حركت #الحرب الروسية - الأوكرانية المستمرة مياه الشك الراكدة لدى صانعي السياسة وفي أوساط عامة الناس في كوريا الجنوبية، إذ بدا جلياً لهم، كما للعالم، أنه كي تتجنب الولايات المتحدة نشوب حرب نووية، لن تخطو خطوة عسكرية مباشرة ضد الدول المسلحة نووياً، من بينها روسيا في هذه الحالة، ذلك أنه منذ المرحلة المبكرة من #الهجوم الروسي في 2022، استبعد الرئيس الأميركي جو بايدن خيار التدخل العسكري الأميركي في أوكرانيا.
عرّت هذه الحرب ثقوب "المظلة النووية" الأميركية التي لم تعد تكفي لطمأنة نفوس الكوريين الجنوبيين. أليس صحيحاً أن رئيس الولايات المتحدة يتغير كل أربع أو ثماني سنوات، وأن الأجندات السياسية في تغير مستمر. مثلاً، لم يتردد دونالد ترمب، الرئيس الأميركي السابق، في إبداء رغبته في سحب 28 ألفاً و500 جندي أميركي من كوريا الجنوبية، مشيراً إلى التكلفة التي ينطوي عليها توفير الولايات المتحدة الحماية لهذه البلاد، ومتسائلاً عن السبب الذي يدعوها إلى تقديم هذه الحماية أصلاً. ترمب نفسه سبق أن أعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية عام 2024.
عليه، حتى لو أن إدارة بايدن أعربت عن كل ما من شأنه طمأنة كوريا الجنوبية، على صانعي السياسة أن يحتسبوا إمكانية انتخاب الولايات المتحدة مرة أخرى إدارة ذات نهج مختلف بالنسبة إلى كوريا الجنوبية مناوئ لضمان أمنها.
وبغض النظر عن الرئيس وإدارته، الولايات المتحدة دولة ديمقراطية، لذا دائماً ما يتأرجح الرأي العام المحلي، ولا يخفى على أحد أن الكونغرس الأميركي يتأثر كثيراً بالرأي العام.
وإذا افترضنا أن الحرب بين الكوريتين قد وقعت، وأن الولايات المتحدة هبت للمساعدة، ما الأشكال التي ستتخذها هذه المساعدة؟ في الحقيقة، غني عن القول إن أي احتمال يذكر بتوجيه ضربة نووية انتقامية إلى الأراضي الأميركية، سيقدم لواشنطن على طبق من ذهب سبباً مقنعاً للحد من مشاركتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعليه، ليس مستهجناً أن تترك الحرب في أوكرانيا إحساساً لدى كوريا الجنوبية بالشك تجاه سياسة الولايات المتحدة غير المضطرة، كما يحلو للبعض القول، إلى التضحية بأرواح أبنائها دفاعاً عن دول أخرى، وشعوراً بالضعف الذاتي. فهي دولة غير نووية لا تنفك جارتها الشمالية تستعرض عضلاتها "النووية" في كل مناسبة، فيما زعيمها لا يكفيه أن يصور نفسه دكتاتوراً آمراً ناهياً لا ينازعه على السلطة أحد، بل يريد لجيشه أن يكون وحشاً برؤوس نووية تكتيكية وأطراف صاروخية عابرة للقارات. وقد عقد كيم يونغ أون قبل أيام اجتماعاً للجنة العسكرية المركزية لحزب العمال الحاكم، شجع فيه القوات المسلحة على تحقيق "انتصارات دائمة"، وامتلاك "قوة عسكرية لا نظير لها"، مكرراً خطابه لتحقيق زيادة كبيرة في الترسانة النووية، وإنتاج ضخم للأسلحة النووية التكتيكية.
إزاء كل تلك الحقائق، أليس الأجدر بكوريا الجنوبية أن تمتلك أسلحتها النووية، لتتولى الرد على أي هجوم محتمل من كوريا الشمالية في وقت لا تملك أميركا أي سبب للتدخل والذود عنها؟
في مقالهما في "واشنطن بوست"، تؤكد ميشيل يي هي لي ومين جو كيم بالأرقام والشواهد هذا التحول في الرأي العام الكوري الجنوبي الذي صار أكثر تأييداً لامتلاك أسلحة نووية، وهو مزاج سائد الآن بعدما كان ذات يوم هامشياً. ومع تهديد كوريا الشمالية بضرب الجنوب بأسلحة نووية وغياب أي مؤشر على العودة إلى محادثات نزع السلاح النووي، تعرض الكاتبتان آراء خبراء في ما إذا كان ما زال يسع الكوريون الجنوبيون الوثوق بالولايات المتحدة لحمايتهم في حال نشوب حرب في شبه الجزيرة.
إنه المشهد الجيوسياسي المتغير حول كوريا الجنوبية، والعدد غير المسبوق من إطلاق الصواريخ الكورية الشمالية، وصدمة التلويح بالسيوف النووية الروسية، والمخاوف المتزايدة من أن الصين ستغزو تايوان، ما دفع أبناء كوريا الجنوبية إلى التمعن بهدوء وواقعية في اعتمادهم الأمني على الولايات المتحدة.
ولكن لما كانت قد وقعت على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، فإن كوريا الجنوبية، كما تشرح الكاتبتان، ممنوعة من تطوير أسلحة نووية أو حيازتها. وما زالت هذه البلاد تحت حماية المظلة النووية الأميركية، التي تضمن استخدام الولايات المتحدة أسلحتها النووية لحماية كوريا الجنوبية إذا لزم الأمر، في التزام أميركي بحماية الحلفاء يسمى "الردع الموسع".
ولكن، كما تحدثنا سابقاً، تمس الحاجة الآن إلى النظر من كثب في مصداقية هذا التدبير مجدداً. ويتساءل بعض المحللين الكوريين الجنوبيين: هل ستنشر الولايات المتحدة حقاً ترسانتها النووية في سبيل حماية كوريا الجنوبية؟ وهل ستفعل ذلك حتى أثناء الغزو الروسي لأوكرانيا، أو الغزو الصيني لتايوان؟
"صحيح أن كوريا الجنوبية، سعت في الماضي إلى الحصول على تأكيدات بالحماية من الولايات المتحدة... غير أن المناقشات الحالية مختلفة بسبب التغيرات الجذرية في بيئة التهديد" والظروف المحيطة بكوريا الجنوبية"، كما نقلت "واشنطن بوست" عن إس بول تشوي، مدير مدرسة مجموعة "ستراتوايز" الاستشارية ومقرها سيول، وضابط سابق في الجيش الكوري الجنوبي.
ويقول تشوي إن مخاطر اندلاع الصراع في أماكن متعددة في وقت واحد، كما الحال في أوروبا وشرق آسيا أو في أكثر من بلد بمنطقة شرق آسيا، "تثير مخاوف بشأن قدرة الولايات المتحدة على الوفاء بالتزاماتها".
يسعى قادة كوريا الجنوبية إلى التعامل مع مترتبات هذا الخطاب العام، الذي اشتد في الشهر الماضي بعدما ذكر رئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول إمكانية التحول إلى برنامج نووي كخيار سياسي، على رغم أنه أشار إلى أنه غير واقعي. وتراجع في وقت لاحق عن التعليق قائلاً إنه "واثق تماماً من [فعالية] الردع الأميركي الموسع".
وأكد مسؤولون كوريون جنوبيون كثر من جديد ثقة البلاد في التحالف والتزامها بمعاهدة حظر الانتشار النووي. لكنهم يعترفون بالحاجة إلى تعزيز استجابة الحلفاء لكوريا الشمالية، ويقولون إن مناقشاتهم مع الولايات المتحدة تركز على كيفية تحديد هذه الأهداف وتحقيقها.
كذلك ينظر مسؤولون كوريون جنوبيون أيضاً إلى جهودهم الثلاثية مع الولايات المتحدة واليابان للرد على تهديد الشمال، من قبيل التدريبات وزيادة الاتصالات، على أنها طريقة أخرى للتغلب على الفجوة في المصداقية.
"امتلاك أسلحتنا النووية ليس خياراً واقعياً. حقيقة أن الشعب يريد ذلك تشكل انعكاساً لمخاوفهم الأمنية. نحن بحاجة إلى حوار بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة لتعزيز ثقة الرأي العام كي يشعر أن الردع الموسع ليس مجرد كلام"، يقول مسؤول كوري جنوبي كبير، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته.
والحق أن كوريا الشمالية تمضي قدماً في خطتها الخمسية للتطوير النووي، إذ تعهد الزعيم كيم جونغ أون "بزيادة هائلة" في ترسانتها هذا العام. في سبتمبر (أيلول) الماضي، تبنت كوريا الشمالية قانوناً أكثر عدوانية ينص على أنها تستطيع استخدام الأسلحة النووية "إذا حاولت أي قوة انتهاك المصالح الأساسية لدولتنا". كذلك تعكف كوريا الشمالية على تطوير أسلحة نووية تكتيكية ذات قدرة تفجيرية منخفضة قصيرة المدى، وموجهة نحو الجنوب.
وفي حديث مع ميشيل يي هي لي ومين جو كيم، قالت جينا كيم، خبيرة أمنية في "جامعة هانكوك للدراسات الخارجية" في سيول، إن "المخاوف الأمنية قد تعمقت في أوساط الشعب الكوري الجنوبي حيال الاندفاع الأخير لكوريا الشمالية في مجال تطوير الصواريخ القصيرة المدى والقدرات النووية التكتيكية، والتي يُنظر إليها على أنها تهديدات فورية". وتقول إنه مع التطور الذي تحققه كوريا الشمالية في طموحاتها النووية، على الحلفاء أيضاً تحسين جهودهم لردع بيونغ يانغ عبر الاستعداد لسيناريوهات محددة من الهجمات النووية.
أخيراً، التقى وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن ونظيره الكوري الجنوبي لي جونغ سوب في سيول لمناقشة السبل إلى إعادة تأكيد التزام الولايات المتحدة تجاه كوريا الجنوبية. وأعلنا في بيان مشترك إجراءات جديدة، من بينها تنفيذ تدريب محاكاة نووية الشهر الحالي، وتوسيع "مستوى وحجم" التدريبات المشتركة بين البلدين.
يقول تشوي إن كوريا الجنوبية تسعى إلى دور ومشاركة أكبر في جهود الردع، ليس فقط عبر التشاور بشأن السياسات بل أيضاً عبر المشاركة في وضع هذه السياسات وكيفية تصميم العمليات العسكرية المشتركة وتنفيذها.ويضيف أن صانعي السياسة في كوريا الجنوبية قلقون جداً من استخفاف قادة كوريا الشمالية والصين بتعهدات الولايات المتحدة والتزام الأخيرة الردع الموسع.
تذكيراً، خلال معظم فترات الحرب الباردة، نشرت الولايات المتحدة أسلحة نووية في كوريا الجنوبية. ثم، في 1991، بدأ الرئيس جورج بوش الأب سحب جميع الأسلحة النووية التكتيكية المنتشرة في الخارج. في 2016، ورد أن الرئيسة الكورية الجنوبية آنذاك بارك جيون هاي طلبت من الولايات المتحدة إعادة نشر الأسلحة التكتيكية، ولكن طلبها جوبه بالرفض.
وأظهرت استطلاعات رأي عامة على مدى العقد الماضي ارتفاعاً مطرداً في تأييد الكوريين الجنوبيين لحيازة بلادهم الطاقة النووية، يتراوح بين 60 وأكثر من 70 في المئة من السكان. وأظهر استطلاع جديد صدر أخيراً عن "معهد تشي للدراسات المتقدمة" ومقره سيول أن 76.6 في المئة من المشاركين البالغ عددهم 1000 شخص يؤيدون تطوير البلاد قدراتها الخاصة في الأسلحة النووية.
وقال مسؤول في إدارة بايدن، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، إن الولايات المتحدة كانت واضحة بأن وقوع أي هجوم نووي سيُقابل بـ"رد ساحق"، وأن صانعي السياسة الأميركيين يعتقدون أن الكوريين الجنوبيين يدركون "التكاليف والفوائد والمخاطر الهائلة" المترتبة على امتلاك أسلحتهم النووية.
تقول كيم، من "جامعة هانكوك"، إنه على رغم وجود دعم شعبي، لم نشهد نقاشاً كافياً حول الجوانب السلبية المحتملة لامتلاك الطاقة النووية. وتوضح أن سعي الجيش الكوري الجنوبي إلى امتلاك أسلحة نووية في انتهاك لمعاهدة حظر الانتشار النووي سيوجه ضربة أيضاً إلى الصناعة النووية المدنية في البلاد.
وفق جو ميونغ هيون، زميل باحث في "معهد آسان لدراسات السياسة" في سيول، لا تتعلق الضمانات في ردع الخصم إنما بجعل حلفاء الولايات المتحدة يشعرون بالحماية. وفي حين ليس في متناول الدولة الحليفة الكثير عسكرياً للحؤول دون إطلاق كوريا الشمالية الصواريخ والتجارب النووية، يسعها وينبغي عليها أن تتخذ خطوات وتدابير إضافية لتعزيز الضمانات."
في مقالهما، عرجت ميشيل يي هي لي ومين جو كيم على قرية [مشروع] الوحدة، الواقعة جنوب الحدود بين الكوريتين الجنوبية والشمالية، حيث الأجواء متوترة في المحيط منذ سنتين مع تكثيف كوريا الشمالية اختباراتها للصواريخ الباليستية. حتى أن طائرات "درون" مسيرة كورية شمالية تسللت إلى الحدود أخيراً.
"لقد حان الوقت لحيازة أسلحة نووية" يقول لي وان باي، الذي عاش طوال 50 عاماً في القرية، على بعد أميال عدة فقط جنوب خط ترسيم الحدود العسكرية الذي يمثل الحدود الرسمية بين الكوريتين.