى الإبداعيّ أيضا، مررت من كوني فنّانا تشكيليّا محضا إلى تجربة التّمثيل في المسرح مع المخرج التّونسيّ حافظ الجديدي وبعد ذلك الإخراج". فبعد معارض جماعيّة وأخرى فرديّة في تونس والمغرب وإيطاليا، انفتح الرّياحي على الصّورة المسرحيّة المتحرّكة. فاشتغل سينوغرافيّا لسنوات قليلة، قبل أن تأخذه المغامرة إلى الإخراج وبعيدا عن الممارسة التّشكيليّة.
بعيد الثّورة التّونسيّة سنة 2011، نشأ حراك جمعيّاتيّ مخصوص في تاريخ البلاد المعاصر. وظهرت جمعيّات ثقافيّة وأخرى اجتماعيّة وحقوقيّة وخيريّة. وفي هذا السّياق تحديدا، كانت تانيت للفنون إحدى الجمعيّات الثّقافيّة الرّائدة التي برزت خارج العاصمة ولكنّها استقدمت إليها وإلى مدن عديدة داخل تونس وخارجها حراكا ثقافيّا مختلفا وحاملا لقيم جديدة. اشترك في تأسيس الجمعيّة كلّ من الممثّلة المسرحيّة ليليا لحمر والفنّان مروان الرّياحيّ والمصمّمين فاضل نعيجة وأسامة قرطاس. وفي إطار أنشطة هذه الجمعيّة تطوّرت تجربة الإخراج المسرحيّ لدى الرّياحيّ من خلال عدد هائل من العروض القياسيّة المقدّمة في الشّوارع والسّاحات، الأمر الذي استقدم انتباه مهرجانات دوليّة، لعلّ أبرزها مهرجان بروكسل لمسرح الرّحّل والذي توأم مع تانيت للفنون ابتداء من 2012. "خلال هذه التّجربة المميّزة-يصرّح مروان-عملت على توظيف مختلف المكتسبات التي تلقّيتها في مجالات فنّيّة عديدة. كنت أكتب بمعيّة الأصدقاء في الجمعيّة نصوصا. وأشتغل على بنائها الدّراماتورجيّ. ومن ثمّ أفكّر في مشهديّتها وفي خلق صورة تنبع ممّا هو تشكيليّ لكنّها ترسم على الرّكح أو ساحات الشّوارع، بالإضافة إلى الاشتغال في توجيه الممثّلين. مع تانيت للفنون تطوّرت تجربتي المسرحيّة وعثرت فيها على مسلكي الفنّيّ الجديد".
سنة 2015، تحلّ تجربة فنّيّة أخرى مميّزة ستعيد الفنّان إلى علاقته بالموسيقى. ففي بحثه الجامعيّ الأوّل، كان قد ركّز على تجربة التّشكيليّ الأميركي جيرار جيناس الذي يرسم على لوحات كبرى في شكل عروض قياسيّة متّبعا إيقاع موسيقى مخصوصة. إلاّ أنّه في هذه التّجربة التي حملت اسم "تمايورث"، أي ليلة اكتمال القمر باللّغة الأمازيغيّة، يشكّل انطلاقا من مادّة موسيقيّة مخصوصة اشتغل عليها الفنّان الموسيقيّ المميّز الطّاهر القيزاني عرضا فرجويّا، له حبكته الدّراميّة ويتحوّل في سياقه العازفون إلى ممثّلين/ شخصيّات بالإضافة إلى تواجد راقصين وممثّلين آخرين، بعبارة أخرى إنّه عرض يطمح إلى الاستلهام من التجارب العالميّة الجديدة في مزج الخطابات الفنّيّة بعضها ببعض، ولكنّه يتجذّر ابتداء من اسمه ومضمونه وكلماته في التّراث التّونسيّ وخصوصيّته الثّقافيّة. ولعلّ ذلك من أسباب تحصّل العرض على ثلاث جوائز بأكبر تظاهرة موسيقيّة في تونس وهي أيّام قرطاج الموسيقيّة. وكانت الجوائز كالآتي: جائزة الجمهور لأفضل عرض، جائزة الكلمات وجائزة أفضل موسيقى تونسيّة.
نوريا هو اسم العرض الذي يحتضنه فضاء متحف سوسة الأثريّ ، ضمن فعاليّات الدّورة 61 لمهرجان سوسة الدّوليّ. وهو عرض يقوم على المبدإ ذاته الذي استند إليه "تمايورث"، من حيث أنّه يمزج مادّة موسيقيّة في خطاب دراميّ فرجويّ. "الموسيقى هذه المرّة هي من إعداد الفنّان مهدي تفيفحة. والتي يمزج فيها بين مقطوعات من تأليفه وأغان ومقطوعات شهيرة يعيد صياغتها موسيقيّاً وفق حساسيّته الخاصّة وبناء على إمكانات آلة الكمان. فالعرض في النّهاية يطوف حول الكمان عزفاً وحكاية مسرحيّة تُعرض في الموسيقى وبها". وفي ما يلي موجز السّيناريو أو الحبكة الدّراميّة التي تشكّل نواة "نوريا" (والكلمة تعني ناعورة الماء في اللّسان الإسبانيّ).
"يقتفي العرض قصّة رمزيّة تشير إلى ولادة الكمان ونموّه وتطوّره عبر التّاريخ والجغرافيا والحضارات. إنّها رحلة ترسم ملامح الآلة حيث تواجدت تاريخيّا وبأيّ ألوان ثقافيّة تشكّلت وتلوّنت. ولهذا ينطلق الاستهلال من العالم الغربيّ نحو الشّرق العربيّ وغيره ومن ثمّ إلى تونس". تصبح آلة الكمان كناية عن الإنسان وتنوّعه وتطوّره وأزماته ورحلته عبر التّاريخ من أجل البقاء والمحافظة على جوهره الإنسانيّ. وضمن هذه الحبكة، يتجلّى للمتفرّج السّامع تأثير الكمان وقدرته على خلق البهجة ولكن على مصاحبة الحزانى والمنكسرين أيضا، أي أنّه آلة تنفتح على مختلف المشاعر والحالات الإنسانيّة وتخلقها. يقول مروان الرّياحيّ في هذا السّياق: "في عرض نوريا، ينطلق الكمان بوصفه نبوءة تؤسّس لطقوس واحتفاليّات وعوالم روحانيّة تشير إلى الأزمنة الغابرة. ثمّ يتضاءل ذلك الجانب الروحانيّ المقدّس شيئا فشيئا، ليتيح المجال إلى ما هو معاصر استعراضيّ مستقلّ عمّا هو دينيّ إلى حدّ كبير. ومن ذلك الموقع تحديدا، يستشرفُ العرض ما سيحدث لهذه الآلة/ الإنسان في إطار التّحوّلات المعاصرة الكبرى تقنيّة كانت أم اقتصاديّة أم غير ذلك. فنتساءل بهذا الشّكل عن مصيره وطريقته في البقاء إن كان له ذلك". ويقترح العرض في نوع من الاستشراف المستقبليّ إجابة على هذا السّؤال. "كلّ ما يمكنني أن أصرّح به الآن هو أنّ إيقاعات الكمان في عرض نوريا ستتعدّد وتتختلف وتترابط مثلما هو الحال مع حضاراتنا وثقافاتنا الإنسانيّة". بين أوروبا والشّرق (أمّ كلثوم وفيروز) والموسيقى التّونسيّة، تتباينُ الإيقاعات وتختلف. لكنّها تأتلفُ في عودتها إلى آلة واحدة وأصل واحد.