لسنا ندري ما الذي كان يمكن أن يكون عليه رد فعل سيد الرواية الروسية في القرن التاسع عشر ليو تولستوي لو قرأ مذكرات آنا زوجة زميله سيد تلك الرواية الآخر فيودور دوستويفسكي، هل تراه كان سيشعر بالغيرة إزاء كل ذلك الحنان الذي وصفت به دوستويفسكايا علاقتها بصاحب "الجريمة والعقاب" و"الإخوة كارامازوف" والسعادة التي سادت بين هذين الزوجين، ليقارن ذلك بالتعاسة التي يفترض هو أنه عاشها مع زوجته صوفيا؟ فالحال أن حرباً شعواء عرفتها علاقة صاحب "آنا كارنينا" و"الحرب والسلم" بزوجته في تناقض تام مع علاقة الزوجين الآخرين، بل إن تلك العلاقة التي دمرت السنوات الأخيرة من حياة تولستوي إذ دمرت حياتهما، تجاوزت كل أنواع السلاح لتجعل السلاح المستخدم فيها أكثر فتكاً وإذلالاً، فالسلاح هنا كان سلاح الكلمة، حيث أن صوفيا آثرت ألا تستعمل أغراض المطبخ لترشق بها زوجها، كما يقول معلق ظريف، بل لجأت إلى سلاح تولستوي نفسه، إلى الكتابة، وهكذا أصدرت ذات يوم رواية عنونتها "من المخطئ؟" ومن الواضح أنها رواية شديدة الذاتية آثرت من خلالها أن تروي للعالم حكايتها، وأن تفضح الزوج وما يفعله بها.
البادئ أظلم
والواقع أن تولستوي كان هو البادئ، و"البادئ أظلم" كما يقول المثل، بل كان هو من اختار السلاح الذي سيكون قاتلاً في يد الزوجين بعدما جرباه: كتابة الرواية ونشر غسيل بيتهما على الملأ. والحكاية تبدأ على أية حال حين قيض للأديب الكبير أن يستمع ذات يوم من عام 1887 إلى قطعة بيتهوفن الرائعة "سوناتا كرويتزر"، ومن فوره شرع يكتب واحدة من أقوى قصصه محملاً إياها عنوان قطعة الموسيقي الألماني الكبير، نفسه، ولكن إذا كانت سوناتا بيتهوفن قد أبدعت في تصوير مناخ رومانطيقي مدهش، فإن "سوناتا تولستوي" ماثلتها إبداعاً، ولكن في مجال تقديم مرافعة بالغة القسوة ضد الحياة الزوجية، وحين قرأت صوفيا تلك القصة العنيفة التي كتبها زوجها، جن جنونها وما إن انقضى عام على صدور "سوناتا كرويتزر" تولستوي حتى كانت صوفيا تولستويا تنشر قصة بقلمها عنونتها "من المخطئ؟"، واندلعت الحرب الضروس بين الزوجين فيما راح القراء الذين غضوا النظر عن الفارق في القوة والأسلوب بين ليون وصوفيا، راحوا يتابعون سير المعارك ويعدون النقاط، فمن الذي سجل بينهما العدد الأكبر من تلك النقاط؟ لا يهم، المهم في الأمر أن تلك كانت البداية، المتوقعة منذ زمن على أية حال، لتلك السنوات الأخيرة التي تحول فيها البيت إلى جحيم، والمحزن أن شرارة نار الجحيم التهبت من خلال واحدة من أجمل السوناتات في تاريخ هذا الفن.
بين الرجل والمراة
والحقيقة أن الزوجين تولستوي لم يكونا أبداً على وفاق منذ البداية، ولعل السبب الأساسي في ذلك يكمن في تفاقم مواقف ليون تولستوي نفسه من الحياة الزوجية باعتبارها "مقبرة الحب" والحاجز الذي يقف في وجه... الرجل ويحول بينه وبين حريته وتحقيقه أهدافه النبيلة، ونعرف طبعاً أن هذا الموقف كان من شأنه في أيامنا هذه أن يثير غضب كل نساء الأرض على مؤلف "آنا كارنينا" الذي كان قد بدأ يعتبر في استعارة بينة من التوراة أن "المرأة ليس لها من عمل سوى إغواء الرجل لتوقعه في الفخ وبعد ذلك تمضي حياتها تشكو منه وتتشكى عليه في وقت تغوص في محاولاتها الكأداء للسيطرة عليه".
والحقيقة أن هذا الكلام لم يقله ليون لصوفيا، لكنه أورده في سياق ما يرويه بوزنيتشيف الشخصية المحورية في قصة "سوناتا كرويتزر" التي كانت عود الكبريت الذي أشعل المعركة إيذاناً بانلاع الحرب، فما حكاية بوزنيتشيف هذا؟.
منذ البداية لا بد من أن نشير إلى أن حكاية هذا الزوج الروسي القاتل كما سوف نرى، لا علاقة مباشرة لها بموسيقى بيتهوفن، وإن كانت ذات علاقة ولو مواربة بما يحيط بالقطعة الموسيقية ما مكن تولستوي من إيجاد الرابط الذي جعل "سوناتا كرويتزر" مصدر إلهامه وموضوع قصته في الوقت نفسه وعنوانها.
بين الجنس والعاطفة
حكاية بوزنيتشيف التي يرويها هذا بنفسه، هي حكاية زواجه من الحسناء المشعة، حسب تعبيره، ليز التي تبدأ معاناته معها حين يكتشف ذات يوم أن علاقته بها ليست سوى علاقة جسدية، وذات مساء حين يكون عائداً من سفر يفاجأ بأن زوجته تتناول العشاء مع عازف كمان، وهنا على الفور من دون أن يفكر طويلاً في الأمر، يستل خنجراً يقضي به على زوجته بكل وحشية، إنها مأساة الغيرة سيقول الرجل لسامعيه، لكن المؤسي أكثر من ذلك هو أنها مأساة الزواج نفسه، مؤسسة الزواج التي من الواضح أنها هي الهدف الذي يصوب عليه تولستوي من خلال الشخصية الأساسية في قصته، التي من الواضح بالتالي أنه ما كتب هذه القصة إلا لكي يعلن فشل تلك المؤسسة التي يكون من أول ما تفعله هو أنها تقضي على الحب الذي كان قائماً بين الزوجين، أو يمكن أن يقوم لو أن الزواج لم يأت "تتويجاً له".
ومن هنا ها هو تولستوي يعلن من خلال القصة أن الزواج إنما هو الفخ الذي ينصب للزوج فيقع فيه، وقد أغراه أول الأمر إحساسه بأن زوجته تلبي رغباته، لكنه سرعان ما يتنبه إلى أن من سيغيب عن تلك العلاقة مذّاك وصاعداً إنما هو الشيء الذي كان قد بدا أبدياً في نهاية الأمر بشقيه كعلاقة عاطفية وعلاقة فكرية بين الزوجين.
الخديعة الكبيرة
ومن هنا ما يعلنه تولستوي على لسان بطله من أن ما يحدث هو في حقيقة الأمر أنه ما إن يعتقد الزوج والزوجة أنهما في طريقهما ليعيشا معاً بقية أيام وسنوت عمرهما، يفهمان الفخ الذي أُطبق عليهما وينتقلان منذ الشهر التالي لذلك الاكتشاف من الحب ومن قبول الواحد منهما بآخر إلى كراهية واحدهما للآخر، ولكن يكون قد فات الأوان، فهما الآن مجبران على أن يتعايشا كيفما اتفق. ويكونان معاً في قلب ذلك الجحيم الذي لا مهرب منه إلا من طريق رصاصة لا بد أن تطلق إما على رأس صاحب المسدس وإما على رأس الشريك الآخر"، ويختم الرجل مرافعته أمام من روى لهم حكايته قائلاً "يجب أن تفهموا جميعاً أن الرجل لا يمكنه أن يحقق، أي هدف يليق بإنسانيته، سواء لخدمة البشرية أو الوطن أو الفن أو العلم، وهو غارق في فخ الحب سواء كان حباً زوجياً أو غير زوجي، بل على العكس حتى لو أغضبت بكلامي هذا كل الشعراء والرومانطيقيين، على العكس لأن التجربة تعلمنا أن كل الجاذبية الجنسية وكل ارتباط بالكائن الحبيب، ليس من شأنه إلا أن يقف سداً في وجه أية محاولة لإنجاز الرجل أية مهمة نبيلة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الرد تمهيدا لمصالحة لاحقة
بالنسبة إلى صوفيا، كان من الواضح أن كل هذا الكلام ليس موجهاً إلى عامة القراء، ولا يقوله ذلك المدعو بوزنيتشيف من تلقائه، بل هو كلام من زوجها نفسه موجهاً إليها هي بالتحديد، ومن هنا ستخبرنا في مذكراتها أنها على الفور أحست بعمق الجرح الذي نتج لديها من هذا الهجوم الساحق على كرامتها، من خلال الهجوم عى كرامة كل امرأة في هذا العالم، بالتالي نراها وقد سارعت إلى كتابة روايتها وعنونتها "من المخطئ" لتروي فيها حكاية آنا التي بعد أن تزوجت أمير أحلام حقيقي اكتشفت كيف أنه حول علاقته بها إلى علاقة "حيوانية" على الضد مما كانت تتطلع إليه من ديمومة علاقة روحية وفكرية بينهما، موضحة أن الرجل يطلب العلاقة الجسدية في المقام الأول أما المرأة فتتطلع إلى العلاقة المثالية حتى ولو حولها ذلك إلى خادمة في بيتهما تنجب ثلاثة عشر ابناً وبنتاً كحالتها، راضية بأن تكون، كما حال كل النساء "خادمة لكل طفل من أطفالها وخادمة لزوجها راضية بنزواته...". ولعل الطريف في الحكاية كلها بعد كل شيء أن معظم الناشرين يصدرون النصين اليوم في كتاب واحد وكأن مصالحة ما قد تمت بعد قرن وثلث القرن، على الورق في الأقل بين موقفين مختلفين جذرياً.