بعد عامين على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست" تشير كل البيانات الرسمية، وكذلك تقديرات المؤسسات الدولية، وحتى بعض المؤسسات الحكومية البريطانية، إلى أن اقتصاد بريطانيا أصبح الأسوأ بين دول مجموعة "العشرين"، باستثناء روسيا. ولا يعود ذلك فقط إلى تداعيات أزمة كورونا والحرب في أوكرانيا، بل إن خسائر بريطانيا نتيجة "بريكست" كانت أكبر من خسائر الاتحاد الأوروبي.
وكانت الوعود التي صوت على أساسها البريطانيون لصالح الخروج في استفتاء عام 2016 تدور حول شعارين أساسيين: وقف الهجرة إلى بريطانيا، وأن "تملك بريطانيا زمام أمورها"، فتوقع اتفاقات تجارية حرة مع العالم تعود بفوائد أكبر من البقاء في أوروبا. وبعد عامين على الخروج الرسمي يدور الحديث في بريطانيا، ليس من قبل المعارضة العمالية فقط، بل وفي حزب المحافظين الحاكم حول ضرورة تحسين العلاقات التجارية مع أوروبا لوقف الخسائر. كما أن قضية الهجرة إلى بريطانيا ما زالت تشكل هاجساً قوياً للحكومة والمواطنين على السواء. كل ذلك إضافة إلى الكلفة المالية لـ"بريكست" التي تتحملها بريطانيا، بما بين 40 مليار جنيه استرليني (50 مليار دولار) و60 مليار جنيه استرليني (75 مليار دولار)، بحسب التقديرات المختلفة.
خسائر التجارة
في نهاية العام الأول من "بريكست" كلفت صحيفة "اندبندنت" مجموعة من الاقتصاديين الأكاديميين في مرصد السياسات التجارية البريطانية بجامعة "ساسكس" بإعداد دراسة عن حساب عام من "بريكست". وخلص الباحثون إلى أن كل اتفاقات التجارة الحرة التي أبرمتها بريطانيا بعد "بريكست" لا تعادل أكثر مما بين نسبة 0.01 و0.02 في المئة من النتاج المحلي الإجمالي البريطاني على مدى الـ15 عاماً المقبلة، بينما قدرت الحكومة البريطانية نفسها الخسائر نتيجة "بريكست" بنسبة أربعة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة نفسها.
وهكذا، تكون خسائر بريطانيا من "بريكست" أكبر 187 مرة من مكاسبها من اتفاقات التجارة الحرة التي أبرمتها وهي خارج الاتحاد الأوروبي.
وأشار التحليل الخاص بـ"اندبندنت" الذي نشرته مطلع ديسمبر (كانون الأول) 2021 إلى أن غالبية تلك الاتفاقات ليست سوى شروط وبنود مماثلة لما كانت تتمتع به بريطانيا وهي ضمن أوروبا. وكتب كبير الاقتصاديين الذين أعدوا التحليل، البروفيسور ل آلان وينتر، عن تلك الاتفاقات قائلاً "إنها لا تضيف شيئاً إلى التجارة البريطانية، لأنها ليست حتى نسخاً (جيدة) من اتفاقات تلك الدول مع الاتحاد الأوروبي".
المصالح البريطانية
وكانت بريطانيا قد توصلت خلال العام الأول من "بريكست" إلى اتفاقات تجارة حرة مع عدد من شركائها التجاريين مثل اليابان وأستراليا ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية وفيتنام وسنغافوة، لكن الاتفاق الأهم الذي كانت تسعى إلى إتمامه بسرعة هو مع الولايات المتحدة الأميركية، إلا أن الجدل في شأن إيرلندا الشمالية عطل ذلك إلى أجل غير مسمى. ومنذ خروج بوريس جونسون من الحكم، في صيف العام الماضي، بدأ المسؤولون في حكومته يتحدثون علناً عن أن بعض تلك الاتفاقات كان سيئاً وضاراً بالمصالح البريطانية. وبعد عام من "بريكست"، بحسب أرقام صدرت العام الماضي، هبط حجم الصادرات البريطانية للخارج بنسبة 14 في المئة في فترة الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2022 مقارنة مع الفترة نفسها عام 2020، أي قبل أزمة وباء كورونا وقبل خروج بريطانيا رسمياً من الاتحاد الأوروبي، وذلك طبقاً للمكتب الهولندي لتحليل السياسات الاقتصادية الذي ينشر دورياً مؤشر التجارة العالمية المعروف اختصاراً باسم "سي بي بي". وجاء التراجع الكبير في الصادرات البريطانية في الوقت الذي ارتفعت فيه الصادرات عالمياً بنسبة 8.2 في المئة في الفترة نفسها، أي الأشهر من يناير (كانون الثاني) إلى مارس (آذار) 2022.
وأظهرت نتائج المؤشر أن بريطانيا أصبحت أسوأ بلد في تراجع معدلات التجارة الخارجية من بين البلدان التي يشملها مؤشر "سي بي بي"، إذ يتراجع أداؤها على المدى الطويل، وأنها الدولة الوحيدة على المؤشر التي ظلت صادراتها أقل من معدلات الصادرات لأكثر من عقد من الزمن، أي أقل من معدلات عام 2010.
وفي آخر ميزانية له يعلنها أمام البرلمان وهو وزير للخزانة في حكومة بوريس جونسون، حاول ريشي سوناك (رئيس الوزراء الحالي) الإيحاء بأن "بريكست" مكن بريطانيا من اتخاذ قراراتها السيادية في ما يتعلق بالاقتصاد بالشكل الذي يجعل وضعها أفضل، لكن تحليل ما قدمته الميزانية من دعم للأسر البريطانية في مقابل زيادة الضرائب وعدم تخفيف أعباء كلفة المعيشة بالقدر الكافي جعل كثيراً من المحللين والاقتصاديين وقتها، وفي ما بعد، لا يقبلون بأن "بريكست" كان أفضل للبريطانيين.
وفي العام الماضي، قال جوناثان بورتس أستاذ الاقتصاد في "كنغز كوليدج" بلندن في مقابلة مع "فايننشيال تايمز"، "في الوقت الذي شهدت فيه غالبية الاقتصادات المتقدمة تعافياً قوياً في التجارة الخارجية، ظلت الصادرات البريطانية أقل من معدلاتها التي كانت قبل وباء كورونا، ومنذ تم التوصل إلى اتفاق (بريكست)، يتراجع حجم التجارة لأسباب عدة". وإن كانت الدراسات تركز أكثر على التراجع بسبب الحواجز التجارية الناجمة عن اختلاف المعايير والمواصفات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي الذي يفرض قيوداً صارمة على معايير السلامة والأمان الصحي للمنتجات. وأشار جون سبرينغفورد نائب مدير مركز الإصلاح الاقتصادي الأوروبي إلى أن "هناك بعض الخلافات بين الاقتصاديين حول مدى تأثير قيود المعايير والمواصفات في خفض حجم التجارة البريطانية، لكن الجميع يتفقون على أن ذلك جعل الاقتصاد البريطاني أكثر انغلاقاً".
مشكلة الهجرة
والقضية الأخرى التي كانت ضمن شعارات أنصار "بريكست" في استفتاء عام 2016، وتم اختبارها في العام الأول، بعد مسألة اتفاقات التجارة و"تولي بريطانيا زمام أمورها بنفسها"، هي قضية الهجرة. وكان حشد نصف البريطانيين للتصويت لصالح "بريكست" قبل خمس سنوات قد اعتمد على إثارة مشكلة الهجرة إلى بريطانيا وكيف أن "هؤلاء المهاجرين يأخذون وظائف البريطانيين".
وحين تفاقمت أزمة محطات البنزين بنهاية صيف العام قبل الماضي، واصطفاف الطوابير الطويلة من السيارات أمام المحطات، أفاق البريطانيون على أن السبب الرئيس في نقص سائقي الشاحنات هو رحيل نحو 24 ألف سائق من أوروبا عن بريطانيا مع "بريكست". ولم تفلح محاولة الحكومة تعديل قوانين الهجرة والتأشيرات في جلب السائقين أو عمال الزراعة الموسميين في ظل النقص الشديد الذي واجهته بريطانيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ليس هذا فحسب، بل إن كوارث غرق العشرات من المهاجرين بشكل غير شرعي في حوادث القوارب بين فرنسا وبريطانيا كانت جرس إنذار حول زيادة أعداد المهاجرين بطرق غير رسمية. وتشددت فرنسا، وخلفها كل دول الاتخاد الأوروبي، في عدم الاستجابة لطلب بريطانيا لحماية حدودها البحرية من موجات الهجرة تلك التي زادت بقوة بعد "بريكست".
أما الاتفاق الموقت لحدود الصيد ضمن اتفاق "بريكست" فكان سبباً في اندلاع أزمة مرتين مع فرنسا، كادت إحداهما تتحول إلى مناوشة عسكرية حين أغلق الصيادون الفرنسيون في مايو (أيار) من ذلك العام ميناء جزيرة "جيرسي" البريطانية احتجاجاً على عدم منحهم تصاريح صيد بعد "بريكست". وتكرر الأمر قرب نهاية العام حين احتجزت السلطات الفرنسية قارب صيد بريطانياً في أحد موانئها.
مستقبل التجارة
أما القطاع الذي كان أكثر تأثراً في العام الأول لـ"بريكست"، ويتوقع أن يستمر كذلك حتى يتم التوصل لاتفاقات نهائية في شأنه، فهو القطاع المالي. وخلال مفاوضات "بريكست" في عام 2020 اشتكى رجال المال والأعمال من أن تلك المفاوضات أهملت تماماً القطاع المالي ضمن الاتفاق، وخسر حي المال والأعمال "سيتي أوف لندن" في العاصمة البريطانية قدراً كبيراً من نشاط المصارف والمؤسسات المالية الدولية التي كانت تتعامل في أوروبا من لندن بحرية قبل "بريكست". وكان ذلك لصالح أسواق أوروبية مثل أمستردام وباريس وفرانكفورت.
ويشير مكتب مسؤولية الميزانية في تقريره هذا الأسبوع إلى أنه "لن تكون أي من اتفاقات التجارة الحرة الجديدة ولا التغييرات التي تمت حتى الآن في القواعد واللوائح المنظمة للأعمال كافية" لتعديل توقعات المكتب بالنسبة لمستقبل التجارة الخارجية البريطانية. وخلص تقرير المكتب الحكومي إلى أن "بريكست" سيجعل إجمالي الصادرات والواردات البريطانية يهبط بنسبة 15 في المئة مقارنة مع معدلات التجارة لو ظلت بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، قال عضو لجنة السياسات النقدية في بنك "إنجلترا" (المركزي البريطاني) مايكل سوندرز، إن "بريكست" "قلل من مدى انفتاح الاقتصاد، بخاصة في ما يتعلق بالتجارة وانسياب العمالة"، وأن ذلك أضعف القدرة على تفادي الضغط على السعة الإنتاجية من خلال الواردات والهجرة.