ماذا سنتناول الليلة على العشاء؟ سؤال كهذا كان يتطلب ترتيبات مسبقة، لكن اليوم ليس عليك إلا أن تحدد خيارك ليصلك طلبك إلى عتبة منزلك خلال دقائق وبكبسة زر فقط، وهذا الإجراء ينطبق على جميع حاجاتك اليومية الأخرى.
لكن هل تساءلت يوماً عن أول عملية توصيل للطعام تاريخياً وعن كيفية تطور هذه الخدمة؟
إذاً وكما كل الأشياء المستجدة في حياتنا العصرية اليوم يبدو من الصعب علينا أن نتخيل أن خدمات توصيل الطعام لم تكن شائعة قبل بضع سنوات، لكن الحقيقة أنه حتى العقود القليلة الماضية لم تكن هذه الخدمة متوافرة بشكل رسمي وشائع.
أول عملية تسليم
لا ندري بالضبط مى بدأ عصر خدمات التوصيل تحديداً لكن يعتقد أن أول عملية تسليم للطعام حدثت في نابولي عام 1889 عندما أراد الملك "أمبرتو الأول" والملكة "مارغريتا" تجربة تذوق بيتزا "رافاييل إسبوزيتو" الأب الفعلي للبيتزا الحديثة.
وتقول الحكاية إن "إسبوزيتو" قدم ثلاث قطع بيتزا للعائلة المالكة التي سئمت من المطبخ الفرنسي الذي اعتاد عليه الملوك الأوروبيون، فوقعت الملكة بشكل خاص في حب بيتزا الموزاريلا والطماطم وأوراق الريحان الطازجة التي تشكل ألوان العلم الإيطالي، ومن هنا أطلق عليها اسم "بيتزا مارغريتا" على اسم الملكة، ولكن يروى أيضاً في حكايات أخرى أن إسبوزيتو استدعي إلى القصر ليعد البيتزا ويخبزها هناك.
أول طلب أونلاين
ويعتقد أن أول طلب عبر الإنترنت حصل خلال التسعينيات عندما أطلقت "بيتزا هت" ما سمته "بيتزا نت"، وكان من المواقع الأولى على الإنترنت في ذلك الوقت وشكّل لحظة تاريخية بالفعل، وكان الطلب الأول عبارة عن بيتزا بيبروني كبيرة مع فطر وجبنة اكسترا.
ثم تأسست عام 1995 في الولايات المتحدة خدمة World Wide Waiter وكانت أول خدمة لطلب الطعام عبر الإنترنت، وهي معروفة الآن باسم Waiter.com، وبذلك بدأت حقبة جديدة تماماً، إذ بدأت المطاعم ببناء مواقع الويب ثم في فترات لاحقة إطلاق تطبيقات التوصيل الخاصة بالهواتف الذكية وإنشاء إعلانات مسلية وسريعة الانتشار لزيادة الوعي والحصول على مزيد من الطلبات، في محاولة للتكيف مع نمط حياة العملاء الجديد والتغييرات التي تطرأ على طريقة استجابتهم، وعلى سبيل المثال أتاحت "دومينوز" (Domino’s) للمستخدمين طلب البيتزا المفضلة لديهم من طريق خيارين، إما التغريد بهاشتاغ #EasyOrder أو ببساطة استخدام رمز تعبيري خاص بالبيتزا.
وبالنسبة إلى الوسيلة المعتمدة لإتمام عملية التسليم فقد بدأت باستخدام وسائل النقل المتوافرة ثم السيارة، وانتقلت في ما بعد لتصبح على الدراجات الهوائية والنارية، ووصلت اليوم مرحلة أصبح فيها من الشائع استخدام الروبوتات والطائرات من دون طيار في بعض الدول المواكبة للتقدم التكنولوجي.
نقطة النعيم وقرار الشراء
تجيد الإعلانات اليوم وبخاصة المتعلقة بالطعام من وجبات سريعة وحلويات، اللعب على الأوتار الحساسة لدى لإنسان بشكل لا يمكن تخيله، إذ تقدم إشارات مضخمة يشير إليها العلماء باسم "المثيرات فوق الطبيعية"، وهي عبارة نسخة معززة من الواقع تجلب استجابة أقوى من المعتاد، مما يدفع مراكز المكافأة في الدماغ إلى الاستثارة السريعة تجاه المنبه.
ويجادل الكاتب الأميركي جيمس كلير بأن الأهداف الرئيسة لصناعة الأطعمة اليوم هي استحداث منتجات أكثر جاذبية في أعين المستهلك، باتباع مجموعة استراتيجيات تتيح للعلماء العثور على ما تسمى "نقطة النعيم" لكل منتج، إذ أصبح الواقع اليوم مليئاً بنسخ مهندسة من الواقع وأكثر جاذبية من عالم أسلافنا، فهناك مثيرات فوق الطبيعة في عالمنا الحديث تضخم السمات والمزايا التي تدفعنا إلى عادات مبالغ فيها عند التسوق بشكل خاص، والاتجاه السائد هو أن تكون المكافآت أكثر تركيزاً والمثيرات أكثر إغراء.
والأكيد أن الناس يستسهلون الشراء عن بعد وبخاصة إذا كانوا من الفئة التي لا تلتفت كثيراً إلى جودة المنتج وتفاصيله.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التطبيقات حديثة العهد
وفي العالم العربي اقتصرت لفترة طويلة عملية التوصيل على الطعام الجاهز وطرحت كميزة ليستفيد منها العاملون في الشركات والمكاتب الخاصة والعامة، فكان الموظفون يطلبون الساندويتش والأطعمة الأخرى السريعة التحضير إلى أماكن عملهم وقت الفطور والغداء، وفي ما بعد أسهمت الأزمات الأمنية والاقتصادية والصحية بشكل أساس في تعزيز انتشار هذه الظاهرة وتمددها، وتعد تطبيقات طلب التوصيل عبر الإنترنت حديثة العهد في العالم العربي.
وتروي لنا إحدى السيدات عن تجربتها الطريفة مع خدمة التوصيل قائلة إنها اشتهت في ساعة متأخرة وهي حامل وزوجها مسافر، أن تتناول ما يطلق عليها في المطبخ الشامي "الكرابيج" وهي عجينة من المعمول محشية بالفستق الحلبي وتقدم مع "الناطف" (ماء ورد وبياض بيض وفانيلا وسكر)، وهي من الحلويات التي تصنع بإطار محدود في البلاد، فاستعانت بإحدى شركات التوصيل لتبدأ عملية البحث وتمت تلبية طلبها بالفعل بعد جولة طويلة من المحاولات.
بين الأمس واليوم
كانت الأمهات عندما ترسل أحد الأبناء لشراء حاجات المنزل تشدد عليه ألا يلتفت بعيداً من الجزار مثلاً وهو يقطع شريحة اللحم، لكي يتأكد أولاً من مصدرها ومن كونها طازجة، وكي لا يغافله البائع ويقطع له القطعة من مكان غير جيد، وحتى عند الوزن كانت النصائح تشدد على "التنبه لعدم خداعنا من قبل البائع".
أما في حال السندويش كان الأمر أكثر تعقيداً، إذ كان لا بد من تفحص نظافة المكان والأدوات وأيدي العاملين وسلوكاتهم والتزامهم بمعايير الصحة أثناء تحضير الطلب، لكن كيف تبدل الوضع وأصبحنا نطلب "عن بعد" الطعام المكشوف أو المحضر يدوياً، والذي قد يتعرض لشتى أنواع الفيروسات أو السلوكات غير الصحية؟ متى حدث هذا التحول وكيف؟
الحقيقة أن التطور المتسارع لم يعط الفرصة الكافية لنا كي ندرس هذا الخيار جيداً، كما كل الأشياء التي استحدثت في واقعنا وغدت عادات أساسية في حياتنا كما لو أنها نشأت معنا منذ بدء التاريخ، وشعورنا بأن بإمكاننا الحصول على ما نريد كل مرة وفي أي وقت من خلال الضغط على زر التطبيق يجعلنا نكرر هذا الفعل مرات ومرات لجدواه العملية وسهولته وسرعته، إذ كان علينا سابقاً أن نخرج ونحادث البائعين ونحرص على عدم إثارة إزعاجهم بسبب طلباتنا العفوية غير المؤكدة أو المحددة مسبقاً، وبالتالي هناك احتمال لتحمل ردود فعل معينة أو وجوه متجهمة، أما من وراء الشاشة فالأمر مختلف تماماً حيث القدرة على الاختيار والتراجع متى شئنا، فالتطبيق يتفهم بسلاسة ترددنا وتغييرنا للمطلوب وعدده مرات غير محدودة.
حياة كسولة
والأكيد أن خدمات التوصيل تجعلنا نستهلك أكثر ونطلب عن بعد ما لا نحتاجه حتى للاستفادة من عروض مصممة بدقة على مقاسنا تدفعنا لضغط زر إجراءات الطلب والشراء، فاليوم نأكل طعاماً جاهزاً أكثر وبسعر أعلى وبجودة أقل بكثير.
كما سلبتنا الأدوات التقنية والتطبيقات نشاطنا وطبيعة حركتنا وسلوكاتنا التي اعتدنا عليها كجزء لا يتجزأ من صحتنا الجسدية، فكل ما نقتنيه اليوم يسهل حياتنا ولكنه يزيد كسلنا وحاجتنا إلى المساعدة في الوقت ذاته، كما ينهك الصحة الجسدية والنفسية لكل منا، إذ يبدو وكأن الرغبات المتعلقة بالرشاقة والوزن المثالي والصحة الجسدية تتعارض مع التكنولوجيا والتطبيقات الحديثة اليوم، فقد تقوم التسهيلات التكنولوجية بتحويلنا إلى كائنات مستهلكة طوال الوقت، فحتى الرياضة أصبحنا نمارسها وقوفاً من خلال تطبيقات وأدوات رياضية في منازلنا، متناسين الرابط العميق بين كل من الصحة الجسدية والنفسية.
والصحيح أن عمليات التوصيل بدأت في مجال الطعام والوجبات لكن الحقيقة أنها لم تتوقف هنا، فشركات التوصيل اليوم تخبرك في إعلاناتها أن تطلب ما تريد وأي شيء يخطر على بالك، مرفقة عبارة "نحن سنحضره إليك".
ولقد توسعت هذه الخدمة وتمددت حتى وصلت إلى مكان بدا وكأنها لن تتوقف عند حد معين أبداً.