تقسم المشاريع المنزلية الأردنية إلى أقسام عدة، أهمها قسمان بدائيان ومستمران مع الزمن، تحركهما رغبة الأسرة وحاجتها إلى تحسين الدخل. والقسمان هما: الأول، نوع آمن من المشاريع ومربح لكن مردوده قليل وبطيء، وهو على ثلاثة أشكال رئيسة هي: اعتياش الأسرة الأردنية من مردود المحاصيل الزراعية الموسمية، وهذا النوع من المشاريع الذي تشارك فيه الأسرة كلها، ويعد مشروعاً عابراً للأزمنة، إذ مارسته الأسرة الأردنية، خصوصاً الريفية، منذ القدم وتتبع له فروع أخرى مثل رعي الأغنام وبيع منتجاتها. الشكل الثاني من تلك المشاريع، حديث لأنه يناسب روح الحداثة أكثر ويحقق نظرية الكسب المشروع والآمن من المنزل مثل المشاريع الافتراضية والتجارة الإلكترونية. وأخيراً الشكل الثالث من المشاريع القائمة على منتجات المطبخ الأردني التي يروج بعضها افتراضياً مثل الكيك والتورتات وغيرها، فيما يروج قسم آخر منها واقعياً من خلال الأسواق والأحياء السكنية حيث تبدأ قائمة هذه المنتجات بـ"الفيشار" والوصفات السريعة والمتداولة وتنتهي عند آخر ما وصلت إليه صيحات هذا المجال أردنياً والمتمثل بمشروع "منسف بالكاسة" الذي جسد واحدة من أعرق الأكلات الاردنية وأكثرها شعبية وخصوصية ضمن صياغة عصرية ذكية.
أما القسم الثاني من المشاريع المنزلية فهو على النقيض تماماً، من حيث كونه غير آمن نهائياً فيما ربحه أسرع وأكبر بكثير، ومن هذا النوع من الأعمال، ما شاع قبل ما يقرب من عقدين تقريباً، وهو تصنيع المنظفات في المنازل وبين الأحياء السكنية ومن ثم بيعها مباشرة للمستهلك عن طريق سيارات متجولة. وتعتمد هذه الفئة في أرباحها على نظرية البقاء بعيداً من دوامة التراخيص وتأسيس المصانع والمنشآت التي تحتاج إلى ثروة طائلة في مقابل إمكانية البدء بمشروع من هذا النوع بدنانير قليلة جداً ومكنسة أو ما يعرف بـ "قشاطة" تتكفل بخلط المواد لإنتاج الخامات المطلوبة الخاصة بإنتاج هذه المواد الحساسة. ومثالاً على ذلك أيضاً، فكرة بيع بعض المنتجات الغذائية المنزلية التي تكون عرضة للفساد السريع بسبب الظروف الجوية والبيئية مثل بيع حليب الأبقار في سيارات يزعم أصحابها أنها معدة لهذا الغرض بينما الرواية الرسمية وحتى الشعبية تشكك بذلك وتذهب إلى كونها مواد مغشوشة أصلاً وغير صالحة للاستهلاك البشري.
من جهة ثانية، حققت الأسرة الأردنية في عصر العلم والتحصيل الدراسي نجاحاً يضاف إلى القسم الأول من المشاريع المنزلية المنتجة والآمنة، الذي تتشارك في إنجازه العائلة بكل أفرادها أيضاً ولكن بطريقة مغايرة، فتعليم فرد من العائلة حتى يصل إلى أعلى المراتب العلمية هو مشروع منزلي حقيقي معاصر ولكن من مستوى أرفع ذهنياً، فالعائلة الأردنية في مثل هذه الحالة تصبح كلها مكرسة لرعاية هذا "المحصول" الذي من المفترض أنه يعود على ذاته وأسرته ومجتمعه بالفائدة والربح الوفيرين، مع ملاحظة أن هذا النوع الأخير لا يشترط وجود الأسرة تحت خط الفقر أو الحاجة والعوز الشديدين، فالأسر الأردنية من جميع الطبقات والمستويات المادية والثقافية تستثمر كثيراً من وقتها ومالها في مثل هذه المشاريع.
لصوص ظرفاء
يمثل القسم الثاني من أصحاب المشاريع المنزلية غير الآمنة شريحة لا يستهان بها، وهذه الشريحة بكل تطبيقاتها المتنوعة زمنياً ومكانياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً، ليست حكراً على مجتمع بعينه شرقاً أو غرباً، ويراوح هؤلاء من حيث مستواهم التعليمي ما بين المتوسط والعادي والمعدم، ولكنهم يجسدون حالاً لا بد من وصفها بأنها "شاذة" في الأردن، كونها خرجت عن أهم مبادئ الكسب المشروع من المنزل عبر مشاريع بدائية لدى المجتمع الأردني، الذي تشدد عاداته وتقاليده على حقوق الجار والحي والمجتمع، حيث لا يمكن تبرير وسيلة الكسب في ظل ارتكاب عمل يرقى إلى مستوى الجريمة أحياناً.
وفي استعراض سريع للتراث والتقاليد الأردنية في هذا المجال منذ 100 عام وضمن كل التحولات الاجتماعية ومروراً بكل أفكار الكسب المنزلي، يجب أن يقترن الربح بشرط وحيد هو عدم إيذاء النفس والمحيط، وتحت هذا البند دارت عجلة هذه الأعمال لعقود غابرة واستمر بعضها حتى يومنا، بدءاً من "بائع العلكة" و"غزل البنات" وحتى بائع "الهريسة" و"العوامة" و"الكسبة" و"كرابيج حلب" وانتهاء بمشروع "منسف بالكاسة". أضف إلى ذلك حقيقة أن العاملين في هذا المجال جميعهم - وبإقرار شخصي من أكثرهم - غير مؤهلين علمياً ولا فنياً لتداول هذه الوصفة التي تنقل شفهياً وبشكل سري للغاية أحياناً بين العاملين في هذا المجال إذ أصبحت للأسف متوارثة بين أجيال، منهم من أغرتهم لذة الكسب والإثراء السريعين فتحولوا اجتماعياً إلى ما يشبه "اللصوص الظرفاء" الذين يبرر لهم بعض الناس عملهم بذريعة الحاجة وبحجة أنهم ينتزعون حقوقهم من المجتمع عنوة، في ظاهرة قد تحيلنا إلى زمن الجاهلية إذ يتشبه بعض هؤلاء بالشعراء الصعاليك والشطار الذين يأخذون حقوقهم بالقوة مع فارق أنهم لا ينعزلون عن الناس، بل يمارسون أعمالهم وسط الأحياء السكنية وفي وضح النهار، الأمر الذي دفع السلطات التنفيذية والتشريعية إلى التعامل معهم على أساس التسول وتزوير المنتجات والعلامات التجارية المسجلة أو تحت مسميات جرمية أخرى، بدل تكبد عناء احتضان أعمالهم أو حوكمتها وتشريعها، وكأن هؤلاء، وهم ليسوا من فئة صانعي المنظفات المنزلية وحسب، بل من كل الفئات المماثلة لنشاطهم، ينظرون إلى أنفسهم بصيغة أبطال خارقين متحولين ضمن هذا الزمن، وقد أقر بعضهم بهذه الحقيقة لـ "اندبندنت عربية" أثناء اتصالات رفضوا من خلالها التعريف بنفسهم، مؤكدين علمهم بأن أعمالهم هذه لا يمكن أن تصل إلى نهاية على شاكلة احتضان المشاريع الأسرية في التجربة الصينية الشهيرة، والدليل على ذلك تناقص أشغالهم بشكل حاد عما كانت عليه قبل سنوات قليلة، مما قد ينبئ بانقراض مهنهم هذه وربما اختفائها تماماً في مدى منظور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مشروع "منسف بالكاسة"
المنسف هو الأكلة الأردنية ذائعة الصيت، وهي وصفة عابرة للحدود والأعراق والأزمنة أيضاً، فهي متوارثة بين الأسر والأشخاص، وقد توصلت الثقافة الأردنية أخيراً إلى آلية ظريفة لتقديم هذا الطبق بصياغة محدثة جعلت من هذه الوجبة - التي تحتاج عادة إلى تحضير مطول وأجواء احتفائية - أشبه ما تكون بوجبة سريعة (Take away) يتناولها الناس في سياراتهم ومن خلال "كاسة" بحجم كاسة القهوة نفسها، وأهمية هذه الفكرة تكمن في أنها دليل صارخ على قدرة الثقافة الأردنية خصوصاً والثقافة الإنسانية عموماً على الابتكار ومجاراة الزمن لتحقيق مكسب مالي مباشر وبطرق آمنة ونظيفة وسليمة تماماً.
حتى أن فكرة المنسف بالكاسة بوصفها مشروعاً منزلياً تحيلنا إلى عالم أكثر رحابة هو عالم المرأة الأردنية عموماً والأم خصوصاً، فالمرأة الأردنية التي فتحت لها الحداثة وقوانينها وأنظمتها وتشريعاتها آفاق ريادة المجتمع تصر من خلال هذا المشروع على أن تطل على المجتمع من خلال نافذة الأم الرؤوم، التي لا تنسى حصة الغائبين عن مائدتها من أبنائها لدرجة أنها قد تقدمها لهم بصيغة التوصيل الحديثة (delivery) لتناولها وهم يغادرون المكان لأسباب قاهرة أحياناً. ليكون هذا التعبير الحديث عن فكرة تلك الوجبة بمثابة اتصال أصيل بتقاليد إيجابية راسخة أدت مهمتها في الجانبين النفسي والعاطفي والمادي في كل الأوقات وبدقة وحكمة شديدتين.
مستوى أرفع
مفهوم الحوكمة ما زال غير معروف ومعرف بشكل دقيق، لكنه يتعلق مباشرة برفع كفاءة الشركات الكبرى في القطاعين الخاص والعام في الدولة وتمكينها لتكون بمثابة حاضنات عملاقة لكل أنشطة المجتمع وابتكاراته. ومهمة الحاضنات العملاقة تلك تتمثل في دعم الأعمال والأشخاص الرياديين، هنا يصبح العمل الإبداعي والابتكاري عملاً مؤسسياً يعكس أثره إيجاباً في المجتمع. ويصبح الحديث منصباً على القسم الثالث من المشاريع المنزلية المتعلقة بالتعليم تحديداً في مجتمع مثل المجتمع الأردني.
وفي مقابلة سابقة مع رائدة الأعمال الأردنية، بينيلوبي شهاب، المديرة التنفيذية لشركة "مونوجو بيوتيك" التي تولت أخيراً منصب رئيس مركز الإبداع وريادة الأعمال في ولاية "وايومينغ" الأميركية، قالت "إن زيادة عدد حاضنات الأعمال ينعكس فوراً على القطاع والمجتمع". وضمن هذا النطاق أعلنت وزارة الاقتصاد الرقمي على موقعها الإلكتروني تحويل 40 محطة معرفة إلى حاضنات أعمال حيث تتوفر حالياً ثلاث أو أربع حاضنات أعمال في كل محافظة أردنية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي محاولة لترجمة هذا الجهد إلى واقع ملموس، قدمت شركة الصندوق الأردني للتمويل، التي تصف نفسها أنها شركة مساهمة خاصة تأسست بعد توصيات مجلس السياسات الاقتصادية وكونها أكبر شركة عاملة في هذا القطاع، تمويلاً قدره (250 ألف دينار) لبرنامج (آيبارك) لريادة الأعمال في محافظة العقبة، الذي بدوره يمكن رياديين ورياديات في قطاع السياحة والترفيه ويدعم 98 فكرة وشركة ناشئة.
من جهة ثانية أكد خالد الطراونة، رئيس وحدة الاستشارات القانونية والتشريعات في إدارة السياسات والدراسات الاقتصادية في غرفة تجارة عمان، من خلال ورقة بحثية له أن "مبادى حوكمة الشركات في الأردن موجودة في عديد من القوانين ومنها قانون الشركات رقم 22 لعام 1997 وتعديلاته"، مورداً بعض الظواهر سلباً وإيجاباً وفق المعايير الدولية للحوكمة، حيث تمثل أنظمة الحوكمة المظلة الكبيرة التي ترعى المشاريع الإيجابية الناشئة وتطورها. وقد بدأت الصين من خلال هذه الفكرة مشروعها الإصلاحي في عام 1978، فدعمت الأسر الفقيرة في الريف لإنتاج الحرير وزودت الأسر المنتجة بقطع إنتاج مفيدة ومنحت قروضاً طويلة الأجل فحولت المنازل إلى ورش عمل، مما خفض العجز وزاد معدلات التنمية وخفض نسبة البطالة.
محمد يونس وساندرز
أخيراً رافقت مفهوم الحوكمة مفاهيم حديثة أخرى حيث شكلت مجتمعة وجهاً من أوجه الريادة ضمن سياق الأنظمة والتشريعات بما يحقق ربحاً مادياً معقولاً للأسرة تحت معادلة الأمن للجميع ومن دون إضرار بالنفس والآخرين، فقد أوجد محمد يونس البروفسور البنغلادشي الشهير الحائز على جائزة نوبل للسلام (2006) لخلق التنمية الاقتصادية مناصفة مع بنك "غراميين" نظاماً لإقراض الفقراء ضمن مبالغ صغيرة ومهلة سداد طويلة ومن دون ضمانات، لكن هذا النظام تعرض للتشويه بعد انحراف معظم شركات تمويل المشاريع الصغيرة عن مبادئه من أجل الربح، وبدوره حقق الكولونيل "هارلاند ساندرز" صاحب فكرة مطاعم الدجاج المقلي (سلسلة كنتاكي) شغفه من خلال بيع وصفة الدجاج التي تعلمها من أمه بعد وفاة والده وهو في الـ15، حيث اضطر إلى رعاية أخوته في غيابها وإطعامهم، وانتقل من كونه معدماً وفقيراً إلى مالك لسلسلة مطاعم يزيد عددها على 11 ألف فرع في أنحاء العالم حالياً.