متى استمعت إلى جلسات من ورشة مناقشة اتفاق سلام جوبا (أكتوبر/ تشرين الأول 2020)، التي انعقدت في الأسبوع الماضي لاستكمال عدة الاتفاق الإطاري بين قوى الحرية والتغيير (المركزي) وأحلافه من جهة، وبين العسكريين من جهة أخرى في ديسمبر (كانون الأول) 2022، لسألت: ما الفكرة منها؟ ويزداد السؤال إلحاحاً متى علمنا خروج حركة "العدل والمساواة" و"جيش تحرير السودان - مني مناوي"، من الأطراف الموقعة على الاتفاقية، واعتزالهما الورشة جملة وتفصيلاً لأنهما يريان أنه، إذا عبثنا بعبارة مألوفة، "تقييم من لا يملك لمن يستحق". وحتى "الجبهة الثورية"، الطرف الثالث في "اتفاق جوبا" من جهة الحركات المسلحة، جاءت تجرجر رجليها لتقييم الاتفاق، لتصرح بأنه لا تعديل للاتفاق، ولا لإلغائه الذي يلوح به البعض مثل الحزب الشيوعي.
ليس واضحاً من هذه الورشة إن كنا بصدد محاكمة "اتفاق جوبا"، ناظرين إلى سوء طرف الحركات المسلحة بخذلانها الثورة، حين رمت بثقلها مع العسكريين، بما في ذلك الوقوف مع انقلاب 25 أكتوبر 2021. علاوة على الاعتقاد السائد بأنها أساءت استخدام السلطات التي وفرها لها الاتفاق. أم هل نحن بصدد التعاطي مع الاتفاق كعثرة حوكمية نريد تشخيصها، والكشف عن عللها، وأسباب علاجها؟
عرض حسان نصر الدين لصورة الحكم ومستوياته واختصاصاته في اتفاقية جوبا، عرضاً حسناً من واقع خبرته كعضو على مائدة التفاوض. وربما كان حسان من القلة التي استصحبت نص الاتفاق في تقييمها له. فبلغ إهمال النص حداً صاحت به مقررة لإحدى الجلسات في الحضور: "من قرأ وثيقة الاتفاق؟ ارفع يدك"، ولكن نصر الدين عطل الحكم على الاتفاق، وبخل بوضع يده على ما ينبغي تصحيحه من وجهاته ومواده.
هذا الامتناع عن الحكم على الاتفاق أثر على نصر الدين من جهة ثقافة المؤسسة (corporation) التي لا يجرؤ الواحد منها على نقد حصائد يديه. فتجده يتعلل دون ذلك بمعاذير. فعطل الحكم، في قوله، "لأن الاتفاق لم يجد حظه من التنفيذ". وعليه يكون تقييمه، والحال هذه، ضرباً من الحدس. وقال في هذا المعنى إن هناك اتفاقات رديئة يرفعها التطبيق الجيد لها، وهناك اتفاقات حسنة يفسدها التطبيق البائس لها. ومع ذلك لمح إلى مسؤولية الحركات المسلحة في ما انتهى إليه الاتفاق من بؤس مشاهد في ما جرى تطبيقه منه.
ود المرء لو رأى حسان نصر الدين عواراً في الاتفاق استحق الوقوف عنده في مثل هذه الورشة والتوصية بتقويمه. فاتفق لكثير من الناس مثلاً أن ضم حلفاء الحركات المسلحة، من الجماعات المدنية التي لم ترفع السلاح في الاتفاق، ونيلها منه بمكاسب لمناطقها، عرفت بـ"المسارات"، خطأ جسيم. ويكفي للتدليل على هذا الخطأ وقوف قسم كبير من شعب شرق السودان ضد "مسار الشرق" الذي أثار الفتنة بين أهله وضرجهم جفوة ودماً. وتوقف نصر الدين مع ذلك عند عيب المسارات وتجاوزه. فقال إنه ترتب على دخولها، وهي زائدة سياسية كما رأينا، تناقضات. فثار جدل، بحسب قوله، على مائدة التفاوض بين من رأوا أن يبدأ النقاش بالمسارات وبين من مالوا إلى البدء بالقضايا القومية، ثم استقر التفاوض على البدء بالمسارات قبل القضايا القومية. وكانت النتيجة تطابق بعض الأحكام في المقامين بصورة مربكة. ولم يفصل حسان نصر الدين في أمر هذا الازدواج المخل.
وطريق حسان الأخرى لثقافة المؤسسة وتعطيل الحكم على الاتفاق، هي التذرع بعدم قيام المؤتمر القومي لنظام الحكم. وهو مؤتمر تقرر أن ينعقد بعد ستة أشهر من توقيع الاتفاق، ولكنه لم يجتمع إلى يومنا، وكان اتفاق السلام قد أحال إليه مسائل كبيرة لم يتمكن هو من حلها. وتركوا للمؤتمر تحديد سلطات مستويات الحكم المختلفة، بل كلفوه مناقشة مسألة الحكم المحلي كلها للمؤتمر، ناهيك بأن مادة إنشائه في نص الاتفاق مربكة، إذ ورد قيام المؤتمر في موضعين منه. ونشأ من ذلك إشكال: بأي صلاحية من الموضعين يكون العمل؟
وبدا من مساهمة حسان نصر الدين أنه لم يكن مقدراً أن تقوم لنظم الحكم وسلطاتها في "اتفاق جوبا" قائمة من دون مؤتمر الحكم القومي. وهذه إحالة عصيبة ترهن حياة اتفاق بهذا الخطر القومي وموته بمؤتمر لاحق له. فكأن الاتفاق نيئاً في انتظار أن ينضج بنار بعده. وهذا ما نقول عنه النيئ للنار.
وللمرء، من جهة أخرى، أن يسأل أيضاً ما الفكرة من وراء انعقاد ورشة للتنوع وإدارته على ضوء "اتفاق جوبا" الذي خاطب هذه المسألة فأوفى وكفى، كما سنرى. وصح السؤال بشكل خاص لأن الورشة لم تزد على إعادة إنتاج خطاب المظلومية القومية (هامش بوجه مركز)، في حضرة اتفاق لا أعرف مثله رد هذه المظلومية بشكل محيط، إذا لم نقل مبالغاً فيه. فوجدت الباقر العفيف، من مفكري الهوية السودانية، والناشط في خدمتها، عرض هذه المظلومية بحذافيرها في الورشة. ولم يكترث مع ذلك ليرى إن كان اتفاق جوبا قد رفعها عن أعراق السودانيين المختلفة وألسنتهم.
فسأل العفيف في الورشة عما وراء هذه الحرب الطويلة التي ابتلينا بها؟ ورد ذلك إلى رفض المركز، الذي تقلدته طواقم من الشمال العربي المسلم منذ استقلال السودان في عام 1956، التصالح مع الأعراق والثقافات غير العربية والإسلامية. وهذا فشل في إدارة التنوع وذو عواقب وخيمة. وعلى رغم أن عروبة هذا الطاقم، في قوله، مجرد زعم، فإنه فشل في توطين نفسه في السودان، وبين أقوام مختلفة في الأعراق والثقافة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فمن جوانب ترفعهم عن غيرهم في الوطن، جعل تاريخ السودان في المناهج يبدأ بدخول العرب والإسلام إلى البلاد في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين، مسقطين تاريخاً جللاً سبق ذلك الدخول، وهو تاريخ دولة كوش (2500 إلى 542 قبل الميلاد)، العامر المذهل، وهو التاريخ، بحسب آخر اكتشافات الآثار، الأصلي للحضارة المصرية. ومع ذلك، في قول العفيف، "يطبق الجهل بتلك المأثرة علينا"، فمتى سأل الصبيان أهلهم عن صناع الآثار الكوشية التي يغشونها في قراهم، قالوا لهم هي لقوم أقدمين سبقونا إلى المكان ثم غادروا ولم يسمع منهم أحد بعد. ودعا العفيف، ناظراً إلى التجربة الإنجليزية، إلى أن يكون تدريس الماضي السوداني على بينة "تواريخ"، أي إن هناك أكثر من تاريخ للسودان، لا تاريخاً عربياً إسلامياً وحيد الجانب.
ولو كان الباقر نظر في "اتفاق جوبا" لوجده مهجساً بالتنوع الثقافي وإدارته كما لم يهجس عهد سوداني سبقه. فورد في الاتفاق أن المواطنة المنقاة من العرق والدين والثقافة والجنس واللون والنوع والوضع الاجتماعي والاقتصادي والرأي السياسي والإعاقة والانتماء الجهوي، أو غيرها من الأسباب، هي الفيصل في التشريع.
وكررت وثيقة الاتفاق هذه الصيغة بصور مختلفة في أبوابها الثلاثة جميعاً: اتفاق القضايا المصيرية، ومسار دارفور، ومسار مناطق جبال النوبة والنيل الأزرق وغرب كردفان. فجاء في المادة 7.1 من اتفاق القضايا القومية من وثيقة جوبا وجوب "الفصل التام بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدين في السياسة. ووقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان وكريم المعتقدات على أن يضمن ذلك في دستور البلاد وقوانينها".
ولاقى "اتفاق جوبا" تظلم العفيف من "تاريخنا وحيد الصورة"، مشمراً كما لا تنتظره من اتفاق سياسي. فجاء في الفصل الثالث منه تكريس حق سكان المنطقتين، جبال النوبة والنيل الأزرق، بالمشاركة في إعادة كتابة تاريخ السودان بهدف تبيان مساهمات سائر شعوب البلاد في ترسيخ الوحدة الوطنية. وكفل للمنطقتين إنشاء آليات لغرض تنزيل هذا الحق بالتكامل مع المؤسسات القومية. وخص في فقرة تالية دراسة الرق بموضوعية، كتاريخ للتغابن في الأمة. وهذا استحقاق للتاريخ في موضع غريب.
لا يدري المرء، ناظراً إلى هذا العرض لحلقتين مركزيتين في ورشة النقاش تلك، كيف ستخدم مخرجاتهما مراجعة اتفاق جوبا الخلافي، فقد ساء الاتفاق في نظر كثيرين حتى طالبوا بإلغائه بجرة قلم. وزاد تعلق الحركات الموقعة عليه حتى هددت بالعودة إلى الحرب إذا مسته هذه الورشة بسوء. ولا جدال في أن الإلغاء قفزة في الظلام. وتهديد المسلحين بالعودة إلى مربع الحرب هراء. فالفضل في ما نالوه من الاتفاق راجع إلى ثورة مدنية جاءت بينما هم في أضعف حالاتهم في ميدان الحرب.
من بين كل خيارات الورشة نفعاً، كان خيار معالجة الاتفاق كعثرة حوكمية في طريق الفترة الانتقالية، هو الأذكى. وأفضل السبل لذلك أن يسبق انعقادها توفر متخصصين على دراسة تحيط بالاتفاق من كل جوانبه نصاً وتطبيقاً لبيان ما يبقى منه وما لا يبقى. وتكون هذه الدراسة بمثابة حجة لإجراء التعديل على الاتفاق. والمطلب هنا هو كسب العقول للتعديل بالحسنى حتى بين الحركات الموقعة المتعصبة دون المساس بالاتفاق. فإن لم ترض بالتعديل من فوق الحجة قبلته تحت ضغط الرأي العام الذي سعينا مخلصين إلى إشراكه في نازلة من نازلات الوطن والثورة.
ومما يقوي العقيدة في كسب العقول لهذا للاتفاق أن من بين إشراقات الورشة التي تأسرك حقاً، النقاش الحميم لأوراقها الذي أزهر من شباب جاء من كل فج في البلد. كان حسهم بالسودان والنازلة مسؤولاً مهما قلت عن حججهم. كانوا حيث ينبغي لهم. وكانوا يعلمون ذلك.