عادت الأوساط الغربية لسابق مواضيعها التي لطالما اجتمعت على مناقشتها استعداداً لما تسميه أوكرانيا وحلفاؤها في "الناتو" والولايات المتحدة، "هجوم الربيع المقبل"، لاستعادة ما سبق و"استولت عليه" روسيا من أراض أوكرانية ليس فقط اعتباراً من 24 فبراير (شباط) 2022، بل ما قبلها منذ مارس (آذار) 2014 تاريخ إعلان روسيا ضم شبه جزيرة القرم وما تلى ذلك من أراض في منطقة دونباس جنوب شرقي أوكرانيا.
وما إن أعلنت الدوائر العسكرية الغربية عن مناقشة إمداد أوكرانيا بأحدث دباباتها ومدرعاتها وصواريخها طويلة المدى القادرة على الوصول إلى عمق الأراضي الروسية، حتى انتفضت موسكو وعاد ممثلوها لسابق تهديداتهم باستخدام ما تملكه الترسانة النووية الروسية. وكان كبار القيادات العسكرية لبلدان حلف "الناتو" ناقشوا قضايا المساعدات العسكرية المقدمة إلى كييف، لا سيما الدبابات والمدرعات ومنظومات الدفاع الجوي في اجتماعهم الأخير الذي عقدوه في قاعدة رامشتاين شرق ألمانيا. وكشف وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن عن أن هولندا ستنقل صواريخ باتريوت وقاذفاتها إلى أوكرانيا، إلى جانب تدريب أفراد القوات المسلحة الأوكرانية على استخدامها، إضافة إلى ما تعهدت به بلدان "الناتو" بتلبية حاجات أوكرانيا من الدبابات والعربات المدرعة الأخرى ومنها بريطانيا ووعدها بإرسال دبابات "تشالنجر 2" وصواريخ "بريمستون" إلى كييف. وفيما تناقش ألمانيا إرسال دبابات "ليوبارد"، قررت السويد إمداد أوكرانيا بمدافع "أرتشر" بعيدة المدى، إضافة إلى 50 دبابة من طراز "سي في 90" والصواريخ المحمولة المضادة للدروع، وذلك إلى جانب ما وعدت به الدنمارك من مدافع "قيصر" بعيدة المدى الفرنسية الصنع، على رغم أنها لم تتسلمها بعد، بحسب المصادر الغربية.
مشاركة إسرائيل
وكانت وزارة الدفاع الأميركية نشرت بياناً كشفت فيه عن "قائمة بالمساعدات الأمنية الإضافية لأوكرانيا"، إلى جانب ما أشارت إليه حول أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن "وفرت مساعدات بقيمة 27.4 مليار دولار لأوكرانيا منذ بداية عملها". ومن اللافت في هذا الصدد ما كشفت عنه صحيفة "كومسومولسكايا برافدا" الروسية واسعة الانتشار، حول ما تبذله واشنطن من محاولات تستهدف مزيداً من الدعم العسكري الإسرائيلي لأوكرانيا منذ ما قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية وتحولها إلى مسار المواجهة العسكرية مع روسيا. فإلى جانب ما سبق وجرى الإعلان عنه حول مشاركة إسرائيل من خلال خبرائها و"متطوعيها" في القتال ضد القوات الروسية، نقلت الصحيفة الروسية عن "نيويورك تايمز" الأميركية ما كتبته حول "استخدام الولايات المتحدة لمخزونها الكبير من الذخيرة في إسرائيل لتغطية حاجة أوكرانيا الملحة لقذائف المدفعية في الصراع مع روسيا". وقالت الصحيفة إن "هذه الاحتياطات التي تم تجميعها على مدى أعوام عدة، كانت مخصصة للاستخدام في نزاعات الشرق الأوسط، لكنهم احتفظوا بها هناك تحت ستار السرية". وأوضح يفغيني أوميرينكوف معلق الصحيفة أن الجيش الإسرائيلي كان يحق له في حالات الطوارئ بالاتفاق مع الأميركيين استخدام كل ما يجري تخزينه هناك من الذخيرة التي وضعت تحت تصرف الإسرائيليين لاستعمالها في حال الحاجة إلى ذلك لدى وقوع اضطرابات في منطقة الشرق الأوسط. أما الآن، فيصر الأميركيون على ضرورة ألا تعرقل تل أبيب إمداد كييف بما تحتاج إليه من ذخيرة أو مقذوفات، يمكن تسليمها إلى أوكرانيا عبر بولندا، وفقاً لمسؤولين إسرائيليين وأميركيين، حسبما أكدت صحيفة "نيويورك تايمز".
ومن هذا المنظور تحولت الصحيفة الروسية وعلى نحو غير مسبوق إلى محاولات تأليب السلطات الروسية لاتخاذ موقف مماثل "يتناسب مع الضغوط التي يمارسها الأميركيون على الإسرائيليين للتخلي عن مبادئهم" القاضية بالحفاظ على علاقات طبيعية مع موسكو، بما لها من علاقات وثيقة مع الدول العربية، وهو أمر مهم لإسرائيل التي تعيش في "بيئة غير ودية"، على حد تعبير أوميرينكوف معلق "كومسومولسكايا برافدا" الذي قال "إن المنطق هنا بسيط وواضح... إذا انجرفت تل أبيب إلى أنشطة معادية لروسيا، ووفرت الذخيرة للجيش الأوكراني، وإن تكن الذخائر أميركية، فهي تحت تصرف الإسرائيليين، فهذا يعني أنها تعمل ضد روسيا ولدى موسكو ما تفعله في المقابل. فلماذا على سبيل المثال لا تعزز روسيا جيوش جيران إسرائيل الذين لديهم خطط تجاهها أبعد ما تكون عن الودية؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم تكن موسكو لتقف مكتوفة الأيدي أمام كل هذه التدابير والتحركات والمعونات، إذ سرعان ما دعا الرئيس فلاديمير بوتين إلى اجتماع عاجل لمجلس الأمن القومي الروسي ناقش فيه كل هذه القضايا على ضوء التطورات الأخيرة وما تحققه قواته في جنوب شرقي أوكرانيا من تقدم نسبي لاستعادة بلدات التي كانت تخلت عنها خلال الأشهر الأخيرة. غير أن الأهم قد يكون في عودة نائبه في مجلس الأمن القومي دميتري ميدفيديف للتهديد باحتمالات أن تلجأ روسيا إلى استخدام ترسانتها النووية في حالات معينة. وكان ميدفيديف سبق ولفت إلى أن العقيدة النووية الروسية لن تتطلب من دولة معادية إطلاق النار أولاً، في إشارة إلى ما نصت عليه هذه العقيدة وما تضمنته من سيناريوهات وتعديلات حول كثير من أسس سياسة الدولة في مجال الردع النووي. وجاء ذلك مواكباً لما طالب به الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من وزراء دفاع "الناتو" المجتمعين في قاعدة رامشتاين الألمانية بإمداد أوكرانيا بطائرات "إف-16" وصواريخ بعيدة المدى. ونقلت المصادر الرسمية الأوكرانية عن زيلينسكي تأكيده على أن ما حصلت عليه بلاده من مساعدات عسكرية اقتصرت حتى الآن على الصواريخ التي لا يمكنها ضرب الأهداف الروسية بعيدة المدى"، إلى جانب مناشدته البلدان الغربية الإسراع بمساعدة كييف، واصفاً الوقت بأنه "سلاح روسيا". وكان الأمين العام لحلف "الناتو" ينس ستولتنبرغ انضم إلى مجموعة المؤيدين لضرورة التعجيل بدعم أوكرانيا وتلبية كل حاجاتها من الأسلحة الثقيلة. وهو ما علق عليه المتحدث الرسمي باسم الكرملين دميتري بيسكوف بتأكيده على "ضرورة عدم المبالغة في أهمية شحنات الناتو من الأسلحة الثقيلة إلى أوكرانيا، إذ إنها لن تغير شيئاً جوهرياً، إلا أنها سوف تضيف مزيداً من المشكلات إلى أوكرانيا". وذلك فضلاً عما قاله وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف حول إن "أي شحنة تحتوي على أسلحة لأوكرانيا ستصبح هدفاً مشروعاً لروسيا"، إلى جانب ما صدر من بيانات تتهم دول "الناتو" بأنها "تلعب بالنار بتزويد أوكرانيا بالسلاح".
ثقل المهمة
وتلك كلها بيانات وتصريحات تقول بإصرار كل الأطراف المعنية على سابق مواقفها وثوابت سياساتها، بما يؤكد ضمناً ثقل المهمة وفداحة الأعباء. ولعل ذلك تحديداً ما كشفت عنه المصادر أنه كان محور كثير من اللقاءات والاتصالات الأخيرة ومنها ما جرى في كييف بين زيلينسكي ومدير الاستخبارات المركزية الأميركية وليام بيرنز. ومن اللافت بهذا الصدد أن بيرنز كان زار كييف في نوفمبر (تشرين الثاني) لإبلاغ زيلينسكي بنتائج لقائه مع نظيره الروسي سيرغي ناريشكين الذي وصفه لافروف بأنه "لم يحقق اختراقاً، لكنه كان مفيداً!".
وعلى رغم ذلك، فإن هناك من يقول في كييف إن ذلك الاجتماع يكتسب أهمية خاصة على خلفية لقاءات أخرى كثيرة جرت خلال الأيام الأخيرة ومنها ذلك اللقاء الذي جرى وللمرة الأولى بين رئيس هيئة الأركان العامة الأميركية الجنرال مارك ميللي وقائد القوات المسلحة الأوكرانية فاليري زالوجني، وإن لم تخرج نتائجه عما سبق وأعلنت عنه الإدارة الأميركية من مواقف تتأرجح بين "الدعم المسلح" لأوكرانيا لإطالة أمد "الحرب" من جانب، والدعوة إلى المباحثات مع روسيا من جانب آخر. وذلك ما ترفضه موسكو جملة وتفصيلاً، وما كشف عنه لافروف في مؤتمره الصحافي السنوي الأخير لجهة "انتفاء فكرة التفاوض مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي".
ويشير ذلك إلى عودة الموقف من الحوار والمباحثات للدخول في "حلقة مفرغة"، كشف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين عن بعض ملامحها بقوله إن "مطالبة روسيا لأوكرانيا بالاعتراف بالواقع الجديد على الأرض، لا يمكن أن يكون نقطة انطلاق للمفاوضات". وأضاف، "في النهاية نحن ملتزمون ضمان أن يكون لدى أوكرانيا ما تحتاج إليه للنجاح في ساحة المعركة". ولمزيد من الإيضاح، نشير إلى ما خلص إليه رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاع والمدير التنفيذي لمنتدى "فالداي" فيودور لوكيانوف في رؤيته للموقف الراهن بقوله "هناك أمر واحد واضح، هو التالي، في الوقت الحالي لا يوجد أساس للمفاوضات، سواء مع كييف أو مع واشنطن أو مع أي جهة أخرى، لأن مواقف الأطراف تبدو غير متوافقة بأي شكل وأي صيغة". ولعل ذلك تحديداً ما يبدو أن الأطراف المتحاربة صارت قريبة منه أكثر من أي وقت مضى.
فموسكو تطالب بالانطلاق من الأمر الواقع وما وصلت إليه تطورات الأزمة من خطوط تشكيل جديد للحدود تتعارض أي محاولات لتغييرها مع التعديلات الدستورية التي أقرتها في استفتاء شعبي. بينما تطالب كييف بالعودة لحدود ما قبل 24 فبراير تاريخ بدء "العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا"، وفي تصريحات أخرى زيلينسكي لحدود 1991، تاريخ انهيار الاتحاد السوفياتي. ومن هنا يتساءل كثيرون عن أية مفاوضات أو مباحثات، يمكن أن يدور الحديث؟ وذلك ما جاء مواكباً لما عاد عميد الدبلوماسبية الأميركية الأسبق هنري كيسنجر ليعلنه في حديثه خلال الأيام الأخيرة في منتدى "دافوس"، معلناً عن موقف مغاير لما سبق وصرح به حول ضرورة "حياد أوكرانيا" ورفضه لانضمامها إلى "الناتو". وعلى رغم ما قاله حول إن "انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو يمكن أن يكون نتيجة ملائمة" للحرب في أوكرانيا، فقد انبرت مصادر رسمية أوكرانية لترفض ما قاله كيسنجر على اعتبار أنه "لا يفهم أي شيء، لا طبيعة الحرب في أوكرانيا ولا تأثيرها في النظام العالمي"، على حد تعبير مساعد الرئيس الأوكراني ميخائيل بودولياك.
لكن ذلك كله لا يمكن أن يعني رفض ما سبق وقاله كيسنجر وما يتفق مع كل أبجديات الدبلوماسية والحرب في شأن ضرورة المحادثات بوصفها النقطة الختامية لأية صدامات عسكرية أو حروب، يعجز فيها أي من أطرافها عن إحراز النصر الساحق الذي يمكنه معه إملاء إرادته على الطرف الآخر.